الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آسيا تتجه نحو التوحد على خطى أوروبا

عبدالله المدني

2004 / 12 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


الخطوة الأولى نحو الشراكة أو التكامل أو التوحد تبدأ من الاقتصاد. فحينما يقوم اتحاد مادي بين إنتاج و إنتاج و مصلحة ومصلحة ، فانه لا بد وان يؤدي إلى شكل من أشكال الاعتماد المتبادل الذي يمهد السبيل أمام اتحاد البشر و الأنظمة. وهذا تحديدا ما أدركه الأوروبيون في مطلع الخمسينات من بعد عقود من التناحر والتمزق و الحروب ، حينما انشأوا في عام 1951 سوقا مشتركة للفحم و الفولاذ وفق نظرية صائبة لوزير الخارجية الفرنسي آنذاك روبير شومان. ولم تمض عدة سنوات إلا وكان المشروع الهادف إلى السيطرة على أهم مكونين لوقود الحرب قد تحول إلى مشروع شامل لتوحيد القارة الأوروبية اقتصاديا ، لتتوالى بعد ذلك الخطوات وصولا إلى قيام الاتحاد الأوروبي الراهن.

وإذا كانت دول جنوب شرق آسيا قد أنجزت الكثير من خطوات التكامل الاقتصادي فيما بينها من خلال منظومة آسيان (التي بدأت في عام 1967 باندونيسيا و ماليزيا و الفلبين و تايلاند و سنغافورة و بروناي ، ثم توسعت لاحقا لتشمل فيتنام و لاوس و كمبوديا و بورما) ، لا سيما في أعقاب تعرضها لهزة 1997 النقدية العنيفة ، فإنها الآن بصدد إقامة تكتل اقتصادي آسيوي أوسع و اكبر شأنا يضمها إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية و الهند و ربما استراليا التي دعيت لأول مرة للمشاركة في قمة آسيوية في الشهر الماضي.

نقول هذا على ضوء التوقيع مؤخرا في العاصمة اللاوسية ، فيينتيان، على اتفاقية ما بين دول آسيان العشر و الصين للبدء عمليا بإقامة منطقة تجارة حرة بينية مع نهاية العقد الجاري ، و اتفاقية أخرى ما بين هذه الدول والهند للشراكة و التعاون وإزالة الحواجز الجمركية تدريجيا وصولا إلى تحرير التجارة البينية بحلول عام 2017 ، إضافة إلى اتفاق آسيان مع اليابان صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم ، حول إطلاق مفاوضات قريبة تستهدف الأغراض ذاتها.

إذا فنحن حيال قيام منطقة تجارة حرة ضخمة خلال خمسة سنوات ، يمكنها محاكاة و منافسة مثيلتها في أوروبا أو تلك التي أنشأتها اتفاقية نافتا في أمريكا الشمالية. وبانضمام اليابان و الهند و كوريا الجنوبية إليها سوف يشهد العالم قيام اكبر تكتل إقليمي للتجارة في تاريخ البشرية ، يستفيد منه نصف سكان الأرض و يضم اقتصاديات يفوق إجمالي نواتجها المحلية تريليوني دولار.

وينتظر أن تسفر القمة الخاصة لدول آسيان + الصين و اليابان و كوريا الجنوبية و الهند في العام المقبل عن إطلاق الجماعة الشرق آسيوية على غرار الجماعة الأوروبية ، وهي فكرة كان قد دعا إليها رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد في التسعينات ، لكنها وضعت في حينه على الرف لأسباب تتعلق بحساسية البعض من الدور الصيني ، و عادت إلى التداول منذ عامين كنتيجة لظهور متغيرات جديدة منها توجه الصين نحو سياسات المهادنة و التعاون بدلا من سياسات المواجهة بدليل موافقة بكين على حل المسائل العالقة بينها و بين طائفة من أقطار آسيان حول السيادة على جزر سبراتلي جماعيا ، و تقدمها بمشروع يضع موضوع السيادة جانبا و يركز على الاستغلال المشترك لثروات هذه الجزر من النفط و الغاز ، ناهيك عن دعم الصينيين لمقترح إقليمي لحظر استعمال و انتشار الأسلحة النووية. كل هذه المتغيرات جعلت دول جنوب شرق آسيا أكثر اطمئنانا من ذي قبل حيال الصين وأكثر رغبة في إقامة تكتل شرق آسيوي كبير ، الأمر الذي عبرت عنه رئيسة الفلبين غلوريا ماكاباغال أرويو بقولها " إن علينا أن نضمن اقتناع الصين و اليابان و كوريا بفوائد انضمامها إلينا من اجل خلق كتلة اقتصادية كبيرة تؤمن الأمن و السلام و الازدهار للجميع".

هكذا تعمل الأمم الحية ، تتعلم من أخطائها و تستلهم تجارب غيرها وتمضي قدما إلى الأمام نحو التعاون و التكامل متحررة من المهاترات الخطابية و عقد الماضي الغابر و الحروب الدونكيشوتية و نظريات المؤامرة و الشعارات الفارغة و الشك في كل برنامج أو خطة تعرض عليها ، ومتجاوزة الأمور المظهرية و الشكلية مثل العلم الواحد و النشيد الواحد و الشعار الواحد.

وبطبيعة الحال ، وكما في كل المشاريع الطموحة ، فان ما تم الاتفاق عليه مؤخرا ليست عملية سهلة التنفيذ و تحيط بها إشكاليات عديدة ، في ظل عدم تكافؤ أطرافها اقتصاديا و تضارب اولوياتها السياسية الداخلية و خوف البعض من ضخامة و قوة الإمكانيات الاقتصادية الصينية . و من هنا قيل مثلا أن الصين هي المستفيدة الكبرى من اتفاقها مع آسيان أو أن الدول المحورية الأكثر تقدما في آسيان ( بينها واحدة مكتملة النمو هي سنغافورة و أخريات مصنفات في خانة الدول الصناعية الجديدة) هي المؤهلة للاستفادة دون بقية الأعضاء الأقل نموا أو الأكثر تخلفا. بل قيل أن ما اتفق عليه قد يصطدم ببروز النزعات القومية داخل هذا البلد أو ذاك أو تشكيل اللوبيات المدافعة عن هذا القطاع أو ذاك ، مدللين على صعوبة تقبل قطاع تصنيع المركبات في ماليزيا مثلا بفكرة فتح الأسواق المحلية أمام دخول المركبات الصينية الرخيصة أو قبول تايلاند بفتح أسواقها أمام صادرات الأرز الصيني الرخيصة.

إلا أن كل هذه الظواهر وقتية و يمكن تلافيها بالإرادة و التصميم و التعاون و التنسيق ، و كلها أمور برع فيها الساسة و المخططون الآسيويون و لا يشكون من نقصها. ثم أن الفوائد المترتبة على إقامة مناطق التجارة الحرة البينية و الاتحادات الجمركية أكثر بكثير من سلبيات تصيب هذا القطاع أو ذاك أو هذه الدولة أو ذاك. فهي تزيد من حجم السلع المتبادلة و تدفق الاستثمارات و حركة الأفراد ووسائط النقل ، و بما يخلق حالة من الروابط الاعتمادية و التكاملية. إلى ذلك ، فإنها تفرض توحيد الأنظمة و المعايير و القوانين و الحقوق و مناهج التدريب ما بين الدول المعنية وفق الاشتراطات و القواعد الدولية، الأمر الذي يضع أولى لبنات التوحد. ولأن هذا كله يسري على قطاعات ذات صلة بالأمن مثل الاتصالات و النقل و النقد ، فانه لا بد و أن يجر إلى تنسيق و تعاون سياسي و امني و عسكري ما بين الأطراف ، و هذه من مرتكزات إقامة الكيانات الوحدوية الكبرى.

ومما يبشر بنجاح المشروع الآسيوي أن المخاوف القديمة لدى بعض الأقطار الآسيوية من التوسع الاقتصادي و الصناعي الرهيب للصين حلت محلها رؤية جديدة مفادها أن أي نمو أو توسع اقتصادي في الصين يمكن أن تستثمره الدول الأخرى لصالحها من خلال دخولها كمستثمرة في السوق الصينية أو كمتعاونة في خط من خطوط الإنتاج أو كمزودة لسلعة أو خدمة تكميلية. ثم أن حجم النشاط الاقتصادي و المبادلات التجارية القائمة ما بين الدول الآسيوية راهنا كبير و متعدد الأشكال ، فما بالك بعد قيام منطقة التجارة الحرة و تأسيس السوق المشتركة بينها. ولندع الأرقام تتحدث عن نفسها في هذا السياق.

حقق التبادل التجاري ما بين دول آسيان و الصين في عام 2002 رقما وصل إلى 62 بليون دولار أي بزيادة 40 في المئة عن العام السابق. وفي الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري زاد الرقم بنسبة 35 بالمئة مع توقعات بوصوله إلى 100 بليون دولار في نهاية هذا الشهر. و لدول شرق آسيا حاليا استثمارات مباشرة أو غير مباشرة في السوق الصينية تقدر بنحو 34 بليون دولار ، فيما شهدت الاستثمارات الصينية الموجهة إلى قطاعات الزراعة و المناجم و الإنشاءات في أقطار آسيان دفعة إلى الأمام هذا العام بإقدام الشركات الصينية العامة على استثمار مبلغ يتجاوز البليون دولار.

وفي حالة الهند و آسيان ، يبلغ حجم المبادلات التجارية حاليا 13 بليون دولار ، ينتظر أن يرتفع إلى 30 بليون دولار في غضون السنتين القادمتين مع توالى الخطوات التدريجية لتحرير التجارة ما بين الطرفين. وهناك استثمارات متنوعة لعدد من بلدان آسيان مثل سنغافورة و ماليزيا في السوق الهندية المتوثبة و الصاعدة مقابل استثمارات هندية في الفلبين و تايلاند.

و يخشى البعض من تعثر المشروع الآسيوي الكبير بفعل التنافس المعروف ما بين العملاقين الهندي و الصيني و الذي نجد احد تجلياته في محاولة كل منهما الفوز ، عن طريق المساعدات الاقتصادية و العسكرية ، بنفوذ في بورما ، بسبب ما للأخير من موقع استراتيجي كبوابة لكليهما نحو منطقة جنوب شرق آسيا و مركز مثالي للتجسس على الآخر.

إلا أن هناك رأي مخالف مفاده أن قطع الدولتين لشوط طويل من التفاهم حول القضايا البينية المعلقة من زمن الحرب الباردة ، و توجههما في السنوات الأخيرة نحو التعاون و تكثيف الاتصالات و زيادة التبادل التجاري ( ارتفع حجمه من 290 مليون دولار في عام 1991 إلى 7.3 بليون دولار في العام الماضي مع توقع ارتفاعه إلى 10 بليون دولار في العام القادم) وحاجة كل منهما إلى مساعدة الآخر في قطاعات اقتصادية حيوية قد خلق وضعا مختلفا. أما تنافسهما اقتصاديا فيمكن أن تلعب حياله كتلة آسيان دور حاجز العزل في التجمع الشرق آسيوي الكبير و بما يحول دون اصطدام مصالحهما بل أيضا بما يحول دون اصطدام مصالح الصين و اليابان.

د. عبدالله المدني
باحث أكاديمي و خبير في الشئون الآسيوية

هذا المقال نشر بالتزامن في الخليج (الإمارات) و الراية (قطر) و الأيام (البحرين) في يوم الأحد 19 ديسمبر 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول


.. حزب الله: حرب الجنوب تنتهي مع إعلان وقف تام لإطلاق النار في




.. كيف جرت عملية اغتيال القائد في حزب الله اللبناني؟