الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هبوط الدولار يهز العالم

يعقوب بن افرات

2004 / 12 / 19
الادارة و الاقتصاد


الهبوط في سعر صرف الدولار مقابل اليورو، قاد لتكهنات بان النتائج ستكون خطيرة على مستقبل الاقتصاد العالمي ككل. ودون الخوض في اسباب هبوط قيمة الدولار، فما لا شك فيه ان المؤسسات المالية والشركات تفضل الاستثمار في اليورو عِوضا عن الدولار، الامر الذي يقود لاختلال التوازن بين العملتين.
منذ خمسين عاما يلعب الدولار مقياسا اساسيا للقيمة التبادلية، لذا فان مصيره اصبح شأنا يهم العالم كله. فالدول تستورد وتصدر بالدولار، كونه عملة ذات قيمة ثابتة، مدعومة من اكبر اقتصاد في العالم ومن حكومة كفيلة بالحفاظ على قيمته التبادلية. الدينار، الجنيه، الدرهم وغيرها من العملات القومية، تعتمد جميعها على الدولار وتُقاس قيمتها نسبة اليه، ولكن لا احد سيراهن على شرائها والاستثمار فيها نظرا لعدم ثبات قيمتها.
فتح الباب للمضاربة بالعملات في السنوات الاخيرة، لم يكن السبب الرئيسي في هبوط قيمة الدولار. بل لقد جاء ذلك تعبيرا عن امراض مزمنة يعاني منها الاقتصاد الامريكي. ويحدد الاقتصاديون سببين اثنين لهذه الحالة: الاول، العجز الكبير في ميزانية الدولة النابع من زيادة النفقات مقابل انخفاض نسبة الضرائب؛ والثاني، العجز في الميزان التجاري النابع من زيادة الواردات على الصادرات.
وقد وصل العجز في ميزانية الدولة في العام المنصرم الى 413 مليار دولار، وذلك لثلاثة اسباب رئيسية: الاول، النمو المتواضع للاقتصاد الامريكي على نحو قلّص ارباح الشركات، دون ان ينجح الرئيس بوش في اشفاء الاقتصاد؛ الثاني، سياسة الاعفاءات الضريبية للاغنياء؛ الثالث، السياسة الخارجية الامريكية التي ادخلت امريكا لحربين في افغانستان والعراق، كلفت الدولة مبالغ طائلة تجاوزت المئة مليار دولار في العراق وحدها.
ولكن اكثر ما يهم العالم هو العجز في الميزان التجاري الامريكي، الذي يشير لتراجع القوة الاقتصادية الامريكية. هذا ما تبرزه الارقام التي توردها صحيفة "نيويورك تايمز" (16/11) عندما تشير الى ان "الولايات المتحدة تنفق اكثر مما تنتج ب600 مليار دولار او ما يعادل 6% من الناتج الاجمالي المحلي". وهو الامر الذي يدفعها للاستيراد، خاصة من اوروبا واليابان والصين.
وإذا كانت المنافسة مع اوروبا واليابان امرا مفهوما، نظرا لقوتهما الاقتصادية، فكيف نفسر دور الصين الفقيرة في هذه المعادلة؟

الفقاعة الصينية

بدأ الخلل في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين، عندما انهارت البورصة الامريكية مع انفجار فقاعة الهاي تك في آذار 2000. فبعد انقضاء عهد الازدهار غير المسبوق والارباح السهلة زمن كلينتون، بدأت الشركات الامريكية البحث عن مصادر اخرى للربح: الايدي العاملة الارخص. وهذه موجودة وبغزارة في الصين.
على ضوء هذه التحولات قررت الشركات الامريكية وبنوك الاستثمار الكبرى، الانتقال من المضاربة بالاسهم في نيويورك للمضاربة بالبشر في بيجين. الحكومة الصينية من جانبها ادركت ان الامتياز الاهم الذي تتمتع به هو الايدي العاملة الرخيصة، فسمحت باستغلال عمالها بلا رحمة، كرافعة لجذب رأس المال كوسيلة لتطوير وتصنيع البلاد. وهكذا يمكن تشبيه صعود الصين كقوة اقتصادية جديدة، بظاهرة النمور الآسيوية في بداية التسعينات.
ولكن لم يكن عمال الصين وحدهم ضحية الاستغلال. فاذا كان ازدهار التسعينات قد انتهى بكارثة دمرت اقتصادات دول كثيرة بينها امريكا حيث فقد المواطن الامريكي توفيراته في صناديق التقاعد المستثمرة في البورصة؛ فان سياسة نقل الاستثمارات والمصانع من الولايات المتحدة للصين، افقدت ملايين المواطنين الامريكيين اماكن عملهم. وليس هذا فحسب، بل سبّبت وضعا مشوّها تقوم حسبه شركات امريكية بتصنيع المنتجات الرخيصة في الصين، ثم تقوم الولايات المتحدة باستيراد هذه البضائع من هناك، في حين يتراجع اقتصادها هي بحدة.
المشكلة الاساسية هي حمّى رأس المال الامريكي لجني الارباح الطائلة، دون اعتبار للنتائج الاجتماعية الوخيمة التي تجرها، وعلى رأسها البطالة. ومن المنظور ان يستمر الازدهار الصيني طالما يخضع العامل الصيني لهذا النوع من الاستغلال. ولكن عندما "ترتوي" السوق الصينية الجديدة من الازدهار المصطنع، سينتهي هذا الحفل كما انتهى في معظم البلدان التي سمحت لرأس المال الامريكي بان يفعل ببلادها ما شاء.

الخط الاحمر

ما علاقة الصين بهبوط الدولار؟ ذكرنا ان قيمة العملة متعلقة بقدرة الحكومة على دعمها، ولكن ماذا يحدث اذا اصبحت هذه الحكومة مديونة بمبالغ خيالية؟ في حالات مماثلة تقوم الدولة باعلان الافلاس، كما فعلت روسيا والارجنتين، وما ينجم عن ذلك هو هبوط حاد في قيمة العملة. ولكن الحكومة الامريكية تتمتع بامكانيات كبيرة لتمويل عجزها من خلال الاقتراض. والمفاجأة ان الصين واليابان هما من اهم الدول التي تقرض امريكا. فكيف تستطيع دولة فقيرة كالصين التي لا تملك سوى الايدي العاملة الرخيصة، ان تُقرض دولة عظمى كالولايات المتحدة؟
هكذا تتم الصفقة: الشركات الامريكية تستثمر اموالها في الصين، ومن هناك تصدر بضائعها لامريكا. ولكي تبقى البضائع الصينية رخيصة، يجب ان يكون الدولار اقوى من العملة الصينية "اليوان". ولكي يبقى الدولار قويا تقوم البنوك الصينية بشراء الدولارات، من خلال شراء السندات التي تصدرها الحكومة الامريكية. والسندات هي الوسيلة التي تقوم من خلالها الحكومة الامريكية بتمويل عجزها.
ويمكن ان نتساءل لماذا تضطر البنوك الصينية لتمويل العجز الامريكي؟ لماذا مثلا لا تصدر البضائع لليابان او لدول اخرى؟ الجواب ان السوق الامريكية هي السوق الاكبر الذي يمكنه استيعاب بضائع العالم جمعيها، ولا غنى عنه. وتفهم الصين ان توقفها عن شراء السندات الامريكية، سيؤدي الى توقف الاستثمارات الامريكية فيها. وهذا هو جوهر الصفقة.
وقد وصلت قيمة السندات التي اشترتها اليابان والصين الى 900 مليار دولار، في حين بلغت القيمة الاجمالية للسندات الموجودة في ايدي مستثمرين اجانب 2,6 تريليون دولار، او ما يعادل 23% من مجمل الانتاج الاقتصادي الامريكي.
ومن المهم الاشارة الى ان هؤلاء المستثمرين الذين تهافتوا في الماضي على البورصة الامريكية للاستثمار في اسهم الشركات الكبرى، يكتفون هذه المرة بالاستثمار في السندات الحكومية. وفي هذا تعبير عن عدم ثقة باداء الشركات الامريكية، ومحاولة لمساعدة الحكومة الامريكية خشية انهيار اقتصادها والاقتصاد العالمي ككل في اعقابه.
ولكن ما الحد الذي ستتوقف عنده امريكا عن زيادة العجز في ميزانها التجاري وميزانيتها؟ ما يقلق المُقرِضين هو اقتراب امريكا من هذا الخط الاحمر، الذي سيجعلهم يخافون على اموالهم، ويُحجمون عن مواصلة تمويل الدين الامريكي الذي قد لا تستطيع امريكا سداده. الهبوط في سعر صرف الدولار هو تعبير عن عدم ثقة بادارة بوش وسياسته، واشارة لقلق كبير على مصير الاقتصاد الامريكي.
الخطوة التي يمكن للبنك المركزي الامريكي اتخاذها في حالة حصول هبوط ملحوظ في قيمة الدولار، ستكون رفع نسبة الفائدة على امل اعادة الاستقرار لقيمة الدولار، وجذب المستثمرين الاجانب. ولكن حتى هذه الخطوة لا تبشر باشفاء الاقتصاد. فالاقتصاد الامريكي اعتاد على الفائدة المنخفضة في مجالات الاسكان والاستثمار، ورفعها سيعمق الركود ويمنع إحداث اماكن عمل جديدة.
المفارقة الكبرى ان حكومة بوش الجديدة ماضية في سياستها الضريبية وكأن شيئا لم يكن، الامر الذي يسهل على الشركات ولكنه يزيد العجز في الميزانية ويهدد الاقتصاد ككل بعدم الاستقرار.
ان سياسة بوش ترفض الاعتراف بالواقع، فلا تريد رؤية الوحل في العراق ولا التدهور في الاقتصاد المحلي. ورغم تحذيرات المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، وحكومات مثل اليابان والصين، واخصائيين من داخل وخارج امريكا، يواصل بوش في غيّه، يضرب في العتمة كالثور الاعمى، زارعا الدمار اينما وطئت قدماه. انها معالم على طريق حضارة مهمة جدا، تتقدم بثبات نحو موعد افولها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الألعاب الأولمبية في باريس: ما التغيرات في سوق العقارات الفر


.. عيار 21 الآن وسعر الذهب اليوم الإثنين 1 يوليو 2024 بالصاغة




.. -مشهد اتعودنا عليه من حياة كريمة-حفل تسليم أجهزة كهربائية لـ


.. تقديرات تظهر بأن مدى صواريخ حزب الله يهدد بتعطل إنتاج نحو 90




.. كيف تطورت مؤشرات الاقتصاد المصري بعد ثورة 30 يونيو؟