الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعد أن صار العالم الحداثى افتراضيا وما بعده حقيقيا .. العقل اليسارى المصرى فى عالم ما بعد الحداثة ، نقداً

فكرى عبد المطلب

2011 / 11 / 24
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


بعد أن صار العالم الحداثى افتراضيا وما بعده حقيقيا
العقل اليسارى المصرى فى عالم ما بعد الحداثة ، نقداً

• " فى المجتمع والثقافة المعاصرين – مجتمع ما بعد صناعى ، ثقافة ما بعد حداثية – يصاغ سؤال مشروعية المعرفة بمفردات مختلفة 0 فقد فقدت الحكاية الكبرى مصداقيتها ، بصرف النظر عن نمط التوحيد الذى تستخدمه ، وبصرف النظر عما إذا كانت حكاية تأملية أم حكاية تحرر " .
جان فرانسوا ليوتار (*)
اكتسبت ثورة 25 يناير الشبابية فى مصر- وكذا نظيرتها التونسية ، من قبل – افاقا يسارية – مابعد حداثية – ملموحة ،عبر الروابط التقنية غير المسبوقة فى عوالم التحديث الصناعية ، بكل مكوناتها الأيديولوجية والعقائدية المغلقة . وهو مافضح مدى العقم المعرفى الذى أصا ب تلك المكونات فى مواجهة التحولات العالمية مقارنة بثورتى تونس ومصر الفتيتين ، بعدما جمعتا بين فضيلتلى العدل والحرية فى مشهد جديد ، يتجادل مع مفهومات وتطلعات حركات اليسار الصاعدة ، فى أقطار أمريكا اللاتينية ، ومع ذلك التوهج الفعال لحركة الاحتجاج العالمية ، المناهضة للعولمة الرأسمالية – التى انطلقت ، منذ عقود ، من أراضى هذه القارة الفتية (البرازيل تحديداً) – بعدما انذوت حركات اليسار العربية التقليدية، ولاسيما المصرية، منها ، داخل أقبية أيديولوجية وتنظيمية ، لاتزال سراديبها تنضح بمقولات لينينية وستالينية توتاليتارية ، مضت ، وبليت ، تلك التى حاصرت وسجنت – من قبل – الرؤى الخلاقة للمنتج / المُنشأ (ماركس) ، ناهيك عن التلفيقات البعثية والناصرية والقوموية ، التى تعايشت – كغيرها – على المقولات ، السابق ذكرها ، وعلى ما شابهها من طروحات شعبوية وإسلاموية ، حداثوية ، وكانت النتيجة ، ذلك الاخفاق المدوى لليسار العربى ، والمصرى ، سياسياً، ومعرفياً ، لينصرف العديد من كوادره ومناصريه ، بعيداً عنه ، إما إلى سلفية إسلاموية ، مستجدة ، ترعاها سلطات وقوى مالية وإعلامية ، متعاظمة الشأن ، عربية ، دولية ، وإما إلى ليبرالية ، مُدعاة التجدد ، ضمن أفق أمريكى ، عدوانى ، ومستبد ، ومحافظ ، ترعاها مؤسسات وشركات ، متعدية الجنسية ، وعابرة للقارات ، فيما تحيا الأجيال العربية الصاعدة ، تمزق اللحظة الراهنة ، بعبثيتها ، وعدميتها ، ورخاوتها ، وفى ذلك المجتمع العالمى ، الذى بات يعرف بـ " مجتمع المشهد " .


تجاوز معرفى
بيد أن المساعى التى يضطلع بها ، بعض من طلائع اليسار العربى والمصرى – لأجل تجاوز مآزقه – لاتزال تصب فى أفق يتجاذبه قديم الخطاب السياسى ، لذلك اليسار ، وجديد التحولات والانقلابات الجارية ، فى هذا العالم ، على مختلف أصعدته الفكرية والمعرفية ، السياسية والاقتصادية ، الاجتماعية والأخلاقية . وها هنا ، تمثل الطروحات التى أذاعها ، مؤخراً ، عبد المنعم تليمة ، أنموذجاً متبلوراً ، لذلك التجاور المعرفى لمفاهيم ، تنتمى إلى زمانيين متعاكسين ، زمن التفكير الحداثى ، الأفل نجمه ، وزمن التفكير الما بعد الحداثى ، البازغة أنواره ، المعرفية والتنظيمية ، وحداثته الخالية من الأحلام والآمال التى مكنت البشر من احتمال الحداثة القديمة كما يقول هيبداج ، بيد أن ذلك التجاور الزمانى من المفاهيم ، التى رشحتها طروحات تليمة لا يحد من موضوعية هذه الطروحات ، إذ أن زمن ما بعد الحداثة ، الجارى فصوله ، منذ عقود قليلة ، خلت ، هو استمرار لما سبق من زمن الحداثة ، وانفصال عنه ، فى آن ، لذا هو زمن " التمفصل " – على حد وصف عالم الفلسفة صلاح قنصوه - بين زمانين ، بين التشابه ، الباهتة ملامحه ، والاختلاف ، المُغممة قسماته ، ومن حيث وحدة قديم الرؤية الحداثية وتمركزها الرخو ، حول ذاتها ، وتمزقها المتشذى ، فى مختلف الآفاق ، بحسب ما يشير إلى ذلك إثنان ، من أبرز فلاسفة ما بعد الحداثة ، وهما إيهاب حسن ومارجريت روز، وهو ما دعا حسن لوصف زمننا الراهن بزمن " استحالة التحديد " ، أما طروحات تليمة فإنها تجافى ذلك العالم دون المحدد ، كما عبر عنها فى مقالات ثلاث ، نشرتها له ، تباعاً ، أسبوعية الأهرام العربى المصرية ، فى وقت سابق، وصدرت فى كتيب مستقل ، تحت عنوان جامع ، تصدرها ، هو : " المصريون يستأنفون مبادرتهم فى التاريخ الحديث " ، فيما حملت كل مقالة عنواناً مستقلاً ، بذاتها ، وهى على التوالى : " أعمدة النهضة المصرية " ، "التطور الديمقراطى السلمى" ، " تخطيط أولىَّ للمستقبل " ، وعلى الرغم من إقرار تليمة ، منذ مطلع مقالته الأولى ، بأن ثمة " بشرية جديدة قد بدأت تاريخاً جديداً " ، إلى حد وصف ما يجرى بـ" الثورة الشاملة " ، التى " تغير الحياة على كوكب الأرض " ، فإنه يسارع – وعبر تحديدات حداثية قاطعة – بتلمس ما أسماه معالم " النهضة – الصحوة " ، المصرية الراهنة ، والتى تقوم – برأيه – على أعمدة ، حصرها ، فى ستة ، ضمن الداخل المصرى ، وخمسة مع خارجه ، تتصل الأولى بما أسماه : تصفية احتكار إدارة البلاد ، سياسياً ، من جانب قوة سياسية وحيدة ، واحتكار الدولة لإدارة شئون الحياة العامة ، واستكمال مؤسسات المجتمع المدنى ، وإعادة توزيع الثروة الاجتماعية ، كى تسد " الأغلبية المرهقة ضرورات الحياة " ، وأن يصير للعلم وتطبيقاته زمام القيادة فى العمل المصرى ، وذلك فى إطار برنامج إصلاح شامل ، أما أعمدة النهوض مع الخارج فتتضمن : تصحيح علاقات مصر بالعالم ، عبر الحوار الثقافى ، والإقرار بتعدد العناصر المكونة للوطن العربى ومصر ، فالأخيرة وطن افريقى آسيوى عربى مسلم أوسط متوسطى ، دون تغليب واحدة من هذه السمات على الآخرى، ثم تزكية تعدد الأقطاب ، وتزكية الحركة الشعبية الديمقراطية العالمية (أى المناهضة للعولمة الرأسمالية) ، وأخيراً المشاركة فى تأسيس نظام جديد لإدارة العالم ، عبر إعادة هيكلة منظمة الأمم المتحدة ، كى تتسع أوعيته لتمثيل متوازن وعادل لجميع الشعوب .
واللافت فى طرح تليمة ، هذا ، هو ذلك التداخل بين الطابع ما بعد الحداثى الآنى ، والطابع الحداثى الغابر ، فالصياغات تتسم بالعمومية المُفرطة ، تأتى أقرب إلى المبادىء الفلسفية العامة ، الصالحة للعرض فى كل الأزمة والأمكنة العالم ثالثية ، على الرغم من أن الجمهور الذى يخاطبه ، هو – هنا - هم المصريون ، وليس غيرهم ، ليصير ذلك الخطاب اللامحدد ما بعد حداثى ، لكنه يظل – كذلك – حداثياً ، من حيث اضطرار فئات من الكُتاب للعمل بتلك اللغة فى وجه سلطة الاكراه ، التى فرضتها ثقافة المؤسسة / الدولة على العقل العام ، وخاصة فى مصر ، على مد عقود مضت . وهو ما يحيل إلى سمات حداثية أخرى ، تبدت ، بجلاء فى سياق طروحاته ، والمتمثلة فى ذلك التحديد السياسى للامحدد سياسياً ، وذلك فيما يتصل باصطلاح "القوى"إذ يصنف تليمة سلطة الدولة المتجبرة بالقوة السياسية ، التى ينبغى تصفية احتكارها لإدارة البلاد ، على الرغم من كونها قوة بيروقراطية بوليسية – بالأساس – مما يخرجها من صفة القوة / التيار / الحزب الشعبى ، وهو ما يقره تليمة ، فى مقالته الثالثة ، من أن أى من قوى مصر السياسية لم تتول – منفردة أو مجتمعة – إدارة شئون البلاد ، ومن شارك كانوا محض أحاد منها – بأشخاصهم وليس بـبرامجهم – تحت مظلة الحكم ، فى أوقاته.
أما " القوى" التى يشير تليمة إلى فعاليتها الراهنة فيحددها – حداثياً – فى الليبرالية ، والسلفية، والاشتراكية ، والقومية (من ناصرية وبعثية وغيرها) ، وهو تحديد يتكأ على تاريخ بدأ قبل أكثر من 90 عاماً وينتهى قب نحو 60 سنة ، وهو ما حمل تليمة ، على الاستدراك – فيما بعد – بقوله أن هذه القوى ليست قوى سياسية ، بالمصطلح الفنى ، بل هى قوى شعبية ، ذات أصول اجتماعية ، وجذور ثقافية ، وربما جاز قول تليمة ، هذا ، نظراً لحرمان تلك الاتجاهات من ممارسة العمل السياسى العلنى ، والحر ، لأكثر من خمسة عقود ، متصلة ، لكن ، يظل غياب هذه الاتجاهات – أو تغييبها ، بالأحرى – غياباً ثقافياً ، فى ذات الآن ، إستناداً إلى النظر الحداثى ، الذى يوليه تليمة اعتباراً متعاظماً ، فى هذا الشأن ، فمع انعدام – أو ما يكاد – تجلى العبارة السياسية / الثقافية لهذا الاتجاه ، أو ذاك ، تتميع كل عبارة فى أتون العبارة المهيمنة ، أى العبارة الشمولية ، التى سادت مصر ، منذ عقود ، ولاتزال ، بقوة ونفاذ سلطة الدولة ، ليجرى التنافس بين عبارات غارقة فى شموليتها ، الاستبدادية ، والنصر لما كان له قدرة التلاعب الأوفر ، سواء بالمأثور الدينى ، فى حالة السلفيين (إخواناً ، ومن شابههم) أو بسلاح الإخافة من المجهول ، فى حالة السلطة ، ومن والاها ، وهو سلاح قديم الزمن ، حيث أقر أحد قدامى فلاسفة الحداثة ، وهو هوبز " أن الشعور الذى لابد من استثارته فى سبيل فرض السيطرة الفعالة هو الخوف " ، لأنه برأيه هو " الذى يقيد النظام الاجتماعى ويضمنه " ، لذا يبقى الخوف ، إلى يومنا ، هذا ، آلية التحكم الرئيسية التى تخترق المجتمع والمشهد والصورة ، بحسب ما يذكر مايكل هاردت، وانطونيو نيغرى ، فى كتابهما المثير : "إمبراطورية العولمة الجديدة " .
كُتل شمولية
إن ما نعنيه – هنا – هو أن تلك الاتجاهات السياسية / الثقافية / التاريخية – التى عددها تليمة) سلفاً – تنتمى إلى عصر حداثى ، انقضت فعاليته فيهم ، وفعاليتهم فيه ، لينتهى جلهم إما إلى كتلة شمولية مسمطة ، وإما إلى شظايا تتفتت مرجعياتها وتتضارب فيما بينها ، ضمن عالم يدوى بكل ما هو ما بعد حداثى ، على صعيد الاتساع الهائل للوعى ، الذى صار ينظر إليه على أنه معلومات ، والتاريخ على أنه حدوث ، بحسب ما يلفتنا إليه إيهاب حسن ، بيد أن تليمة لايزال يعتقد – حداثياً – بجدوى هذه الحدوث ، إذ يعلق صواب السبيل المصرى إلى المستقبل ببلوغ برنامج إصلاح شامل ، تستلهم متونه من فحوى مشروعات القوى الأربع ، بوصفها "القوى التى رشحها التاريخ المصرى فى القرنين الماضيين لبناء مصر الحديثة والمعاصرة " ، كما جاء فى مقالته الثانية لكن ، هذا الاستلهام يظل محدداً – برأيه – بغايات أربع لا تتجاوزها ، غايات أخرى ، ولا سبيل لغيرها ، كى تحط مصر إلى المستقبل المرتجى - من تليمة - لبلاده ، وهى استكمال مهام " التحرير " ، من الاستبداد الخارجى (الاستعمار) والداخلى (احتكار السلطة) ، فـ " التحديث " ، والذى يعنى – برأيه – استكمال بناء مؤسسات المجتمع الحديث ، بآفاق عصرية ومستقبلية ، فـ " التعقيل " ، عبر الاعتداد به فى كل نظر ، وقرار ، وفى صياغة كل قانون ، وعلاقة ، وأخيراً " التوحيد "، وهنا يعود تليمة للتطرق إلى ضرورة "الاعتراف المتبادل بين قوى المجتمع السياسية والفكرية " ، مستلهماً التاريخية المصرية أو ما يسميه ، هو ، " قانون التاريخ المصرى " ، الذى يكمن – برأيه – فى التفاعل بين قوى المجتمع، لكون التعددية " أساس الوحدة ، والوحدة حامية التعددية " ، طبقاً لتعبير تليمة .
وتتعاظم فعالية هذه التاريخية ، حين يستأنف تليمة الحديث عن دورها ، فى تحديد مسار نهضة مصر ، أو ديمومة ثورتها – كما يوضح فى مقالته الثالثة – فلتلك النهضة – كما يقول- أطوار أربع ، بدأ طورها الأول بخروج المصريين ضد الفرنسيين ، فى نهايات القرن الثامن عشر ،والثانى بالخروج ضد الإنجليز والخديو (الحاكم التركى) بقيادة عرابى (1881)، ثم خروجهم ضد الإثنين ، بقيادة سعد زغول (1919) ، وأخيراً بخروج الجيش ، وإنهاء سيطرتهما على حكم البلاد (1952) .
جُرح الهوية
واللافت فى ذلك التحديد الحداثى لأطوار النهوض المصرى هو اتخاذ القرن الـ 18 نقطة إنطلاق لهذا النهوض ، بوصفه النهوض المنتمى إلى الحداثة ، أو التحديث ، مقابل القديم ، أو التقليدى ، كما دأب الحداثيون ، بشتى انتماءاتهم واتجاهاتهم ، التشديد عليه ، حتى صار لديهم، ولدى من حذا حذوهم ، بداهة مستقرة ، وبعد أن شاعت فى الأدبيات الفكرية والسياسية ، ليبرالية كانت ، أم يسارية وقومية . فالقرن الثامن عشر – برأيهم – كان هو قرن التحديث الأوروبى ، الذى ينبغى للتاريخ المصرى ، بل ولتاريخ أقطار كل المناطق الأخرى ، أن يتماهى معه ، بحيث صار التحديث – أو التطوير ، إن شئت الدقة – أمراً أوروبياً خالصاً ، يتمركز فى إقليمها ، وعلى الشعوب الأخرى الدوران حوله ، كى تتجاوز تعثرها القائم بفعل ثقافاتها المعوقة ، لكل تقدم(!) وذلك فى مقابل ما تروجه الحركات الإسلامية من أن عصر السلف الحق هو نقطة الانطلاق لكل تنوير وتحديث .
بيد أن الدراسات ما بعد الحداثية ، كما تتبدى فى مدارس وحركات نقد الاستشراق والمركزية الأوروبية ، وتاريخ ما قبل الاستعمار ، تُبين – بجلاء – مدى تهافت خرافة الترابط بين الحداثة الأوروبية وما قبل الحداثة ، لدى الشعوب الأخرى ، ورخاوة التعميم المسرف حول مثالية العصور الإسلامية الأولى ، إذ ترسم دراسات وطروحات عجم وعرب ، مثل أندريه ريمون وعفاف مرسو ، وبيتر جران ونيلى حنا ، وفرد لوسون وعبد الرحمن عبد الرحيم ، وعلى بركات ، ومحمد عفيفى ، واقع التفاعلات التحديثية التى جرت فى مصر وبلاد الشام، بين خبرات النخبة الفكرية المكتسبة ، وتشابكها مع العقل البرجوازى الصاعد ، محلياً ، خلال القرنين الـ 17 والـ 18 ، وهو ما وسم علماء هذا العصر بالموسوعية ، ناهيك عن انحياز العديد منهم للدراسات التجريدية لا الاستنباطية فى علوم مثل التشريح (انظر مقالينا بـ جريدة"العرب" اللندنية فى 9و16 فبراير 2006) ، وهو ما دعا مؤرخاً لامعاً ، مثل جران للاعراب عن أمله فى أن يُقدم أحد الباحثين ، على درس كتابات ممن أسماهم " مثقفو القاهرة " فى أواخر القرن الـ18، بغية عقد المقارنة بين أعمالهم وأعمال معاصريهم " فى عصر التنوير فى أوروبا والعالم الجديد " ، وذلك بعدما توافرت لجران إمكانات دراسة مخطوطات الجامع الأزهر ، وكذا أعمال العلامة المصرى حسن العطار ، خلال هذا العصر ، وما بعده ، والتى كشفت له عن سمتين رئيسيتين ، وهما العقلانية والتعددية الفكرية والسياسية ، ضمن الأنماط التى عرفها هذا العصر ، والمتمثلة فى التجمعات والتنظيمات الصوفية ، وهما سمتان يشدد تليمة على وجوب توافرهما فى المجتمع الذى يتسم بالحداثة ، إلا أن الحداثة الأوروبية – ويلاالمفارقة – هى التى أضرت ، بشدة ، بتطور الحداثة المصرية ، عبر الغزوات الأوروبية لأراضيها ، ومنافسات رأسماليتها على ثرواتها ، فيما ظلت بعثات محمد على الأوروبية غير ذى تأثير كبير ، على واقع التحديث المصرى – كما يرى جران – إن لم تكن الأضرار التى سببتها هذه البعثات ، أعظم من نفعها ، من حيث فوقيتها واستعلائها على الثقافة المحلية ، وافتتاحها لعصر الازدواجية الثقافية والحضارية ، فيما بات يعرف ، إلى اليوم ، بجرح الهوية، وهى الهوية التى حملت تليمة على البحث عن جذورها فى أعماق التاريخ المصرى القديم ، وتحديداً فى طورها الفرعونى الأول ، مستنداً فى ذلك إلى مناهج الحداثة القائلة بوجود " ما يميز مجموعة تاريخية من البشر " ، وهو ما يفارق قوله ، فى موضع آخر ، من مقالته الثالثة ، من أن نهوض النظر المستقبلى يقوم على " جدلية بشرية ، تتراجع فيها المفهومات المنغلقة ، التى لا تعتد بالمشترك الإنسانى ، فتفصل بين ما عليه المجتمع وما يجرى على كوكب الأرض ، فتغيم الأواصر بين المحلى والعالمى (...) " ، وهو أمر يقع فى قلب عالم ما بعد الحداثة ، الذى يشكل عصوراً صعبة التحديد ، وتنفلت عن الأطر والمناهج والتصورات ، التى صاغتنا ، وصغناها ، فى محاولة فهمنا للعالم ، ولأنفسنا ولظواهرنا ولغتنا وأفكارنا ، وأساليب تفكيرنا ومناهجه ومعانينا ، حيث لم تعد صالحة ، كلياً ، لوصف ما بعد الحديث ، على حد ما يذهب الباحث المصرى نبيل عبد الفتاح ، فى واحدة من أبحاثه ، المتصلة بهذا الأمر .
بيد أن ذلك لا يحوول دون الجدة التى اتسمت بها طروحات تليمة ، المنفتحة على تراثه اليسارى التليد ، وتقلبات معارف عصره الجديد ، لتظل تلك الطروحات لا متناهية فى عالم ما بعد الحداثة ، عبر الجدلية والتفاعل ، مع طروحات أخرى ، لا متناهية ، أيضاً ، فى فعاليتها ، وكما يقول ليونار : " إن الفنان أو الكاتب ما بعد الحداثى ، فى وضع الفيلسوف : فالنص الذى يكتبه ، والعمل الذى ينتجه لا تحكمهما ، من حيث المبدأ قواعد راسخة سلفاً ، ولا يمكن الحكم عليهما طبقاً لحكم قاطع عن طريق تطبيق مقولات مألوفة على النص أو العمل . فهذه القواعد والمقولات هى ما يفتش عنه العمل الفنى ذاته ، الفنان والكاتب ، إذن ، يعملان دون قواعد لكى يصوغا قواعد ما تم عمله فعلاً ومن هنا حقيقة أن للعمل والنص سمات – حدثُُ – ومن هنا أيضاً ، فإنهما دائماً ما يأتيان متأخرين جداً بالنسبة لمؤلفهما " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رد فعل لا يصدق لزرافة إثر تقويم طبيب لعظام رقبتها


.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصفه بنى تحتية عسكرية لحزب الله في كفر




.. محاولات طفل جمع بقايا المساعدات الإنسانية في غزة


.. ما أهم ما تناوله الإعلام الإسرائيلي بشأن الحرب على غزة؟




.. 1.3 مليار دولار جائزة يانصيب أمريكية لمهاجر