الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصر مثير

سعد محمد رحيم

2011 / 11 / 17
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تستهويني قراءة السير الذاتية التي تحكي عن كفاح ومصائر أشخاص في خضمّ أحداث ومنعطفات تاريخية كبرى. تلك الكتب التي تمنح قدراً هائلاً من المتعة العقلية والوجدانية فضلاً عن توفرها على فيض دافق وحيّ من المعلومات والأسرار، حيث تصبح الكتابة من هذا القبيل بوحاً ذاتياً وشهادة على عصر.
أذكر بهذا الصدد ثلاثة كتب لمؤلفين كبار: الكتاب ألأول؛ خارج المكان لإدوارد سعيد الذي يقدّم فيه، وهو يتوسع في الحديث عن سنوات طفولته ويفاعته وتنقلات أسرته، وأسفاره وعلاقاته ودراسته ومنفاه، سردية لافتة ومؤثرة عن الاقتلاع والتيه الفلسطينيين. سردية تفصح عن معاناة شعب من خلال حياة أسرة واحدة وجدت نفسها على الرغم منها خارج مكانها. الكتاب الثاني؛ عالم الأمس لستيفان زفايج الذي يرصد تفاصيل انقلابات الأوضاع الأوربية بدءاً من مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى حيث ساد اعتقاد بأن عصر الحروب قد ولى إلى غير رجعة، إلى أن تندلع تلك الحرب الكاسحة والمدمرة، والتي أطاحت بالآمال العريضة للمجتمعات الغربية واستقرارها النفسي والاجتماعي، لتصعد، بعدئذٍ، الفاشية والنازية اللتين تسببتا في حريق الحرب العالمية الثانية.. وهذا كله نراه عبر وجهة النظر الحادة والمؤسية لكاتب واسع الرؤية وعميقها، هو زفايج الذي يروي، مثل سعيد، أشياء كثيرة عن طفولته وأيام تلمذته وأقدار عائلته ودأبه في حقل الإبداع. حتى اضطراره إلى ترك بلاده النمسا والهرب من مدينة إلى مدينة قبل أن يستقر به المقام في البرازيل، ليقدم هناك، تحت وطأة الإحباط واليأس، على الانتحار.
وإذا كان الحنين إلى المكان الأول، ومحاولة استعادته، هو الوازع الذي جعل إدوارد سعيد يكتب سيرته الذاتية مساهماً بشكل كبير في طرح سردية فلسطينية تواجه وتنافس السردية الإسرائيلية فإن الحنين إلى الماضي البهيج، ما قبل عهد الحروب الكارثية، كان وازع ستيفان زفايج، على الرغم من أن الزمان الراحل لم يغب عن بال سعيد، فيما المكان الذي أُجبر زفايج على مغادرته ظلّ يعيش في ضميره.
أما الكتاب الثالث الذي ينتمي لفصيلة الكتابين آنفي الذكر عينها فهو ( عصر مثير: رحلة عمر في القرن العشرين، لإيريك هوبزبوم.. ترجمة معين الإمام.. دار المدى.. دمشق 2007 ). في هذا الكتاب نحس بنبضات التاريخ المعاصر ونرى تموجاته: مسراته وأوجاعه خلل السيرة الذاتية لهوبزبوم المفكر اليساري، والمؤرخ الأشهر في العالم خلال العقود الأخيرة.. يقول؛ "لقد عشت تقريباً معظم سنوات قرن يعتبر أكثر قرون التاريخ الإنساني روعة وترويعاً".
اختص هوبزبوم بنبش وتحليل وتقويم التاريخ الحديث، بدءاً من القرن الثامن عشر، من منظور منهجي علمي، يرتع من الماركسية ولا يكتفي بها، بل يستفيد من كشوفات المناهج الحديثة في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، لاسيما علم الاقتصاد حيث اختصاصه الدقيق هو التاريخ الاقتصادي. والمرحلة التي غطاها هي تلك التي اندلعت إبانها الثورات الكبرى: ( الثورة الفرنسية، ثورة الاستقلال الأمريكية، الثورة البلشفية في روسيا ) فكتب عنها وكتب عن تاريخ الرأسمالية بمحطاتها المتعاقبة. كما أنه وصف القرن العشرين بعصر النهايات القصوى فألف كتاباً بهذا الخصوص. أما مؤلفه ( عصر مثير ) فلعلّه سعى بكتابته للإجابة عن سؤال الهوية، وتحديد موقع الذات في الزمان والعالم، وعرض كشف حساب لسنوات العمر المديدة.. وكان يأمل أن يُقرأ الكتاب "كمدخل تمهيدي لأكثر القرون الاستثنائية روعة وفرادة في تاريخ الجنس البشري من خلال رحلة إنسان واحد لا يمكن لحياته أن تحدث في أي قرن آخر".
يشرع هوبزبوم بسرد حكايته الخاصة بطريقة بارعة وذات دلالة.. إنه يحدّق، وهو في ذرى شيخوخته، في صورة قديمة تجمعه مع آخرين، من أخوته وجيرانه، فيتأمل سبلهم المتباينة في الكون التراجيدي للقرن:
"خمسة أطفال صغار مع فتاتين يافعتين وقفوا أمام عدسة الكاميرا قبل ثمانين سنة على سطيحة بيت في فيينا، غير واعين، مثل آبائهم وأمهاتهم، أنهم مطوّقون بحطام الهزيمة: إمبراطوريات مدمّرة واقتصاد منهار؛ وغير مدركين، مثل آبائهم وأمهاتهم، أن عليهم أن يشقوا طريقهم عبر أصعب حقب التاريخ وأشدها فتكاً وتدميراً وثوراناً وتطرفاً".
* * *
يمسرح أريك هوبزبوم في كتابه: ( عصر مثير ) الدراما السياسية والوجودية للقرن العشرين بوجهها التراجيكوميدي، من منظور ذاتي يسعى للتخفيف من غلواء المناهج الصارمة التي أعانته، قبل ذلك، مؤرخاً في تحليل وتقويم تحولات القرنين الأخيرين اللذين سبقا القرن العشرين. فهذا الكتاب خلاصة مكثفة لإعادة رسم التاريخ الشخصي على خلفية من تموجات وانقلابات عاصفة لأحداث مثيرة وسامية وأخرى حزينة ومرعبة. أي أنه جمع بين الإنجاز الإنساني الرفيع والعظيم الذي حوّل نمط حياة البشر نحو الأفضل، وبين أسوأ صفحات الهمجية المتمثلة بجرائم الإبادات الجماعية والحروب التي أودت بحياة أكثر من 180 مليون شخص في أنحاء العالم خلال مائة عام، كاشفاً عمّا يمكن أن تنطوي عليه نفوس بعض البشر، وهم كثر، من حقارة وخسة ونزوع مرضي نحو القتل والتدمير.
ما يجعل من حياة هوبزبوم ذات أهمية ومغزى هو أنه ألفى نفسه مذ ولد على تخوم لغات وثقافات وحضارات متباينة، وإن كان في ضمن المحيط الأوربي الغربي، أضفت على هويته طابعاً مركّباً وملتبساً. وكان عليه في ضوء ما رماه إليه قدره أن يُحسم خياراته ويحدد موقفه، ومن ثم موقعه في خريطة الثقافة الأوروبية والعالمية للقرن العشرين. وهو القرن الذي يقول عنه أنه بدأ متأخراً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1914 وانتهى مبكراً في العام 1991 مع انهيار المنظومة الشيوعية وبروز عصر العولمة. ووجد لزاماً عليه أن يتساءل وهو يُعيد بناء تجربته "عن كيفية فصل الذاكرة عمّا أعرفه الآن كمؤرخ، وما أفكر به الآن بعد عمر من التأملات السياسية والمناقشات والمجادلات".
كان من أب إنكليزي، يهودي، ولد في فينا وعاش طفولته وشطراً من شبابه فيها قبل أن يتركها وإلى الأبد في العام 1931. حمته جنسيته الإنكليزية من كونه يهودياً في بلاد تغلي بنزعة معاداة السامية، وزودته بالمناعة ضد إغراءات القومية اليهودية كما يؤكد. ولهذا، يفصح بلا تردد عن رأيه في مسائل الدين والصهيونية وإسرائيل قائلاً:
"ليس لدي التزام عاطفي وجداني بممارسة دين سلفي، ناهيك عن الالتزام بتأييد دولة/ أمة، صغيرة، متشربة بالروح الحربية العسكرية، مخيبة للآمال ثقافياً وعدوانية سياسياً، تطالبني بأن أتضامن معها على أسس عرقية عنصرية".
استهواه حقل التاريخ الحديث والسياسة والفكر الماركسي ومهنة التدريس والكتابة. انتمى إلى الحزب الشيوعي البريطاني وكان من أبرز قادته ومفكريه. وقد تسبب انتماءه لذلك الحزب الصغير بعدد أعضائه في بلد رأسمالي متقدم مثل بريطانيا بمشكلات أعاقت تقدمه الوظيفي لكنه بقي مخلصاً لأفكاره وخياراته السياسية على الرغم من أنه لم يكن دوغمائياً، وكانت له آراءه المستقلة في شؤون السياسة وأحداثها إلى الحد الذي أربك علاقاته مع رفاقه من غير أن يصل الأمر قط إلى فصله من الحزب. لقد كانوا بحاجة إلى اسمه وشهرته ومكانته الأكاديمية لتعزيز مكانة الحزب.
شهد هوبزبوم، ناهيك عن الحروب الساخنة الكبرى، فصول الحرب الباردة بين القوتين الأعظم ( أمريكا والاتحاد السوفيتي ) بدءاً من الخمسينيات.. كان ما يزال مراهقاً حين استلم هتلر السلطة. ولأنه حسم خياره الماركسي منذ ذلك الوقت فإنه، مع أقرانه: "كنا دوماً على ثقة مستمدة من الماركسية بأن نصرنا محتوم ومحفور في نصوص كتب التاريخ في المستقبل". وفي هذه المرحلة يصف ما يسميه بالنشوة الجماعية التي خبرها مع من هم مثله من أبناء جيله في إيمانهم بالعقيدة الشيوعية التي الهمته في سلوكه وإبداعه الفكري، مستعرضاً مكوناتها الخمسة: "الإشفاق على المستغلين، والجاذبية الجمالية لنظام فكري كامل وشامل، والمادية الديالكتيكية، وقليل من رؤية بليك للقدس الجديدة، والكثير من العداء الفكري للنزعة المحافظة". هذا الإيمان المنقوع بشيء من العصارة الرومانسية طبع شطراً واسعاً من حياته قبل أن يجد نفسه في بلده الأم إنكلترا هارباً من الجحيم التي أجج إوارها هتلر في قلب أوروبا. وأيضاً بعد ذلك بمدة ليست قليلة. لكنه كان ينضج مع تراكم تجاربه الحياتية وملاحظاته الثاقبة واللمّاحة للمشهد السياسي العالمي مغيراً في تفاصيل قناعاته من غير أن يتنكر لمرجعيته الماركسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - دمت لنا كاتبا متميزا
Munir Alubaidi ( 2011 / 11 / 17 - 20:39 )
عزيزي سعد
قرأت ما كتبت بمتعة. امتعتني كما هي شأنها دائما لغتك الحية المتدفقة غير المتلكفة، كما امتعني المحتوى الذي تبحث عنه و تختاره بعناية و خصوصا ما تعلق بها بحياة هوبزبوم. احلى الامنيات و دمت و العائلة بالف خير.... منير


2 - شكرا لك صديقي
سعد محمد رحيم ( 2011 / 11 / 18 - 20:58 )
عزيزي منير العبيدي
شكرا لتعليقك، والغريب أنني قبل أن أقرأه بدقائق كنت أتصفح كتاباً اشتريته اليوم عنوانه ( لغة الجسد ) بترجمة عادل كوركيس فخطرت على بالي.. أما كتاب هوبزبوم فهو ممتع حقا يحكي فيه عن تجربة حياة ثرية منظورا إليها بوعي حاد.. تحياتي وتحيات عائلتي لك ولعائلتك.. محبتي

اخر الافلام

.. ولي العهد السعودي بحث مع سوليفان الصيغة شبه النهائية لمشروعا


.. سوليفان يبحث في تل أبيب تطورات الحرب في غزة ومواقف حكومة نتن




.. تسيير سفن مساعدات من لارنكا إلى غزة بعد تدشين الرصيف الأميرك


.. تقدم- و -حركة تحرير السودان- توقعان إعلاناً يدعو لوقف الحرب




.. حدة الخلافات تتصاعد داخل حكومة الحرب الإسرائيلية وغانتس يهدد