الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واخيرا التقيت بها

نهاد عبد الستار رشيد

2011 / 11 / 15
الادب والفن


وأخيرا التقيت بها


قرأت مجموعتها الشعرية الأولى الموسومة ( اسود وأحمر ) التي صدرت عام 1944 ، ومجموعتها الثانية الصادرة عام 1949 تحت عنوان ( كالريح او السحاب) ، فاعجبت بقوة اسلوبها ، الا انني حين قرأت رائعتها الشعرية الموسومة ( هذه الرحلة ) التي صدرت عام 1956 ، واعتبرها النقاد من اكثر المجموعات الشعرية تأثيرا في مرحلة خمسينات القرن العشرين في فنلندة ، واعتبروا الشاعرة واحدة من اكثر ادباء الحداثة تأثيرا في الوسط الأدبي في فنلندة ما بعد الحرب ، وجدت نفسي امام شاعرة عالمية مبدعة ، عندها صممت ان التقي بها لاستجلاء بعض الغموض الذي برز اثناء قراءاتي لأعمالها الشعرية التي ناهزت الخمسة عشرة ، بالأضافة للمسرحيات التي اعدتها للاذاعة والمسرح والأعمال الروائية والنصوص النثرية القصيرة . الا أنني واجهت بعض الصعوبات في تحقيق هذا اللقاء لكثرة سفرها سنويا الى خارج فنلندة . فقد امضت هذه الشاعرة فترات طويلة من الزمن في الأندلس ، وسافرت الى استونيا ، واليونان ، وايطاليا ، واليابان ، وشمال أفريقيا ، وبولندة ، فقررت تأجيل اللقاء ، وطرح ما لدي من أسئلة عن طريق المراسلة . فاستمريت على تبادل الرسائل معها لبضع سنوات ، وبعد ذلك ، ولكثرة أسئلتي الناشئة من ترجمتي لمسرحيتها الموسومة ( ثلج في مايس ) وبعض قصائدها ، سارعت باعطائي موعدا للألتقاء بها .
قمت بالأستعدادات اللازمة لهذا اللقاء المرتقب مع هذه الشاعرة الغنائية ، التي اتسمت قصائدها بغناها بالصور البلاغية والبناء الطباقي . اذن ، يتعين علي أن اغادر العاصمة هلسنكي الى مدينة تامبيري التي تقع على مسافة ( 170 ) كم شمال العاصمة . تلك المدينة الواقعة على شاطيء بحيرة ( ناسيارفي ) وتضم ما يقرب من مئتي الف نسمة و( 180 ) بحيرة . ففضلت السفر في القطار الى تامبيري التي يسميها بعض الفنلنديين ب ( مانشستر ) فنلندة ، لماضيها الصناعي . سوف لا يستغرق السفر اكثر من ساعتين للوصول اليها ، اذ سبق ان قمت بزيارتها وسكنت في ( بنسيون ) في مركز المدينة ، قريبا من الشارع الرئيسي ( هامينكاتو ) الذي تقع محطة قطار تامبيري في طرفه الشرقي ، وكنيسة الكساندر في طرفه الغربي .
لدى وصولي الى مكان اللقاء في المكتبة العامة ، اتصلت بالأستعلامات ، فقادتني موظفة شابة ، كانت بهية الطلعة وموفورة النشاط ، الى القاعة التي كانت فيها الشاعرة ، فالفيتها في انتظاري ، جالسة في احد اركان القاعة ، على مقربة من نافذة تطل على حديقة واسعة ، وكان وجهها يطفح بشرا ، وحركاتها تنم عن شيء كثير من الرقة والوداعة ، وهي منهمكة في قراءة مجموعتها الشعرية الموسومة ( هكذا تتغير الفصول ) الصادرة عام 1964 ، والتي احتوت على معظم الفلسفة الطبيعية في جميع اشعارها .
قبل ان تقدمني الشابة لها ، نهضت الشاعرة الأنيقة ( ايفا ليزا مانر ) واستقبلتني بالترحاب بابتسامة عريضة ، قائلة :
"- أهلا بك ايها القاص العراقي في تامبيري . "
فرحبت بها ، وقبّلت يدها ، وجلسنا متجاورين .
كانت تبتسم وتمتلىء زهوا وكبرياء ، وأهدت لي بضعة مؤلفات . بعد ذلك ، أردفت قائلة وهي تميط اللثام عما كان يجول بخاطرها من ذكريات ، فقالت وكأنها تهمس لي بسر ، فأرهفت السمع وأخذت أصغي لما تقوله :
" – ما أن ولدت في كانون الأول من عام 1921 ، حتى توفت أمي في اليوم التالي من الولادة ، فنشأت في بيت جدي وجدتي في مدينة صغيرة اسمها فيبوري . "
وران الصمت لحظات ، ثم استطردت تسرد على مسامعي ما جرى لها ، وهي تقول في شيء كثير من المرارة والحزن .
" – ولكن عندما اندلعت حرب الشتاء بين فنلندة والأتحاد السوفيتي ، اجبرت مثل جميع المواطنين على ترك منطقتنا التي ولدنا ونشأنا فيها ولنا في كل زاوية من زواياها ذكريات متأصلة في اعماقنا ، فذهبت الى هلسنكي ، حيث عملت في بادىء الأمر في شركة تأمين ، ثم أصبحت محررة أدبية . "
آليت الى الصمت والأصغاء لما تقوله ما استطعت ، ثم مضت ( مانر ) باستطرادها بعد برهة صمت :
" – بعد أن اصدرت أول مجموعة شعرية ، أصبحت كاتبة حرة ، أعمل لحسابي الخاص ، واتقاضى مما أكتبه واترجمه للصحافة ... في الخمسينات غادرت هلسنكي الى قرية في محافظة ( هامه ) ، الواقعة جنوب غرب فنلندة ، حيث كتبت مجموعتي الشعرية ( هذه الرحلة ) التي اعتبرها النقاد نقطة تحول في الحداثة الفنلندية . "
تجاذبنا أطراف الحديث ، وطفقنا نخوض في شتى المواضيع الثقافية ، ونحن نرتشف ( القهوة بالحليب ) ، وكان الوقت قد بدأ يتسرب بسرعة ، وحين سألتها عن سبب مجيئها الى مدينة تامبيري ، قالت :
" – تشتهر هذه المدينة بالحياة الثقافية النشطة . فقد توافد عليها أكثر الكتاب الفنلنديين شعبية من أمثال : فاينو لينا ، و كالي باتالو ، وسلاما هانو ، والشاعر المشهور لاوري فيتا ، الذين عبروا بصدق عن معاناة الطبقة العاملة الفنلندية التي ينتمون اليها . "
ثم سألتها عن رأيها في الرواية الناجحة ، اجابتني وهي تمتلك الأحساس بقدرتها ، فقالت :
" – الرواية الناجحة هي التي تبنى على الصراع والتوتر ثم يسمح لهما الكاتب بالأنطلاق . ولا يتوجب على الروائي أن يحشر نفسه في أحداث روايته . كما أن الروائي لا يمنح المعرفة للقارىء بشكل مباشر بل ان عمله يشبه عمل القابلة ، يساعد على ولادة تلك المعرفة . "
بعد أن تناولنا شرابنا بساعة أو نحوها ، دقت ساعة الحائط معلنة الثانية عشرة ظهرا . وعندئذ نظر كل منا الى الآخر في صمت ... ثم أردفت مانر قائلة ، وهي تهم بالوقوف على قدميها :" سوف نواصل حديثنا في كافتريا جميلة وهادئة ، حيث يكون بوسعنا قراءة بعض القصائد . "
في ركن هادىء من الكافتريا ، جلسنا جنبا الى جنب ، وفتحت احدى مجموعاتها الشعرية ، وأنشأت تقرأ قصيدة بعنوان ( العالم اليوم ) ، بينما أنا أصخت لها بانتباه بالغ :
"
لو يدخن الحزن ،

لامتلأت الأرض دخانا .

انها ممتلئة الآن .

وتعود الى شكلها القديم ،

الى قلب الظلام .

يأتي الفاتحون ،

لقد عادت العصور الوسطى

بدون وهجها القروسطي :

حتى السماء لم تعد صافية بعد الآن

الأشجار عارية

انه الخريف

يقود خيوله الضبابية نحو النهر

كلاب بعيدة تنبح ، ببغض

عربات صغيرة تخرج من الممر الجبلي

وحدها دون سوّاق ، وتتلاشى
.
يقولون هكذا تنطلق الأشباح

لكن الأشباح ذكريات فحسب .

يأتي الليل مبكرا .

قريبا سيحل الشتاء

كالبئر ،

عميقا وباردا . "


عند قراءتها للقصيدة ، تبادر الى ذهني مدى بلاغتها وقدرتها الكبيرة في الصياغة الفنية للقصيدة ، وغناها في الصور الذهنية القوية ، وتداعيات الخواطر والأفكار والذاكرة .
ولمساهمة ( مانر ) من خلال اعمالها الأدبية في اثراء الأدب الفنلندي فقد منحتها منظمة ( باعة الكتب ) في فتلندة قلادة شكرا على الكتاب عام 1973 .
بعد أن ارتشفنا القهوة ، استطردت ( مانر ) في حديثها الشيق ، قائلة :
" – ربما كنت من اكثر الشعراء الأوربيين تأثرا ب ( ت . س . اليوت ) ، وبالطبيعة ذات الأيقاعات الموسيقية المتعددة لأسلوبه الشعري الذي انعكس ايضا في قصائد شعراء فنلنديين آخرين لفترة ما بعد الحرب ... قضيت طفولتي في جو دولي كما تشير الى ذلك قصيدة ( عشق الطفولة ) من مجموعتي الشعرية الموسومة ( هذه الرحلة ) ، والفنتازيه النثرية في ( فتاة على رصيف ميناء الجنة ) . "
أما عن موسيقى باخ فقالت :
" – ان موسيقى باخ هي مفتاح الوضوح ومنطق التعبير الشعري الحديث ، وقد اهديت بعض القصائد الرمزية الخفيفة الى موزارت . "
تطلعت الى ساعتي ، ثم طلبت منها أن تقرأ لي قصيدة منها ، فقالت :
" – ليس ثمة ما يدعوك الى التعجل . "
فتحت مجموعتها ( هذه الرحلة ) ، ودون ان تختار ، شرعت تقرأ قصيدة ( ألعاب القمر ) قائلة :
"
يؤكل القمر ويجدد نفسه

ويرفع أشرعة ببطء ،

يمر ، مزودا بالنور والرياح ،

يسفح قوته ، يجذب المحيطات .


تستسلم الأرض مثل امرأة ، وتلد الكثير .

تنمو النباتات ، والأظافر والشعر ،

تصيح الكلاب على التلال ، الأموات في قبورهم ،

والكثير من القتل بمختلف الأسلحة ،

كلام وسكاكين راشحة .

تؤكل مثل القمر ، ولن تتجدد ،

لكن في ضوء القمر

من السهل الموت والأنبعاث ،

الأنطلاق في قارب ، لو أن القمر قاربا ،

عقد التعاويذ ، لو أن الطبل هو القمر ،

لأن صور القمر غير ثابتة تماما ،

انه قمر عاصف وأصوات وقمر الطبول ،

انه سائل منوي وعين وقمر ينمحق ،

ذاكرة الفضاء الهابطة . "


وقبل ختام اللقاء أجابتني عن كل استفساراتي ، ففاض فؤادي بعرفان الجميل . وأستطيع أن أقول في كثير من الثقة ، لقد راعني ما رأيته من سمو خلقها وحصافة تفكيرها ، وأنها انسانة طيبة ، مستقيمة ، قوية الشكيمة . تلك حقيقة لا يعتورها أي لبس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??