الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : الشعب يريد....

ادريس الواغيش

2011 / 11 / 28
الادب والفن


رست الحملة أمام مقهى ممتلئ ، والناس مشدوهين إلى التلفاز يتابعون شطحات نجمهم المفضل "ميسي" . كل الأماكن شاغرة ، والآذان منتصبة في خشوع لمذيع بح صوته ، وهو ينقل مباراة الموسم على الضفة الأخرى.
وقف الجميع في الشارع ينصتون إليه ، يجهر بنبوءاته بين الناس....
- سأشغلكم ... ، سأحسن صورتكم وصورة مدينتكم وبلدكم .....
سأعمل على اجتثاث جذور الرشوة من أروقة المكاتب في إداراتكم....
سأرقى بكم إلى السماء السابعة .... ، حيث النقاء والصفاء.
الغاوون والمأجورون والأتباع يطوحون بالمنشورات والشعارات في الهواء على رؤوس المارة ، تنتهي بين أيدي صبية كشقائق النعمان ... كنعناع أخضر، أو تتكدس في مفترق الطرقات تحت إشارات المرور ، يلقون بالصور الملونة للمرشحين يمينا وشمالا. لم تكن الحملة لتخلو أيضا من المغفلين كما في كل المواسم ، فئة تؤمن بنصيبها فترجع إلى ثكناتها في المقاهي ، أو فوق الأسوار القصيرة قرب الشوارع الهامشية .
تدور المسيرات تلو الأخرى وتلف حول الأحياء ، فتعلو الشعرات " الشعب يريد...". تضيع أحلامنا ، طموحاتنا ، خيبتنا في ضجيج الشعارات ، نودع كل حملة إلى آخر سطر في مهب الريح ، لنستقبل أخرى. تضيء النجوم في واضحة النهار، ويطلع البدر مكتملا في ظل حماس ربيعي وشعارات حماسية " الشعب يريد..." ، قبل أن نستفيق فيما بعد على أيامنا الرتيبة. هو لا يريد في الحقيقة شيئا....، فقط زيت وماء وقليل من الخبز. تحاصرك الشعارات والمسيرات أينما حللت في أرجاء المدينة ، تمطرك سماؤها بكثير من الشعارات " الشعب يريد...". تهرب الحبيبة من كل مواعيدها الموسمية ، ويظل " الشعب يريد..." معلقا إلى موسم آخر. أظل واقفا أحترق و " النار تلدغ صدري ، ولا نبع ماء قريب " ، أرقب متى يزهر ورد الربيع في حديقتي . تهمس الأفواه من وراء النوافذ " الشعب يريد..." ، تتبعها تلويحات بأيد بريئة وزغاريد خجولة مترددة . أرقب وردتي وأسميها جهرا كي تتفتح في دمي ، فيضحك مني الورد في وجع ، وتمارس اللحظات علي سطوتها وأنا واقف أرقب الفجر في عز الظهر. تحتبس الرعشة بين أنفاسي وأترقب لمن تفتح أبواب الجنة. لكن لا يهم... ، سأشكل الأرض ثانية على هواي قبل أن ألتزم الحياد. أتحسس جبهتي فأجدت بها ندوبا من سنوات خلت. في الليلة التي تسبق الحملة ، تغتسل الأزقة والشوارع من دنس الماضي وتتزين للعريس في حلتها الجديدة ... : " هيت لك...".
أفكر في مكان آمن لوردتي هذا العام ، كي تتفتح على هواها ويذوب عطرها في جسدي كاملا مثل أغنية غجرية. لكن سدى ...، تأتي الحملات كل موسم لتذكرنا بالأماني ، كل المنسي منها لحظة ثم ننسى سريعا. واقفا كنت وحدي داخل أعماقي ، يبتسم الناس وقد تناسوا أحلاما وأوهاما أو يكشرون في غيض ، يغيب بعضهم لسنوات ثم يظهرون. يبغضني بعض الناس و يحبونني آخرون وأنا متأبط وردتي ، وأحيانا يلعنوني ..، أسمع راضيا ، فأصمت ولا أجيب أحدا. تتنوع إيقاعات الخطو ، يطل الناس من النوافذ والشرفات. أفهم كل شيء وأحيانا أتعب دون أن أفهم أي شيء. يأخذ الناس أوراقهم ، يمزقونها ، يقطعونها وينصرفون غير عابئين : " كلكم بحال - بحال.." - " من وكيل لائحتكم...؟ " - " شفار.../ مزيان...". مشهد مسرحي كوميدي ضاحك / باك ، مع ذلك يصعب الجزم بأنه عابث. تتمنى الشوارع لو ترتاح من هذا ضجيجها المفتعل قليلا وأصحو من غفوتي ، أتظاهر بالصمت أمام عضلات مفتولة ، مستعدة لكل شيء إلا أن تسمعك. قد تحدث مجازر أحيانا ، فيذهب ضحيتها أناس طيبون وأحيانا نتخلص من بعض الأشرار، ملح الحملات والمسيرات ككل موسم ، تنشغل الأفواه قليلا ويتجانس المداد مع الدم. يجهد الحاج / الأستاذ علي جسده المتهالك على المسير في الشارع الطويل ، تتبدل الوجوه في كل موسم ويصر هو على أن يكون حاضرا . يمرون مسرعين أو متباطئين ، يصرعلى مجاراة المسيرة ، يقف قليلا ليسعل ثم يعتذر للمحيطين به. تقفل الأبواب المفتوحة وتفتح الموصدة ، يطلون من الشبابيك أو الشرفات ، تتوارى مسيرات وتحل أخرى.
تترك وراءها أوراقا من مختلف الألوان ورموزا ، مع صور لوجوه ناعمة بربطات عنق مستوردة . والعابر لا يحط رجليه في ضفة واحدة ، رجل هنا وأخرى هناك ...أو لا انتماء...، بعضهم لا يحطهما ويطير، فلا ينزل إلى الأرض كي لا تقع قدماه في المصيدة . وصلت المسيرة الأخيرة إلى الشارع الطويل ، تتقدمها عربة يعلوها مكبر صوت ضخم ، تردد هي الأخرى شعارات مستنسخة من سابقاتها.
رست الحملة ، وقف زعيمهم يخطب في الناس :
- س.....
- س....
- س....
رموا بأوراقهم ...، تركوا صورا لمرشحيهم وانسحبوا...
التفت ...، وجدت أمامي ماسح أحذية وقد عري في ابتسامة عريضة عن طاقم أسنان متآكل ، يتأمل حملة من الأحذية الغليظة تدك بلا رحمة وجوها منبطحة أرضا ، وقد علاها الغبار...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -شد طلوع-... لوحة راقصة تعيدنا إلى الزمن الجميل والذكريات مع


.. بعثة الاتحاد الأوروبي بالجزائر تنظم مهرجانا دوليا للموسيقى ت




.. الكاتب في التاريخ نايف الجعويني يوضح أسباب اختلاف الروايات ا


.. محامية ومحبة للثقافة والدين.. زوجة ستارمر تخرج للضوء بعد انت




.. الكينج والهضبة والقيصر أبرز نجوم الغناء.. 8 أسابيع من البهجة