الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فينومينولوجيا -النحن-وملابسات الهوية

الناصر عبد اللاوي

2011 / 11 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


فينومينولوجيا "النحن" وملابسات "الهوية":قراءة نقدية للدكتور فتحي المسكيني

المقدمة
إنّ مسالة فينومينولوجيا "النحن" قد اتخذت منعرجا خطيرا في عالمنا المعاصر خصوصا إذا نظرنا إليها من جهة المعضلات التي تمتحنها ،ونحن ندرك أزمة العصر التي تفاقمت في ظل الحروب وصدام الحضارات والأديان مما دعا البعض إلى تأصيل الكيان وإثبات الحضور القومي والعرقي .ولكن هذا التصور قد شرع في الزوال من خلال المنظورات المتعددة للمقاربة الايتيقية ،ومن ذلك المقاربة التأويلية التي تتخذ من اللغة منعطفا جديدا يتجاوز النزعة الذاتية التي تجد مدار اهتمامها في مركزية الوعي. وقد شملت تقريبا كل التوجهات المثالية ،بداية من ديكارت الذي أصل هذا التوجه في "الأنا أفكر " مرورا بهيغل الذي ارتقى بالتفكير إلى مستوى "الروح المطلق" وصولا إلى هوسرل رائد التوجه الفينومينولوجي في مسلكيته المحضة والمتعالية .
ونحن إذ نمتحن هذه المسألة غرضنا أن نكشف عن تصور المفكر التونسي فتحي المسكيني الذي اقتحم الهوية من الناحية الهرمينوطيقية وقد سخر لها الألسنية كفضاء خصب يرصد فيه الفضاء الإشكالي المعاصر للهوية .وهذا التوجه الخطير في اقتحام إحداثية "فينومينولوجيا النحن" تفعيلا تاويليا للمشروع الفكري العربي بصفة خاصة أو لنقل أنها كأفق لغوي جديد تستكشف المعنى .
وهذا الاهتمام الفلسفي للتوجه الجديد أعلن عنه الدكتور فتحي المسكيني في أطروحة الدكتوراه الدولة (1) التي تعد من أهم الأطروحات في تاريخ الجامعة التونسية ،من جهة المادة التي سخرها لها فتحي المسكيني من المنابع الأصلية وأعني بالتحديد المصادر الألمانية والانقليزية وأصول منابت الفلسفة العربية الوسيطة .والطاقة التي استنزفها في الترجمة كمحاولات جدية. الهدف منها إخراج مسألة طريفة تدخل بلغة السابقين في إطارا المساجلة بين رائدين من الفكر الغربي وأعني هيغل- هيدجر وقد حدد لرسالته عنوان" المناظرة الهيدغرية مع هيغل".
فكيف ساهمت هذه المقاربة المعاصرة في استشكال المعقولية الفلسفية؟وماهي رهاناتها الفلسفية في تأسيس خطاب تأويلي يعنى بفينومينولوجيا"النحن"لإعادة بناء مكتسباتنا الايتيقية؟
إنّ المناظرة تكشف عن مشكل يعنى بالمعقولية في تاريخ الأفكار منظورا إليها من جهة تصور هيرمينوطيقي يتضمن في جوهره لحظات الالتقاء والتباعد وفق منظورات متعددة تختزل الكثرة في الوحدة ،لترتفع بمشكلة الإنسان العالمي الذي يظل مرافقا في تجاربه لمنابت متأصلة في التفكير المتعالي وهو يحتفل بتمام كماله مبتهجا بالروح المطلق التي رفعت طور الفكر الإنساني لنهاية نسقيّة يتماثل فيها العقلي بالواقعي وهي رؤية هيغلية نابعة من شغفه بالنسقية والصيرورة التاريخية).
أما الطور الثاني فيجسده هيدجر الذي قد انتهج تمش مغاير لتجاوز التصّور الابسيمولوجي قصد تأسيس التأويلية ضمن مدار إشكالي يعنى بالانطولوجيا. فهو طرح مشروعه التأويلي في التحرير الكامل للتأويلية من هيمنة نظرية المعرفة والنموذج الابستيمولوجي. وذلك قصد الطرح لمشكلتها كمنظوريه جديدة تحترف مسألة . فالسؤال الحقيقي الذي يجب بلورته في مسلكية التفكير الهيدجري الذي يرصد مسألة معنى الكينونة، ليس كيف نعرف؟ في رؤية تحتفل بالممكن الفلسفي من جهة الوجوب والإمكان ،والتي يمكن ترجمتها، ما هي شروط إمكانية الفهم؟ بل ما هو نمط وجود الدازاين الذي يمتاز حضوره ووجوده بالفهم؟ كما إن منهجه ليس متعاليا على شاكلة النقد الكانطي (ترنسندنتالي).
وهو يتخذ منعرجا مختلفا للمنهج الفينومينولوجي لهوسرل الذي يقر بحدس الماهيات وما يطلق عليه"الحدس الايدوسي"الذي يقتضي العودة إلى الأشياء عينها" .ولكن مسلكية الانطولوجيا تهدف لمسارات التعلم والتطور.لتملكها الألسنية كشكل راق في فن الكتابة المعاصرة ،معنى هذا أن التأويلية ترتبط أساسا بمسألة الكينونة التي تقتضي ضرورة نمط وجود الدازاين في العالم قبل ارتباطها بنظرية المعرفة المنبثقة من لدن الذات الإنسانية. فالتأويلية وفق المشروع العربي الذي يطرحه الدكتور المسكيني لايمكن تأويلها في ظل راهنية العصر ومقتضيات العولمة إلا من خلال مراجعته وإعادة بنائه بالعودة وجوبا للمصادر التي نهل منها في ظل حضور التأويلية .
وقد انبجست إرهاصاتها في فلسفة شلايرماخر ودلتاي* الذي يشرح علاقة التجربة الحية ،التعبير والفهم تحديدا على مستوى منهجي صارم .فهو يطور تضمينات هرمنوطيقا علوم الفكر انطلاقا من البيوغرافيا .وليس لهذا الاختيار معنى نسقي ،ولاينبغي له أن يستبق الحكم على موقف تاريخي بيوغرافي .والبيوغرافيا الذاتية تقدم نفسها من أجل استقصاء أساليب عمل الهرمنوطيقية التي هي ملزمة من أجل تفسير تاريخي عالمي فقط لأنها تعطي نموذجا عيانيا من أجل معرفة "كيف يمكن لوعينا أن يعمل لكي يتدبر أمره مع الحياة"(180-181.
التي كان قد استلهم منها هيدجر في بداية مسيرته مفهوم ومشروع التأويلية والذي أعلن عنها بصقة صريحة في ص95 cheminement vers la parole فهي باستذكار السؤال المنسي من لدن تاريخ الفلسفة أي سؤال معنى الكينونة قد توضحت معالمها في كينونة وزمان وتدقيقا عام 1927.
ولكن علينا أن نرصد المشكل الذي يفتتح به المسكيني مشروعه الفلسفي الذي يقترحه في إطار مشكلا معقدا يرتبط بالراهن الذي فرض علينا نمطا جديدا في "فهمنا لأنفسنا أولا" ومقاربتنا فكريا لتاريخ الأفكار بما أن الأرضية التي تحرك أفق التأويل والمعنى تظل رهينة المعقولية .وهي إمكانية لرصد الأفق الابستيمي الذي لا يمكن مجاوزته وتناسيه وهذا ما يجعلنا نستحضر السؤال الذي يفتتح به رسالته منذ الديباجة "ما معنى أن نؤرخ لمسألة "المناظرة الهيدغرية مع هيغل"؟
هذا الطرح الفلسفي يستقي مقام راهنيته من الأفق اللغوي الذي يمثل إحداثية جديدة في إخراج مسألة المناظرة وفق قول المفكر ذاته"اليوم...يشير إلى الحقبة التي صار يشار إليها راهنا بعبارة المنعرج اللغوي"(2)المنعرج اللغوي أصبح وضعية نظرية فرضت نفسها على مجريات الفلسفة المعاصرة وبهذا يتجاوز الصدام الحاصل بين المناطقة والفينومينولوجيين كما بلور معالمها كارناب . إضافة إلى أن المسكيني يعيد النظر في المتن الماركسي من جهة "الدعوة إلى القيام بمناقشة ابستيمولوجية لنظرية ماركس من الداخل بحيث تعمل على تغيير مركز الثقل فيها من البنى التحتية (الاقتصاد السياسي) إلى "البنى الفوقية(الظواهر الثقافية)" (3 )
وذلك بالعودة إلى المنعرج اللساني الذي تم تأويله من لدن هابرماس في إخراج الهوية التداولية .إذ إن مساهمته تكمن في افتراضه "الفعل التواصلي مقاما منهجيا غير مسبوق لإعادة بناء التطور الإجتماعي " بوصفه لم يعد مجرد مفعول لعلاقات الإنتاج ،بل صار يتشكل ويعمل وفقا لمعايير معيارية.(4)
ولعل الدكتور فتحي المسكيني قد احترف داخل هذا الفضاء الإشكالي من جهة الوقوف على الملابسات والتداعيات الخطيرة التي تترجمها مسألة الهوية في ترحالها...متى اقتدارنا على احتمال التفكير في مسألة"الهوية"،وذلك من جهة كونها" مسألة لئن صنفت عادة بوصفها ظاهرة تاريخية ،أو ثقافية،أو أنتروبولوجية نوعية،أو عينية نفسية تكشف عن مدى انحسار مساحة الوعي لدينا".(5)
إذ يعود بالهوية على الإرث العربي في محاولة منه لإخراج الفكر العربي من سباته حينما أبصر "تدبر لفظة" الهوية "أن صرفها بلفظة "التهوي"(6) وهي إمكانية لتأصيل البعد الايتيمولوجي للهوية في مقاربة قروسطية تعود من جديد لمصالحة الراهن واستحضار لمسلكية الماهو قبل أن يبصر بها ديكارت في تأمله الثاني
والإشكالية التي يعالجها المفكر فتحي المسكيني ترتبط أساسا بتسخير إحداثية اللغة والمنهج التأويلي والهرمينوطيقا كفضاء يوازي اللحظة الفينومينولوجية في بلورة مناظرته الفلسفية والتي حددها على النحو التالي: "أما الخيط الناظم الذي نقترحه للبحث في مسألة "المناظرة الهيدجرية مع هيغل: إنّ هذه المناظرة هي علامة متميزة على حدوث صيغة قارية، هرمينوطيقية ،عن ظاهرة المنعرج اللغوي المعاصر –يختلف في طبيعته عن التخريج الذي قام عليه التقليد الأنغلوسكسوني(7)-نجم عنها شكل مستحدث من التخريج لمشكل "المعقولية" وذلك على وجه الخصوص بكونه قد افترض أن "الزمان"
هو الأفق الإشكالي الأصلي لأي معنى للحقيقة - وليس " الأنا أفكر" وعائلته المقدسة ".
فهذا التصور ليس وليد لحظة فراغ تعيدنا حلقة الصفر كما فكر بها رولان بارت ولاهي أفقا جينيالوجيا يرصد العدمية في ذاك العود الأبدي. وإنما هو تقصي الموجود لإمكانياته "الكونية" مادام الأمر يرتبط بالآن الذي يصلنا بترسانة تكنولوجية مرعبة .تتربص بكل ما استقر لنا من كيان ومعنى، وهي تطمح في تمام تربعها على العولمي أن تبيد كل ماتبقى لنا من شرف الإنسانية الذي داسه العقل الأداتي بكل مكتسباته الآلية، لتشرف في آخر طورها باحتفال جنائزي يسقط فيه صرح الإنساني لمنعطف خطير يترصد بكل ثقله حلقة الفراغ التي تشيأت فيها "الأنا" والنحن"والأنت" والأنتم"بمعنى كل مايترجم حضورنا وماهيتنا كذوات عاقلة وتعي مصيرها، لضمير الغائب الحاضر وأعني ذاك" الهو" و"الهم" لكن هذه المرة ليس في دلالة عالم السطوح كما يفترضه نتشه في منظوريه الحقيقة .ولاهي على شاكلة الهو الكامن في رواسبنا الأوديبية المكبوتة كما عرضها فرويد .
وإنما الأمر أخطر إذا ما أبصرنا "عين ماهيتنا" في أفق ايكولوجي يعيدنا إلى لحظة "بهيمية" تكشف عن مسبقات غريزية أصبحت تتشكل كفضاء جديد سيقصف بالنوع الإنساني في أرضية خصبة جديدة من هذا العالم الآلي . وهذا ماجعل المفكر العربي يعود إلى الأصول الغربية ليكشف لنا الوضع الإنساني وتأزمه مادمنا منخرطين في هذا الكون ومعاصرين لكل مكتسبات العولمة الرقمية .وهذا مايشرع للمسكيني اقتحامه لمسألة الهوية في اطار مقاربة "فينومينولوجيا النحن"
إذ يلخص الدكتور المسكيني مطلبه الأساسي من الإخراج الإشكالي لمسألة الهوية مؤكدا على أن الرهان السري لهذا الكتاب(الهوية والزمان) قد أخذ في التوضيح : إنه الخروج من طور الفحص الأنثروبولوجي –الثقافي عن الهوية إلى طور المساءلة الفلسفية لسؤال "من نحن؟ " بوصفه أمارة فينومينولوجية عن سؤال أنطولوجي لم يأت إليه الفلاسفة المعاصرين إلا بعد أن اخذوا في التحرر من شيئا فشيئا من سيادة براديغم الذات الديكارتية ،ونعني سؤال "من ؟ بعامة ،صرنا نشير إليه بعد هيدجر (1927) وريكور(1990) بمصطلح الهوية.(8)
ولكن طرافة مفكرنا العربي تكمن في الاختزالية المشوبة بالذاتية في استعادتها الذات المبدعة مقاما ألسنيا بمعنى أنه لم يسلك المنهج الوضعي على شاكلة البنيوية ولاهو مقتصرا على مقاربة "الميتا لغة". وإنما منهجه يرتبط بتلك المساجلة التي تراهن على فن إخراج المشكلات دون الدخول في النمطية .وهذا ما جعل محاولته الفلسفية الراهنة تكشف عن كسر كل كرونولوجية تهدف لخط زمني .وبهذا يعيد الهوية إلى أسسها الايتيمولوجي في ايجاد خط ناظم للتصور القديم والوسيط والحديث والمعاصر في دائرة تعنى بهوية إنسانية،
كما تعرضها فلسفات التفكير الحديثة من ديكارت إلى هوسرل ،أو "الراسيو" في صيغته المختلفة التي أعطتها فلسفات العلم التي نشأت في أعقاب الحدث القاليلي من هوبز إلى الوضعية المنطقية وما بعدها ولعل هابرماس قد عاين هذه الوضعية في مستوى الانتقال من براديغم الوعي إلى براديغم اللغة وهو ما اهتم به في كتابه "التفكير المابعد ميتافيزيقي"(9).
ولكن الذي ساهم في اخراج إشكالية اللغة كمطلب راهن هو انخراط الانغلوسكسونيون في مرحلة- مابعد-التحليلية والتي تجاوزت التحليل النحوي للملفوضات الفلسفية (كارناب).
في هذا المستوى من الإستشكال نريد أن نوضح أن مسألة الهوية لدى المسكيني هي محاولة لرصد الفضاء الإشكالي من منطلق إعادة البني الفينومينولوجية التي اضطلع بها في كتابه تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن" ".
من منطلق نقدي ،وتأويلي في الآن نفسه قصد امتحان مسلكية الهوية في عالمنا المعاصر والمناظرات التي يمكن استنباطها أثناء ترحال البحث والتقصي، ونحن لا نخفي المنعطف اللغوي الذي يمثل الأفق الجديد الذي يخرج عن إحداثية الوعي .
وتصور المسكيني يظل حاضرا في الأفق التأويلي باعتبار أن ميزة التفكير تنبع من ذاك الحراك "الديناميت"الذي يظل يوقضنا من سباتنا العميق ويذكرنا بالمنسي الذي لفته قماشة التراث الراكد كجلمود صخر في منابت تأكلتها أزمنة الأطلال الضائعة في الجزر الجرداء.
ولهذا علينا أن نبصر وضعنا الإنساني الجديد في إعادة البناء وفق مسار نقدي يحتمل الأفق المابعد ميتافيزيقي أصلا لكي نمتلك مقومات الحضور الفاعل في كونية تقر بالانفتاح والحركة الدائمة. في إطار يأخذ بأخلاقيات الحوار أفقا جديدا للمناقشة "أن تصورا للديمقراطية مؤسسا على نظرية المناقشة هو الذي يحدد شروط مشروعية السياسة الديمقراطية." (10)
والرهان الذي ينتهي إليه المفكر في رسالته :إن رهان المناظرة الهيدجرية مع هيغل يتمثل في محاولة تغيير براديغم التفلسف بالانتقال من "عقل مركز على الذات "إلى عقل /يجد/موقعه في اللغة" أو إلى العقل المجسد في اللغة حسب عبارة هابرماس إلى ما أشار إليه جان غرايش بعنوان "العقل الهرمينوطيقي أو ما أطلق عليه تيودور كيسيال اسم "المعقولية الهرمينوطيقية".
وقد توضحت أسس اللغة في تفعيلها البرغماتي مع فيتغنشتاين وأستين .وهذه الأرضية الجديدة التي شكات براديغم اللغة كمنزلة أساسية تعنى باللغة تحليلا وتأويلا تأكد مع الفلاسفة القاريين الذين استغلوا في أعمالهم الفلسفية على مقاربة طريفة تعنى ب"الكتابة المابعد-الفينومينولوجية"التي تجاوزت الشكل المتعالي للفينومينولوجيا التي اهتم بها هوسرل إلى مرجعية مستحثة في منهجها والمواضيع التي تشتغل عليها واعني بالتحديد إحداثية الهيرمنوطيقا وقد تدعم هذا المسار الإشكالي الذي يعنى باللغة لدى كل من غادمير وهيدجراللذان انطلقا من مسلمة تحمل على مجريات التأويل ونعني "التفكير على اثر اللغة "والتي ساهمت في تجاوز الفجوة بين التحليليين والتأويليين في قولة شهيرة تعنى بالراهن وتؤسس لمستقبل التفكير التأويلي "
إن الرهان الراهن ،والذي بدا منذ ستينات القرن الماضي هو كسر الجليد –قاريا وانغلوسكسونيا-بين التقليدين التحليلي والتأويلي ،يقول هابرماس في معرض حديثه عن التفكير المابعد ميتافيزيقي "على أننا نرى في هذا المنعطف "الأنطولوجي" للهيرمنوطيقا علامة على منعرج آخر أكثر خطورة هو المنعرج اللغوي الذي دشنته الهيرمنوطيقا الرومانسية الألمانية ،والتي كان شلايرماخر أحد أقطابها "
ولكن علينا أن نتعلم أن ديكارت لم يستعمل مصطلح "الذات" بالمعنى التقني للكلمة الذي شاع لدى المحدثين ونقده المعاصرين منذ هيغل: فإن ديكارت قد استعمل أول الأمر عبارة"الشيء المفكر" التي لا تخرج عن انطولوجيا الجوهر اليونانية-العربية في شيء، وذلك فإن إشكاليته لم تصبح طريفة إلا عندما أخذ ينزاح من "الشيء المفكر إلى الأنا أفكر .إن معنى وجود الموجود بوصفه "هوهو"،لم يتغير من أرسطو إلى كانط ،برغم الزحزحة التي أحدثها ديكارت من انطولوجية الشيء إلى انطولوجية الأنا ،هو ما يزال يفهم "الأنا" بوصفه "هو نفسه" (11).
يبين مفكرنا العربي أن الهوية قديمة في الدلالة وقد استعاد هذا المفهوم في تصور فلاسفة العرب القدماء فهي في أصلها مسألة فلسفية قديمة لا مشاحة فيها ،ليس فقط من أجل أن فلاسفتنا القدامى قد استعملوا لفظة" هوية "... للدلالة على وجود المعنى الذي أقره أرسطو لمفهوم الوجود "متى اقتدارنا على احتمال التفكير في مسألة"الهوية"(12)
وذلك من جهة كونها مسألة لئن صنفت عادة بوصفها ظاهرة تاريخية ،أو ثقافية،أو أنتروبولوجية نوعية، أو عينية نفسية تكشف عن مدى انحسار مساحة الوعي لدينا.
"عن طرافة التحليل التأويلي – النفسي من حيث أنه يبرر مدى تأصيل معنى الهوية في اللاوعي ومن ثمة كيف أن الأنا يغطي كامل مساحة الذات لدينا ،بل ينهل من "لاوعي" لئن كان" مهيكلا كاللغة" حسب عبارة لاكان، فهو" يتكلم أكثر من لهجة " كما يقول فرويد.والهوية وفق تصور سيميولوجي(13) وإن كانت المعقولية هي الأفق الذي ينتصر فيه الدكتور المسكيني ولهذا نلحظه يعود إلى هابرماس في تناوله الفينومينولوجي والتواصل العقلاني والبرهنة على قضاياه المعيارية"يتشكل من خلال الواقع الاجتماعي بالتفاهم." (14) ولعل رهان هابرماس في مسالجة مع رولس"هدف هابرماس من ذلك كله هو مواصلة تقاليد الأنوار من خلال نظرية اجتماعية نقدية تتأسس على ترسيخ قيم الحرية والعدالة" (15) وهويبلغ أوجه لدى هابرماس في مستوى كسمولوجي باعتباره موجه لمنبر عالمي من العقلاء.(16)
فهذا التأويل الذي أرت منه أن أبصر الرهانات الفلسفية بعين مفكرين المعاصرين هي محاولة لمصالحة الفلسفة المغاربية والعربية مع المكاسب الايتيقية التي تحاول أن تراجع مسلكية الفلسفة في ظل هيمنة العقل الأداتي بكل مقوماته التقنية المرعبة وهدفنا الأساسي أن نرتقي بالخطاب الفلسفي الذي أخرسه الصمت في ظل سيطرة نظام العولمة الجديد.

الهوامش:
1) فتحي المسكيني، دكتوراه الدولة المناظرة الهيدغرية مع هيغل،الجزء الأول،المقدمة،ص2الجامعة التونسية.
2) المرجع نفسه ص2
4) فتحي المسكيني ،مقال بعد ماركس المجلة التونسية للدراسات الفلسفية،عدد 40-41 السنة 2006 مطبعة تونس،قرطاج
5) (المسكيني(فتحي) الهوية والزمان ،تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"،دار الطليعة –بيروت،الطبعة الأولى ص6(المقدمة الفلسفة ومعاني الهوية) )
6) المسكيني(فتحي) الهوية والزمان ،تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"،دار الطليعة –بيروت،الطبعة الأولى ص6(المقدمة الفلسفة ومعاني الهوية) الكندي الذي بلغ من تدبر لفظة" الهوية "أن صرفها بلفظة "التهوي"أي كما يقول المحقق عبد الهادي أبو ريدة "صيرورة الشيء هويته":راجع :الكندي ،"كتاب في الفلسفة الأولى"ضمن ،رسائل الكندي الفلسفية (القاهرة ،دار الفكر العربي ،1950صص113، 123
7) الدكتور المسكيني،أطروحة دكتوراة دولة،الجزء الأول،التمهيد ص 2
8) (المسكيني(فتحي) الهوية والزمان ،تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"،دار الطليعة –بيروت،الطبعة الأولى ص6(المقدمة الفلسفة ومعاني الهوية)
(9).Habermas, la pensèe post métaphysique. Essais Philosophiques (1988). Traduit de la Locallemand par R. Rochlitz (Paris A.Colin,)1993).Introduction
(10) Habermas Jürgen (2000), Après l’Etat-nation ; Trad. Rainer Rochlitz Paris, Fayard ; 2000.p121
11) المسكيني(فتحي) الهوية والزمان ،تأويلات فينومينولوجية لمسألة "النحن"،مرجع سابق (الهامش ص7) أنظر الفقرة9 من التأمل الثاني).
(12)المرجع نفسه ص7
(13) الهوية وفق تصور سيميولوجي في مقاربة لجوليا كريستيفيا"كل نظرية لغوية هي تابعة لتصور معيّن عن الذات" ذكرها(المسكيني( فتحي )،الهوية والزمانبة ،تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن ،دار الطليعة،بيروت،الطبعة الأولى
* هابرماس (يورغن)،المعرفة والمصلحة،ترجمة حسن صقر، مراجعة إبراهيم الحيدري، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، كلونيا - ألمانيا 2001 (الفصل الثاني: الوضعية، البرغماتية، التاريخية الجزء السابع المعنون "نظرية دلتاي عن فهم التعبير، هوية الأنا والتواصل اللغوي (169-194( .
14) مصدق(حسن)، يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت, النظرية النقدية التواصلية, المركز الثقافي العربي,الطبعة الأولى, ص. ص182.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية