الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن وهي...حبيبتي

فريد يحي

2011 / 11 / 23
الادب والفن


كانت شاهدة على العصر أكثر منا، فهي رأت كل الأحداث بنظرة متفحصة..أي نعم كانت من فوق ، ولكن مملوء بالعطف. سكنت بيتنا بعدنا، رفضت أن تكون في الداخل، واكتفت فقط بمساحة تضمها في الخارج...بالحديقة، لم تكلفنا شيء، فلقد اعتمدت على نفسها كليا...لا طعام ،ولا شراب ،ولا كسوة ، ولا كساء،ارتدت ثوب المتصوفة،فارتداها الكفاف،الذي استغنت عليه ...هو الأخر، لتطير عارية وعالية إلي أحضان السماء.

كنا ندخل ونخرج، نمر من أمامها ومن خلفها، نكاد لا نعير لها اهتماما...أو لنقول بصراحة لم نلتفت لها أصلا،بقدر ما كانت هي موجودة ،نكرنا وجودها نحن ،وكأنها لم تكن ،والواقع هو أن ،بالمقارنة معها ،فنحن الذين لم نكن ،....فأين نحن من هامتها الكبيرة،من جمالها الأخاذ، ومن كبرياها المزدان بالصمت...الصمت التام.

لم تعاتبنا، ولم تغضب منا، ولم تعاملنا بالمثل، بل على العكس من ذلك، فلقد كانت تفتح ذراعيها، لتضمنا حولها وداخلها...تظلنا كلما هربنا إليها، خائفين، نطلب الحماية من هول الطبيعة، ومن الأيام، أصبغت علينا الحنان، بسرور أعمها، حتى كنا نشعر به، لقد كنا نرى ابتسامتها ونحن في حضنها، ولقد كنا نرى استعدادها للموت مستبسلة في الدفاع عنا...لن تذهب إلي الشر، ولكن ويلا للشر إذا أتى لها، وحاول إيذاء من يحتموا بها...ستكون انتحارية...فهي موجودة لنا ومن أجلنا.

لقد راقبتنا عندما كنا أطفال، وراقبت أطفالنا حين كانوا أطفال، كبرت معهم، كما كبرت معنا...غادر بعضنا، وذهب بعضنا، ورحل بعضنا...تألمت للفراق، سكنها الحزن، استعانت بالصبر، وهي ترفع وجهها إلي السماء، من أجل أن تخفي دموعها...لهذا هي لا زالت باقية.

حتى الموت خاف عندما حاول الاقتراب منها ، نزفها،قطع بعضا من أوصالها ،لم تستسلم، ولم يجرؤ هو على الاقتراب منها...فبقت.لم نساعدها في محنتها، ولم نكترث إلي آهاتها، لقد كنا نجري من أمامها...لا نريد أن نسمع آهاتها...للحقيقة مرة أخرى ...آهاتها كانت مكبوتة ، لم ترد أن تزعجنا بها،كنا نرى دمائها تسيل على الأرض،فنكتفي بالنظر إليها،لتأتي أمي أو أحد أخواتي،لغرض تنظيف الأرضية من هذه الدماء...وهن يلعن،ويبالغن بالشكوى...يطلقن شعارات الويل والثبور،رافعين القبضات،مهددين بإرغامها على الخروج من المكان،وطردها شر طردة، عاقدين هن العزم في بعض الأحيان،على قتلها...قتل رحيم...فارفض أنا.

شفيت هي...ولازالت، تأخذ الجميع إليها سواء، ليس كالسابق بأوصالها...لأنهم ببساطة قطعوا،ولكن بحنانها وحبها للتضحية...هي تعطي الشعور، والشعور لا يحتاج إلي أطراف.
لازالت تسأل عن أبي، الذي خرج ولم يعد، وتسأل عن الجدة التي خرجت ولم تعد، وتسأل عن الأخت التي خرجت ولم تعد...حتى قطتنا رفيقتها لم تكف بالسؤال عنها منذ أن غابت ولم تعد تراها...ولم تعد.

لم أعرف إن كان ما فعلت تكريما لها، أم أنه تكريما لي....أما أني وأنا أتقدم في العمر، أريد أن أستعير منها الشجاعة والصبر...والحكمة، أو أن أتعلم في عمري هذا أن أعطي بدون أن أخد، أو أنني أردت رفيق، بعد أن غادرني أطفالي...وصرت أسأل عنهم...لأنهم لم يعودوا...لا أدري ،فأنا لا أعرف أن أصف ما يعتريني،فحياتي اقتصرت على الجري وراء الأشياء،ولم أكن مثلها قانعا، اكتفي بالوقوف وارقب سخرية الحياة.

فقررت... أن أفتح في حائط منزلي ناقدة كبيرة...جدا،وتعمدت غياب الستائر،كي أراها كل وقتا وحين...تقدم بها العمر، ولكن أتعلمون... إنها لازالت جميلة، يانعة.أفتح النافدة ،تدخل إلي ،تعانقني...آه ما أطيب روائحها الزكية،التي تزداد ،كلما بللها المطر...لم أصدق نفسي، وأنا أرى أوصال جديدة قد نمت وامتدت لتدخل إلي عبر النافدة...من أجلي لبست حلة، تمنع الخريف أن ينتزعها، فلأجل إنني أريد أن أراها، تسعي هي لتعطيني كل شيء... لازالت تحتفظ بالجميل.
حبيبتي هي...هذه الشجرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي