الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب والسلام

فايز صلاح أبو شمالة

2004 / 12 / 22
الادب والفن


أعمدة الحرب وكوة السلام في الشعر العبري
(1)
د. فايز صلاح أبو شمالة
كاتب وناقد من فلسطين
يتحدث اليهود عن السلام وهم يلونون بالأزرق جدران التاريخ، يمدون يدهم رطبة وهم ينتحون من جلد الأسطورة دمع الماضي، يتأوهون لما أصابهم قبل ألاف السنين بصوت صاخب، ويخططون لمستقبلهم بصمت، ودائماً للموقف والتجربة عندهم وجهان؛ إما أنا الذي ملأ الدنيا فكراً وشغل الناس، أو الآخر الذي أشعل راحتي، ويشغلني عن الحكمة والإبداع!!
فلم تقف تعاليم الدين اليهودي عند حدود التمايز بين اليهود وغير اليهود (الأغيار)، بل حرص اليهود على تأكيد تمايزهم عن بقية البشر على وجه الأرض بتأكيد ارتباطهم بأرض محددة؛ هي أرض فلسطين، كما جاءت أول تسمية لها في (التناخ)، إذ بلغ تكرار كلمة فلسطين والفلسطينيين في سفر صموئيل الأول على سبيل المثال مئات المرات، ففي الإصحاح السادس لوحده ترد كلمة فلسطين ومدن الفلسطينيين المعروفة حتى يومنا هذا؛ ثلاث عشرة مرة، وأرى في ذلك دلالة تتجاوب مع الوجدان الديني لدى اليهود؛ الذين حرصوا عبر تاريخهم على المواءمة في التسمية بين الحاضر والأسطورة التي يؤمنون بها ويصدقونها، وكأنهم اليوم وهم يحاربون الفلسطينيين يؤكدون ما جاء في (تناخهم) المقدس قبل ثلاثة ألاف عام، وهو ما يشجعهم على إسقاط أي تسمية أخرى كأرض العرب، أو أرض المسلمين، أو بلاد الشام، عن هذه البقعة من التراب التي عرفت بسنجق القدس، وسنجق عكا، وسنجق غزة؛ قبل تسميتها الحديثة (فلسطين)، فاليهود يعودون إلى سالف التاريخ الذي تملكوا ناصيته كما يظنون، ويجهدون لا إلى التناص مع الماضي وإنما إلى استنساخ التجربة الزمنية على المكان بما ينسجم وتطلعاتهم الروحية والسياسية، يقول شاعر يهودي إسرائيلي باسم " درور ستروميزه" باللغة العبرية إلى حبيبته ما أترجمه:
اندفعي من داخل ترددكِ
وأنت تلاطفين كومة شعري
"شمشون" نادي عليّ
فأنا مأخوذٌ بكِ
وتنتصب قامتي اشتياقاً لكِ
وأعرف أن نفسي تموت في فلسطين.
يثق اليهود إن وجود بني إسرائيل أسبق في التسمية من وجود أرض إسرائيل، وأن هذه الأرض المعطاة لهم من الرب (كما يقولون) كانت تعرف بأرض الكنعانيين، واليبوسيين، والحثيين، وغيرهم، كما ورد في سفر التكوين الإصحاح الخامس عشر " قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً، قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" وحتى ذلك الوقت لم يكن قد ولد إسرائيل التي حملت الأرض اسمه، ولم يكن أبوه إسحق قد رأى الحياة، لقد سميت هذه الأرض بأرض إسرائيل في زمن لاحق لوجود بني إسرائيل، الذين يرون أنفسهم نواة الكون المركزية، ومحور فلكه الذي يدور، ففي كتاب تعاليم اليهود (التلمود)، في الفصل الثالث، في (المشنه العشرين)، يقول ربي عقيبا: "ما أحب بني إسرائيل، الذين تلقبوا بأبناء الرب، وقد ظهر فضلهم لأنهم تلقبوا بأبناء الرب" وما تكرار الجملة هنا إلا لتقريرها في الذهن، وتعزيز الاقتناع لدى السامع بأهمية، وفضل من يذكرهم.
من هذا المنظار الذي يرى فيه اليهودي نفسه صاحب فضل أولاً، ومكانه الطبيعي فوق الأرض فلسطين ثانياً، يرى اليهودي غيره من أهل الأرض ملزمين بالإقرار بهذا الفضل، وبهذه المكانة، وعليه فإن كل تجمع بشري يفكر في الارتقاء إلى مستوى كتف اليهودي، ولا يقر بحقهم في فلسطين وأفضليتهم على العالمين، هو تجمع إرهابي شرير لا يستحق التعايش معه والسلام عليه، ويمكن النظر باستحسان والعيش بسلام مع كل شعب يقر بحق اليهود الديني والتاريخي في فلسطين، وبأفضلية اليهود على العالمين.
وفق ما سبق من مفهوم تجيء كلمة (سلام) مع الأغيار، أما فيما بينهم فإن تحيتهم المتبادلة (شالوم) سلام، بل أن كلمة سلام هي اللازمة التي يتغنى بها اليهود في كل شئون حياتهم، ولها مدلولات شتى عندهم، فهي لفظة فضفاضة لدى السياسيين، تتسع لكل الأفكار والأهداف والمفاهيم، وتغطي كل المشارب الحزبية والتيارات الفكرية التي يمكن تقسيمها على النحو التالي:
1- اليهود المتدينون، وهم الأكثر تشدداً وتطرفاً وتمسكاً بأرض إسرائيل التوراتية، والمقصود هنا، ما أعطاه ربهم لنبيهم إبراهيم، الذي يخصهم وحدهم كما يعتقدون، وهؤلاء ينشدون السلام بعد أن تتحقق أحلامهم، ويقيمون الهيكل، على أنقاض المسجد الأقصى، وبعد أن (يعود) كل يهود العالم إلى إسرائيل، بداية وتهيئة لمعركة ( هار مجدون) ومعناها بالعربية (جبل مجدو) ومن ثم يأتي المخلص، ويتهود كل من على الأرض، وينادون بقوة إلى السلام ضمن هذا الفهم، وسأعزز كلامي هذا بالشعر العبري الذي يقول فيه الشاعر اليهودي جدلياهو روت:
يا أرض الآباء تعالي إلي لأبكي
يا أرض إسرائيل متى سيأتي المخلص
يا أرض الظبي متى ستبكي أمي
يا أرض التناخ، لماذا الهروب إلى أمريكا
هذا الحلم تعززه الشاعرة اليهودية الإسرائيلية حموتال بار يوسف وهي تعطي للسلام المفهوم اليهودي الخاص المرتبط بالحلم، لقد اتخذ الشعر العبري سمة التعبير عن عدم الاستعداد للتنازل أو التخلي عن شبر من الأرض، وتحمل المسئولية في البقاء عليها مهما كلف ذلك من ثمن، مع الابتهاج والابتهال بما قد تحقق، والحلم بالمزيد المزيد إلى أن يغدو المكان يضم كل اليهود، تقول الشاعرة اليهودية الإسرائيلية حموتال ما ترجمته إلى العربية:
ستكون لنا طاولة كبيرة زرقاء
ستكون لنا طاولة معدة لنا جميعاً معاً
طاولة تكتسي نوراً مستديراً تماماً
نجلس إليها معاً مساء السبت
مرافقنا تقبل بعضها بعضاَ
دون كلام، قبلة يوسف لأخيه بنيامين
ونغني السلام عليكم دون صوت
ونشرب الخمر المقدسة من كأس واحدة
معاً مع الملائكة، بالترتيب
تصوير الشاعرة للمرافق المتلاصقة على الطاولة بالعشاق المتعانقين في القبل، ليس دليل محبة فقط، وإنما دليل توحد قلوب اليهود جميعهم على تراب فلسطين، وتأكيد على أن هذه الأرض أعطت لليهود المكانة والحضور والعمق الروحي بين الشعوب.
إن غالبية الشعر العبري في العصر الحديث لم يأت بحب جديد للأرض، حيث سبقت أسفار العهد القديم (التناخ) الشعراء، وتغنت بحب الأرض في كلمات ليست مهملة أو منسية، أو مدفونة في كتب صفراء كما يظن البعض، إنها مصدر وحي للشعراء، بل يقتبس الشعراء من أسفار العهد القديم كلمات أغنياتهم. ففي سفر الملوك، الإصحاح السابع عشر، يصف كيف وضع الله البركة على هذه الأرض؛ يقول: " لأنه هكذا قال الرب إلى إسرائيل: إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطراً على وجه الأرض" الشاعرة اليهودية الإسرائيلية نعمي شمر اقتبست حرفياً من النص التوراتي وهي تقول:
أنا أقرأ في سفر الملوك، في الإصحاح السابع عشر
أنا أقرأ مع رجل الله، الذي قال:
كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص
إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطراً على وجه الأرض
وعندما يبست الأراضي، وتأخر في الحضور المطر
حفر نفس الرجل من قلبه الكلمات:
كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص
وفي هذه الأيام الصعبة التي لا طل فيها ولا مطر
أعود دائماً إلى ذلك الرجل، وأتذكر عندئذٍ
كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص
هذا إحياء للماضي وتجديد عهد واستلهام قوة وعزيمة من تجربة الأجداد الروحية، لقد ألبست الشاعرة الماضي البعيد ثياب العصر، وراحت تطوف به على المدن الفلسطينية تحث على الصمود، والصبر، أو أن الشاعرة اليهودية الإسرائيلية شققت روح العصر ورشت عليها ملح الزمن الماضي.
2- اليهود الأقل تمسكاً بتعاليم اليهودية، والأكثر تشدداً من الصهاينة، وهم الذين ينشدون السلام بعد أن يتحقق وجود اليهود على أرض إسرائيل التاريخية، وهي الأرض التي أقام عليها داوود وسليمان حكمهم فوقها كما يظنون، وهي أوسع من حدود فلسطين السياسية الراهنة، وأضيق من حدود إسرائيل التوراتية، إذ تمتد إلى أجزاء من لبنان، وأخرى شرق نهر الأردن، بل ذهب الأمر بمنظة (بيتار) الصهيونية أن تغني : للنهر ضفتان؛ هذه لنا، وأيضاً تلك، والمقصود هنا نهر الأردن.
ومن الشعر العبري الذي يمتد إلى لبنان ما قاله الشاعر اليهودي نتان الترمان في قصيدة بعنوان أنشودة الصباح، يقول فيها:
من المنحدرات اللبنانية حتى البحر المالح( البحر الميت)
سنعبرك بالمحاريث
وسنظل نزرعك، ونقيم فوقك البنيان
وسنظل نجملك
هذا الإصرار اليهودي يكمل ما سبق بأن هذه الأرض موروثة، وأنها للأبد ملك لليهود، ما دام اليهود يمتلكون دينهم ومعتقدهم، كما قال موشى ديان، وزير دفاع إسرائيل سنة 1967: " فإذا كنا نمتلك التوراة، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة، فينبغي لنا أن نمتلك كذلك أرض التوراة" التي لها طعم العسل واللبن، كما وصفها التناخ، "الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيها لهم ولنسلهم، أرض تفيض لبناً وعسلاً، لأن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها ليست مثل أرض مصر التي خرجت منها، حيث كنت تزرع زرعك وتسقيه برجلك كبستان بقول، بل الأرض التي أنتم عابرون إليها لكي تمتلكوها هي أرض جبال وبقاع، من مطر السماء تشرب ماء، أرض يعتني بها الرب إلهك، عين الرب إلهك عليها دائماً من أول السنة إلى آخرها" ضمن هذا المفهوم؛ تصبح للأرض من وجهة نظر الشعراء اليهود رائحة الزمن، وطعم الأمجاد وتحمل معنى الحضور الراهن، كما تقول الشاعرة اليهودية الإسرائيلية يعليت راز في قصيدة بعنوان "أرضي":
إنها بطعم المن، حليب وعسل
أرضي التي ورثتها للأبد
هي شعاع شمس في لعبة الضوء والظل
على جرف الهضبة بين أعشاش النسور
هي صدىً يتردد من آثار السابقين
تفوح منها رائحة الأمجاد.
والبحر الميت عتبة الملاذ
والريح تهمس: في دروب الجبال
السهل والوادي يناديان علي بأن أعود
أرضي بها آثار القطعان
وملح الأرض هذا من عرق الإنسان
إن أرضي من الشرق حتى البحر.
أرض برائحة الأجداد، لها طعم المن والعسل، جبالها وسهولها تنادي على اليهود من البحر الميت إلى البحر المتوسط، فماذا تبقى للعرب الفلسطينيين ليعقدوا صلحاً مع اليهود، ويقيموا سلاماً؟ ثم هل هذه هي حدود إسرائيل التاريخية؛ وفق ما توسعت وامتدت في الأزمنة الغابرة دولة بني إسرائيل؟ أم حدودها التوراتية؛ وفق ما جاءت في أسفار العهد القديم؟ أم حدودها السياسية؛ وفق ما يفرض الواقع القائم على الأرض؟ أسئلة لم تجب عليها الكنيست الإسرائيلي بعد أكثر من خمس وخمسين سنة على قيام دولة إسرائيل، وأجاب عليها القس جيري فولويل، أحد أبرز قادة الحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية وهو يقول:" إنني مع كوني سعيداً لعودة اليهود إلى فلسطين ولقيام إسرائيل، فإنني أشعر أن اليهود لم ينجزوا مهمتهم تماماً بعد، إن على اليهود اليوم استرجاع كل الأرض التي أعطاها الله للعبرانيين، إن على اليهود أن يملكوا كل الأرض التي منحهم الله قبل عودة المسيح، بوصف ذلك شرطاً مسبقاً لهذه العودة، وإن على العرب مغادرة هذه الأرض، لأن هذه الأرض تخص اليهود، الله أعطى كل هذه الأرض لليهود، وهنا أترك لكل عاقل تقدير نتائج المفاوضات التي تجري للانسحاب الإسرائيلي حتى إلى حدود 1967.



أعمدة الحرب وكوة السلام في الشعر العبري
(2)
د. فايز صلاح أبو شمالة
كاتب وناقد من فلسطين


3- اليهود العلمانيون، وهم الأقل تمسكاً بحرفية التناخ والتلمود، وتغلبت لديهم المفاهيم السياسية على المفاهيم الدينية، أو تساوت، وهؤلاء يظنون بإمكانية السلام مع العرب إذا اعترفوا بإسرائيل وفق حدود فلسطين الجغرافية، بما في ذلك الضفة الغربية، وهم بذلك يؤجلون يوم القيامة إلى أن يتحقق الوعد، يتغنى اليهود بهذه الأرض التي يرونها محط الرحال، ونهاية التجوال، بكلمات للشاعر اليهودي إيلان جولد هرش، يقول في قصيدة أمست كلماتها تتردد في إسرائيل:
سلام لك أيتها الأرض الرائعة
مياهك الزرقاء في بحيرة طبريا
والسماء المماثلة لها من أعلى
والمشاعر الوطنية المعروفة
تتدفق داخل عروقي مثل تيار كهربائي
جبال الجليل والسامرة، البيارات التي في سهل شارون
والأولاد في حدائق المستوطنات، وجبل الكرمل والبحر
كل واحد، بل الجميع
دائماً يغمزون قائلين: حمد لله على السلامة
سلام لك أيتها الأرض الرائعة.
هذه التعبيرات عن الحب للمكان من قبل اليهود، وتسمية بعضه لا تقف عند حدود اللفظ، بل تعكس التمسك الفعلي بالمكان كله بقوة السلاح، وعدم الاستعداد للتنازل عن شبر منه مها كان الثمن، حسب تعبير مناحم بيجن "هبت دولة إسرائيل بالدم والنار، بيد ممتدة، وذراع قوية، بالمعاناة والتضحية، وما كان لها أن تقوم بغير ذلك، ومع هذا، وحتى قبل أن تكون دولتنا قادرة على أن تنشئ مؤسساتها الوطنية المعتادة، فإن عليها أن تحارب ضد أعداء شياطين وضد مرتزقة متعطشين للدماء، عليها أن تحارب على الأرض، وفي الجو، وفي البحر" إن ذلك ليؤكد أن الأرض مصدر استلهام معاني الحياة والبقاء عند اليهود، لاسيما عندما يأتي الشاعر على ذكر المياه، والسماء، والجبال، والبيارات، والبحر، وكأنه في ذلك يعدد مصادر الترابط بينه وبين الأرض التي يتمسك بها، وتتدفق هي من داخل عروقه.
4- اليهود الذين يقرون بالتاريخ السياسي، ويدركون تقلبات الزمن، ويعرفون أنه دول بين الشعوب، ولكنهم يرون أن هذا الشكل من الوجود هو الأنسب، وهو الذي يجب أن يسود، ويعترف لشاعر أريه سيفان أن أديم هذه الأرض يختلط بكل القوميات والديانات التي عبرت عليها، ولكنه يختتم الاعتراف بتأكيد أن الوضع الحالي هو الأفضل يقول:
أنا أقف على قمة الدوامة فوق البحر
منتصف الخريف الآن، البحر هادئ والأرض
تسكن من دورانها
أنا على أرض الميتين الواسعة، على أرض الأموات العميقة
فلسطينيون يضطجعون فوق كنعانيين وفوقهم
يهود يضطجعون فوق إغريق، وعرب وصليبيون
فالاستلقاء والهدوء على وجه
الأرض وبداخلها.
يستعرض الشاعر مراحل سياسية دانت فيها الأرض لمن مر عليها، لقد فرق بين كنعانيين وفلسطينيين وعرب، لا بهدف الفصل والتفريق بينهم، وإنما من خلال استعراض مراحل حكم بدأت وفق اعتراف الشاعر بالكنعانيين، ثم الفلسطينيين، ثم اليهود، ثم الأغريق، ثم العرب، ثم الصليبيين، منتهياً بالمرحلة الراهنة التي يحكم فيها اليهود، معتبراً أن الراحة قد تحققت تحت الأرض لمن ماتوا، وفوق الأرض لمن يحكمها، ويسود عليها بالقوة.
5- اليهود غير المتدينين، والذين يرون الواقع كما هو، وينادون لعقد السلام وفق ما وصلت إليه الأمور، ومنهم الشاعر اليهودي الإسرائيلي سامي شلوم شتريت:
طلاب حياة ها نحن، فزعون لحياة أولادنا المخدوعين
فزعون للأرض المطعونة، ربما هكذا
رجل بسيط، طالب حياة، نقي، تعب، فزع
أتوجه إليكم بنداء السلام، ومن بدايته أنادي:
هيا يا أبناء فلسطين اليائسين، يا أبناء الشعب المنهوب المضطهد
يا ضحايا طغيان الاحتلال اللانهائي،
حيث أنني لا أنكر، ولأسفي، مغلول بشركه
واحسرتاه، يا أيتام من حب القريب والبعيد
واحسرتاه، يا أولاداً تتفجرون باسم الحقد والانتقام
واحسرتاه، يا قيادات مقيدة بإطارات المصالح المحترقة
واحسرتاه، يا أمهات من جداول دمٍ وحزن بلا حدود
أنا أناديكم اليوم لعقد تحالف البائسين،
تحالف بائسي الحياة، باسم الله، وبقوة السلام.
أصدق أن الشاعر فزع على المستقبل، وليس أميناً على أبنائه، وأصدق أنه يطلب السلام لأن له فيه مصلحة شخصية وسياسية، أما الشخصية فلأن الشاعر جزء من مركز "كدما" الذي يدعو للتعايش مع العرب، وأما السياسية؛ فلأن السلام يوفر الأمن المنشود لليهود الذي يرسخ الوجود في الدولة العبرية، ولكنني ما كنت أصدق تباكي الشاعر اليهودي الإسرائيلي على حالة الفلسطينيين، وبالتالي رغبته الجادة في السلام، وذلك لعدم وضوحه في تحديد معالم مضطهدي الشعب الفلسطيني الذي يقر أنه مضطهد ومنهوب.
فمن الذي جعل العربي الفلسطيني يتيماً من حب القريب والبعيد؟ ومن الذي يدفع الفلسطينيين إلى تفجير أنفسهم؟ هل الحقد والانتقام كما يقول؟ وإن كان الحقد والانتقام، فلماذا على اليهود؟ ومن الذي ألبس الأمهات العربيات الفلسطينيات ثوب الحزن والدمع؟ لقد برأ الشاعر اليهود من كل ذلك، وألقى باللائمة على بعض القيادات السياسية، وراح يدعو العرب الفلسطينيين البائسين إلى التحالف مع البائسين اليهود الذين فصلهم الشاعر في قصيدة مطولة، فلم يستثن يهودياً بما في ذلك الجندي الذي يطلق النار، والمستوطنون الذين يتوحشون في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويتعرضون للهجوم اللفظي العلني من اليسار الإسرائيلي، إذ يعتبرونهم عقبة في وجه السلام، قال عن تأثيرهم المدمر على الإسرائيليين الكاتب يهودا ليطاني: "شعب كامل خضع لمناورات حفنة من المستوطنين المسيحانيين، ممن أرادوا إعادة دواليب التاريخ آلاف السنين إلى الوراء"، عن براءة هؤلاء المستوطنين، وعن براءة الجنود الإسرائيليين يقول الشاعر اليهودي الإسرائيلي سامي شلوم شتريت المتباكي على السلام مع الفلسطينيين:
نعم، لأن جنود الاحتلال كذلك، الذين يحاربونكم ويدوسون بيوتكم
والقاتلون لأولادكم، والمهينون لآبائكم وأمهاتكم
هم أنفسهم أولاد مغسولة أدمغتهم، ومرتبك رأيهم
وغالبيتهم عديمو المستقبل، ما عدا الذي يوجه الرشاش للقنص المتعمد
والمستوطنون على أرضكم، السارقون لمصادركم
هؤلاء تعرفونهم أكثر مني
لأن لهم قسوة الاستعمار، وانحراف المتطرفين
ولكن غالبيتهم وصلوا إلى هناك بخدعة وغش الحياة المدنية، والجوار
وتأكيدات ليست مسيحانية، وإنما عملياً للربح
الشاعر وجد أخيراً ضحية يحملها المسئولية؛ إنه الجندي الإسرائيلي الذي يقتل ويقتنص متعمداً، وهذا غير موجود، فقد أظهرت كل عمليات إطلاق النار من وجهة نظر الإسرائيليين، أن الجنود كانوا في حالة دفاع عن النفس، فكيف يتهم الجنود وهو يبرئ غالبية من يصفهم بالقساة والمنحرفين من المستوطنين، وهنا يتجلى الذكاء اليهودي الذي يتمثل في توزيع المسئولية، لقد أظهر الشاعر الشعب اليهودي بريئاً والمتهم هو بعض المستوطنين، وقد سبق لليهود أن وزعوا التهم بهذه الطريقة أيضاً، وقالوا بأن المتهم في الصراع الدائر مع العرب هي الحركة الصهيونية، وأن اليهود أبرياء ومخدوعون كالعرب تماماً، وعلى المستوى السياسي توزع اليوم التهمة في إسرائيل بين أحزاب يمينية ومتشددين يرفضون الانسحاب، وبين طيبين يدعون إليه، وما عليكم أيها العرب إلا أن تقفوا إلى جانب الطيبين وتعززوا مكانتهم، وأن تنتظروا نتائج الانتخابات الإسرائيلية، على أمل أن يفوز أنصار السلام.
لأن الشاعر سامي شلوم شتريت يبعث بقصيدته إلى العرب الفلسطينيين، وهي جديرة بالدراسة للتعرف على أوجه الفكر اليهودي المنادي بالسلام مع العرب، لا مناص هنا من إضافة هذه الفقرة التي فيها يهدد بشكل مبطن العرب بقوة السلاح، إن لم يستجيبوا لندائه بالتوجه إلى الاحتجاج السلمي، والتوسل لتحقيق حياتنا كلنا ـ وقد جمع العرب واليهود في بوتقة واحدة ـ وأشرك الجميع في الحياة، كما يقول:
أين ستذهب معركتكم العادلة هذه من أجل السلام
مقابل الحوامات القاتلة، وطائرات المعارك المدمرة
مقابل الدبابات التي تهرس
لن أستعجل الحكم لأستنتج؛ أن السلام الذي ينشده اليهود يقوم على سلام القوة مقابل الضعف، ولكن الشاعر يقول بوضوح، لمن يبكي على عذابهم من العرب الفلسطينيين، إن البديل لعدم قبولكم الشروط الإسرائيلية للسلام، ستكون ما لا حول ولا طاقة لكم به، وأنتم تعرفون بالتجربة اليومية قوة اليهود العسكرية التي لا يقف في سبيلها بشر.
6- أولئك اليهود الراغبين بالحياة داخل إسرائيل وفق حدود 4-6-1967، وهذا أخر ما يمكن أن يفكر فيه يهودي، وهم يقفون موقفاً نقدياً من كل أشكال التوسع والاستيطان، ويقرون بحق العرب في دولة إلى جوار إسرائيل، ومنهم، الشاعر اليهودي آشر رايخ، الذي يقول:
سنوات عبرت علينا وكلانا في النار
التي لم يخمدها الدم الكثير
مع إرهاقٍ منتصب القامة
كبرنا والتراب على أجسادنا
وما يربط بيننا ربما ما زال
يستطيع أن يقيم التلاحم في هذا المكان
هنا يعترف الشاعر بأن العربي يعاني مثل اليهودي، وأنه حارب مثله، ولم ينهزم، ولم يرفع راية الاستسلام، ويعترف بأن العربي جزء من هذا التراب، وما يتمناه الشاعر هو أن يحل السلام محل الحرب، وأن يعيش كلا الشعبين على هذا التراب، وهذا أقصى ما حلم به شاعر يهودي، وأفصح ما عبر عنه الشعر من طلب الحياة لكلا الشعبين، في دولتين متجاورتين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو