الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار والثورة بين النمطية والتدجين

محمد البدري

2011 / 12 / 5
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011





تميزت الحضارة الصناعية بانها حضارة انتاجية باطراد لا تعرف السكون وانها في طبيعتها ثورة علي نمطي الانتاج السابقين عليها وهما الزراعة والرعي، ويشاركهما نمط الانتاج الاسيوي المرتكز علي النهر بالتماسك الاجتماعي حوله فاصبح التكلس صفة خاصة به. فكل هذه الانماط القديمة هي تقليدية محافظة لا تعرف الابتكار الا في اضيق الحدود وادني المستويات اللهم الا في لحظات تشكلهما الاول عندما اكتشفت الجماعة نفسها وبقدراتها علي تحقيق امن وامان بقدر ما تتيحه هذه البيئة من امكانات. لهذا كانت الاستجابة لضرورات ملحة في ادني الحدود وبات التدخل الانساني ضيقا بسبب النظريات العقلية التي سادت تلك المجتمعات كالدين او العقائد المبررة لهذا الوجود الساكن. فالتدخل في حالة الرعي علي سبيل المثال صفرا ولان المطالب المادية الاجتماعية تزداد بازياد تعداد سكانه وفي غياب تام للقدرات الانتاجية الا بما يوفره المطر والكلأ اصبح الغزو والنهب والسلب بديلا بل ان الدين عندهم قام علي هذه القاعدة عندهم. وفي الزراعة المطردة اما علي الامطار الموسمية او الانهار ذات الفيضانات الدورية بتكرارية فقد جعلت الدولة نفسها حارسة لزمام قوي العمل لضمان الاستمرار للطبقة الحاكمة في سلطتها التي دعمتها بالدين ذو الاركان الثابتة في السماء دعما لفكرة الثبات علي الارض حتي لا يثور المنتجين او تتغير الافكار الضامنة لكل طبقة بموقعها في عمليات الاستغلال الاجتماعي.
هكذا ظل دور الانسان محدودا في فهم التركيبة الاجتماعية فيما قبل الصناعة والراسمال، بل وقبل بكل غازي اجنبي طالما ظل البناء الاجتماعي والسياسي علي حاله كاعادة تصوير لكرسي العرش وديمومة الاله القابع في السماء وضامنا للارزاق الضئيلة في الارض حتي ولو كان الظلم هو ميزان القسمة بين الناس. فصورة السماء المقدسة باتت هي النموذج الذي تصدره نظم الحكم النمطية وتؤمن به الطبقات التحتية لضمان استمرار الواقع علي الارض, وفي اسوا الاحوال اعادة انتاج النمطية والاستغلال والعبودية لو ان هناك شرخا قد حدث في البناء الاجتماعي والسياسي. بقاء النمطية من ضرورات المجتمع ما قبل الصناعي والراسمالي وادي الي تصعيد مستمر وبدون حد الي التسلط من اعلي وللخضوع من اسفل. فهل سيادة لغة معينة لا تعرف من محتواها سوي الثواب والعقاب أو العفو والرحمة ويقابلها العذاب والاهانة كثنائيات حدية قاطعة تعكس التركيبة الايديولجية لهذه المجتمعات وتعيد انتاجها بل وتجعلها كالابيض والاسود استحلابا لما يرتضيه الامي من رضي وانصاف المتعلمين بينما هم يعيشون في مجتمع ضبابي رمادي لا يعرف كيف يمسك بالظلم ويقهره او كيف يدافع عن الحق وينصره.

في مجتمع الصناعة والراسمال اختفت كل الثنائيات واصبح الحق هو القانون وتحته يتساوي الجميع. وادركت الطبقات ان العمل والابداع اساس الترقي الاجتماعي وليس الطاعة والانصياع. كان تفتيت اللغة المقدسة في اروروبا وختراع القول واللغة مهما كان بها من تجديف ضد الدين وضد الطبقة حقا طبيعيا. ولنفس السبب اصبحت رأسمالية الثورة الصناعية هي ذاتها راسمالية الثورة العلمية، تقبلها كل العقول ولا يقف منها موقف العداء الا ثقافة الدين التي هي ثقافة الزراعة والرعي. ففي المعمل يتم خلق ما لا تعلمون ولا يستطيع اولي امر انماط الزراعة والرعي سوي النباح بانهم كفره وعلمانيين ويجترؤون علي الله في عزه وجلاله علي كرسيه الذي في السماء دون ان يصدقوا ولو مرة ان المعمل والمختبر والمصنع هو الذي يهز كراسييهم علي الارض.
كان افضل ما قدمته الرأسمالية دون بوح منها، واكتشفه اليسار الفاضح لها هي علاقة الملكية، رغم ان القانون يسواي بين المالك والمستأجر امام الدولة. فالدولة هنا هي نقيض دول الزراعة والرعي. فالعامل يملك قوة عمله ذهنية او عقلية، فكرية وبالموهبة والطبقات المالكة تملك الرأسمال وهيكل الانتاج المادية والافكار ويتوازن الجميع في معادلة اساسها الاستغلال الراسمالي للموارد جميعها بشرية ومادية. لهذا ظهر اليسار في محاولة لاعادة توازن طرفي المعادلة بفلسفة الاصلاح وإما الهدم كلية واعادة التمليك لقوة العمل وتقسيمها علي اسس جدية كما في فلسفة الثورة. ولان هاتين الفكرتين لا تتحققان الي علي ارضية ثقافية تخلو من كل اللغات الغير متجانسة الا مع الزراعة والرعي، فقد خسر اليسار كثيرا في معركته لان البيئة الحاضنه له والحاضنة للجميع ملوثه بما لم يعد يصلح لا للراسمال او الاشتراكية. ولعلنا نلحظ كيف تكون التراكيب اللغوية والمفاهيم الحداثية في لغات مجتمع الصناعة متفقة مع طبيعة علاقات تلك المجتمعات. بينما لغتنا الخشبية الجامدة التي علي قاعدتها تكلمت واوحت كل انواع الالهة الضامنة للقبيلة وسطوة امراء الزراعة والظلم والاستعباد بما يكرس التخلف ضمن هياكل انتاج لم تعد موجوده عندهم. لكنها سائدة لدينا في عقول الاغلبية وعلي الاخص كهان ومشايخ يحاولون اعادة انتاج الخيمة والنعجة والابل وعمدة القرية وشيخ الخفر. والاكثر مرارة هو انتاج العبودية والطاعة.


علي كل هذه القواعد المشوهة يحاول اليسار بشرف وامانه ان يقوم بدور لم تساعده عليها الثقافة السائدة النمطية التدجينية إضافة الي ضعف هياكل الانتاج ووجود ثروة ضخمة عند مجتمعات هي الادني حضاريا في تطور قوي العمل طوال التاريخ وترعي الدين كمبيد للحقوق التي طالما ابادها لصالح المستغلين قديما واللصوص وقطاع الطرق في الزمن الاقدم ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فوارق المجتمعات الكبيرة !
رعد الحافظ ( 2011 / 12 / 17 - 15:19 )
كلّ مقالكَ رائع , لكن أروع جزء هو تمييزكَ بين اللغات السائدة في المجتمعات الليبرالية العلمية , عن مجتمعاتنا التي تتسم بالنمطيّة العبودية التسلطيّة الابوية الذكورية !
وسأورد مثال بسيط من السويد
عند قدومنا وكعادتنا الشرقيين ( وهذه الحالة معروفة في مصر على نطاق واسع ) وهي أنْ نُقسم أغلظ الأيمان خلال حديثنا لسبب , أو بدون سبب حتى
فوجئنا هنا لاتوجد فقرة / القَسَمْ
يهني ماعندهم والله والنبي وشرفي وحياتك
عندهم في اقصى الأحوال قول
Jag lover
ويعني نصاً ... أنا أعدكَ
لكنّهم يستخدموه في حالة الحلفان أيضاً بمعنى ... كلامي مؤكد
فهل تلاحظ عزيزي البدري كيف تخلصوا من الحلفان بالماروائيات , وإستخدموا بديلاً عنه الوعد والثقة الذي يمارسوه في حياتهم العمليّة ومصانعهم ومختبراتهم على أفضل وجه
فالإنسان عندهم يكون موثوقاً مؤتمناً نتيجة عملهِ وسلوكهِ وعلمهِ وإخلاصهِ
ومن هنا فهو لايحتاج للحلفان بقوّة غيبيّة غائبة , لايستفيد منها سوى خيال المشايخ في مجتمعاتنا البئيسة لمزيد من تدمير العقول , علماً أنّهم إلتفوّا على المعاني علانيّةً
فتراهم يشتمون الغرب ليل نهار , لكنّهم يستخدمون منتجاتهِ على الجاهز !


2 - صباحك ورد وياسمين اخي محمد
سرحان الركابي ( 2012 / 2 / 1 - 01:52 )
في مجتمع الصناعة والراسمال اختفت كل الثنائيات واصبح الحق هو القانون وتحته يتساوى الجميع
هذه العبارة تختصر مئات الجمل والمفردات لاوضاعنا
فالحق في مجتمعاتنا هلامي باهت لا لون ولا طعم ولا رائحة له لكنه معلق هناك في سماء الوهم , اما المتبارون والمتحاورون حول وجوده فهم يستحضرن نوازعهم ورغباتهم الشخصية باعتبار انها الحق المنزل من الله
الحق لم يعد فكرة معلقة في السماء بل بات منظومة قوانين في الدساتير والمحاكم وفي ضمائر الناس وعقيدة تتحكم بسلوكهم الانساني
دامت جهودك وكتباتك ايها الروعة

اخر الافلام

.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل


.. السيناتور ساندرز: حان الوقت لإعادة التفكير في قرار دعم أمريك




.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال