الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوم إستثنائي-قصة قصبرة

عبد الفتاح المطلبي

2011 / 11 / 22
الادب والفن




أترجل من الباص الصغير الذي يقلني من الضواحي إلى الميدان وسط المدينة سائرا بتمهل شديد رغم برودة هذا الصباح ، المارةُ ينشطون في مسيرهم وحركاتهم قتلاً للبرد،وأنا أتجه
إلى مكانِ عملي على الطريق ذاته الذي حفظته عن ظهر قلب أمسح بعينيَّ واجهات المباني المحتشدة على الجانبين كعمالقة لا تشبع من فضولها بالطلول على المارة من علٍ متصنعاً تجاهلاً يكاد يفضحه وجود أصص نباتاتٍ خُضرٍ على الشرفات التي تصادف أن تسقيها إحدى الساكنات الجميلات فأعمد لمشاغلة عينيّ بتفقد ماحولي ، كنت أفعل ذلك حين رأيتهما معا متلازمين كأنهما كائنٌ واحدٌ من تلك الكائنات التي انقرضت ولم يبق لنا منها غير ذلك الوصف،كلبٌ برأس رجل كما جاء في الملاحم و الأساطير، وقد تبين الأمرُ بعد ذلك أن رجلاً يلازمُ كلبَاً أو كلباً يلازمُ رجلاً، ولذلك كنت أكلم نفسي واضعا كفيّ الباردتين في جيب بنطالي مدركاً أن صوتي لا يصل إلى أبعد من أذنيّ قائلاً : أمرٌ غريبٌ حقاً أن يلازم الرجلُ كلبَه ، محدثاً نفسي بهذه العبارة التي كانت عادية جدا
من بين هذا الكم الهائل من الكلام المنتج يوميا في تلافيف دماغي،وكأن دماغي مطحنة كلام يخرج مجروشا أومطحونا منسربا من بين ثنايا كوابيسي التي أدمنت غزوي حالما أحط رأسي على الوسادة ، ذلك جعلني أكره النوم و اقتصد به لدرجة كبيرة فأنا بالحقيقة قد زهدته منذ زمن بعيد منذ ذلك اليوم الذي طالبت فيه جليسي الوحيد أن يبتهج قليلا لكنه رد علي هازئا: ـ أرأيت ميتاً يضحك؟ فانتبهت إلى إنني عند رأس أحد القبور التي أدمنتُ زيارتها بحكم العادة و وفاءً لذكرى بعيدة،في تلك اللحظة تقشفت كثيرا بالنوم غيرأنني واصلت ارتكاب تلك السيّئةِ التي تورث الألم المستمروتصنفني في خانة المرضى عندما لم أستطع ردع دماغي من الإستمرار بمحاولاته النظر إلى الأشياء والأحداث بعد نزع غلالتها نصف الشفافة التي نعلم جميعنا أنها تغلف كل ما حولنا ، ولهذا قلتُ لنفسي : أمرٌ غريبٌ حقا أن يلازم الرجل كلبه.
رحتُ أراقب الرجل الذي يصادف خروجه مع كلبه إلى شؤونه متزامنا مع خروجي لوجهتي الروتينية المملة وكما تقدم فإن دماغي الخبيربدأ بنزع كل الأغطية الشفيفة التي كانت تحيط بالرجل وكلبه ليس لشيء محدد لكن على الأقل سيخفف ذلك من تكرار سحنة اللحظات والثواني والدقائق المتشابهة الباهتةِ التي أسير بين يديها يوميا لعملي الممل ورغم أن تلك العادة السيئة التي هي الإستخدام المفرط لخلايا الدماغ و إنفاق حياتها الغالية كما ينفقُ مدخنٌ حياته على أمور عادية مثل مراقبة الرجل وكلبه تورثني ألما حادا مابين العينين وتشق أحياناً رأسي إلى نصفين ، ولكنني رحتُ أواصل الدنو من الرجل وكلبه وفي بعض الأحيان بدا لي أننا قد اختلطنا أو أنني على وشك أن أفعل ذلك.
كان الرجل يسير كالأعمى وكلبه بين يديه تضرب كتفه أكتاف الرجال الذين يسيرون بمحاذاته وعندما تند عن الرجل مضروب الكتف محاولة استنكار يلتفت إليه كلب الرجل ويهرّ عليه مكشرا عن أنيابٍ صُفرٍ يقطرُ لُعابُها فيبتعد الرجل مضروب الكتف حالا لا يلوي على شيء متجاهلا الألم الذي سببته الصدمة قانعا بالسلامة التي بدت له أنها مناسبة تماما..................
تستكين مقهى حسون على كتفِ الطريق المؤدي إلى الحياة في هذه المدينة المرتعشة جراء شتائها فيلجأ الناس ضحايا هذا الزمهرير لحيلة قديمه تنطلي أحيانا على البرد بولوجهم تباعا إلى مقهى حسون لشرب أقداح الشاي الساخنة التي تردع برد عظامهم ، ولو بأدنى الحدود
، يتجه الرجل وكلبه إلى المقهى بصدرٍ مندفع مقدما بوز كلبه ليلج قبله ، لم يحدث شيء كما كنت أتوقع من صاحبً مقهىً محترم و كأن الرجلَ صاحب المقهى مجبرٌ على ذلك ثم دلفتُ من بعده إلى الداخل ، جلسَ الناسُ جميعا على مقاعدهم كتِفاً إلى كتِفٍ تتسمرُ عيونهم على الباب حيث اقتحم بوز الكلب المكان يصحبه الرجل، العجيب في الأمر أن الكلب قد جلس على المقعد الذي قدمه صاحب المقهى لهما مستندا بعجيزته على الكرسي مادا قائمتيه الأماميتين إلى الأمام مولجا ذيله الذي يشبه السوط القصير بين قائمتي ظهر الكرسي ، قدم صاحب المقهى شايا حارا للكلب في صحنٍ يصلح للّعق ِ ووقف الرجل صاحب الكلب جنبه كخشبة عتيقة مهملة لا تمثل شيئا وكان حسون صاحب المقهى وجلاً لا يستقر له حال وهو يرمق بوز كلب الرجل والغاً في صحنه يلعقُ منه بين الفينةِ والفينةِ حتى غادر الرجل وكلبه المقهى ولم ألاحظ أن الرجل أوكلبه قد دفع ثمن الشاي غير أن الكلب كان ينظر باستعلاء لصاحب المقهى الذي غمره الفرح حال مغادرة الرجل وكلبه مقهاه ، احتسيتُ شايي على عجل لألتذّ بسخونة هذا السائل الذي يشربه الجميع بالتلذذ ذاته ولكني بالإضافة لذلك كنت أنوي اللحاق بالكلب وصاحبه ، ولكي يصل الرجل وكلبه إلى بداية سوق الملابس المستعملة كان لابد لهما أن يجتازا مسافة مائتي متر من سياج بناية كانت تولينا ظهرها بغير مبالاة وعندما سألت شابا تجاوزني مسرعا عن البناية المواجهة للشارع الآخر والتي يطل حائطها الخلفي على الشارع الذي نسير فيه أنا والرجل صاحب الكلب أجابني وهو ينظر لي بعين الريبة إنها بناية الشرطة في تلك اللحظة كان الرجل صاحب الكلب قد وصل إلى منتصف سياج البناية ، شغر الرجل( قائمته) اليمنى على السياج وفتح سحاب بنطاله المبقع وبال على سياج البناية التي يعلوها الهوائي الكبير وراح كلب الرجل يتابع باهتمام بالغ المارة مستعدا للزئير أو النباح في حال تعرض الرجل لخطر المارة الفضوليين بينما كان الهوائي الضخم والطويل جدا على سطح البناية يواصل التقاط بثّ الشبكة العنكبوتية رغم بولة الرجل الذي يلازم كلبه على سياج بناية ذلك الهوائي ، أسرع الرجل و أقفل سحاب بنطاله ثم دلف إلى أحد الأزقة القريبة على الجهة اليمنى، هنا في هذه النقطة كان علي أن أتابع سيري إلى مكان عملي الروتيني الممل فتمهلت قليلا عند بداية الزقاق الذي دلفَ إليه الكلب وصاحبه ،واجهتني هناك لافتة بالخط العربي الواضح وسهم يشير إلى عمق الزقاق كتب عليها (سوق الورّاقين الحديث) لم أكن قد انتبهت إليها من قبل وحين صرتُ مستعداً لمواصلةِ سيري إلى الأمام تناهت لسمعي أصوات جلبة وصراخ يتخللهما نباح كلب مستثار ولغط كثير ، هدأبعد ذلك كل صوت ماعدا صوت بدوتُ في شك من تمييزه أهو صوت رجل أو صوت كلب ينبح بين لحظةٍ و أخرى مقاطعاً ما يشبه نشيداً كورالياً آتياً من عمقِ سوق الوراقين وبدأ النشيد يتصاعد وتأخذ الحناجرَ مداها حتى خفتت حدة النباح لكنه لم ينتهي، بقيت منشغلا بالرجل وكلبه طيلة اليوم وشعرتُ أن يومي هذا كان استثنائيا ممتعا يختلف عن أيامي السابقة حين أذهب لعملي الممل مغتبطاً بحيويةٍ طارئةٍ تتلبسني طوال اليوم حتى إن أخي الصغير لاحظ ذلك فابتسم لي وقال:- غدا الجمعة خذني لسوق الغزل فوعدته بذلك على أمل أن أحظى برؤية الرجل ذي الكلب مرةً أخرى ففي سوق الغَزِل يمكن أن تشاهد كلابا كثيرة تختلط بأناسٍ كثيرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد خير الجراح ضيف صباح العربية


.. أفلام مهرجان سينما-فلسطين في باريس، تتناول قضايا الذاكرة وال




.. الفنان محمد الجراح: هدفي من أغنية الأكلات الحلبية هو توثيق ه


.. الفنان محمد الجراح يرد على منتقديه بسبب اتجاهه للغناء بعد دو




.. بأغنية -بلوك-.. دخول مفرح للفنان محمد الجراح في فقرة صباح ال