الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أربعٌ وعشرون

نعيم الخطيب

2011 / 12 / 1
الادب والفن


بدأَ النهارُ عاديّاً، أو هكذا ظننت. استيقظت زوجتي، وسألتني عن تكملةِ (ستيتوس) حَلَمَت أنّني كتبتُه. أخبرتني أنَّ للأمر علاقةً بِعِيْدٍ في الإمارات، وأنّني استخدمتُ كلمةَ "قصور" بمعنى العجز. "الجنسيّ.."، قاطعتُها مستظرفاً: "تذّكري العبارةَ واكتبيها على صفحتِك، لا أعتقد أنَّ حقوقَ الحُلْمِ مكفولة.

خرجتُ بعدَها إلى جلسةٍ تقيميّةٍ، لمشروعٍ ما، في جنوبِ قطاعِ غزّةَ، مع فئاتٍ مستهدفة، كم أمقتُ مهنيّةَ هذا الوصف، وكم تستهلكني هذه اللّقاءات. أذكرُ كم كنتُ أبكي كطفلٍ في المرّات الأولى، أمامَ دهشةِ "المستهدفين" أنفسِهم، حتّى تبتلَّ كفتاي. لكنّني صرتُ مهنيّاً، لا يرطِّبُ كفتاي سوى (الجيل) المعقِّم عند خروجي متعجّلاً. لقد كانت مفارقةٌ كهذه، سابقاً، لتستفزَّ (ستيتوس) على الأقلّ. لا عجبَ أنّني ما عدتُ أكتبُ إلاّ في أحلامِ زوجتي... أيعطبُ القلب؟ أم هل يجب أن أنتظرَ مصيبةً لم تصب أحداً من قبل كي أكتبَ نصّاً جيّداً؟ أربعٌ وعشرون شهراً فقط، هذا كلُّ ما أحتاجُه من أجل سيّارةٍ حديثةٍ، ومسكنٍ في أحدِ أرقى أحياء غزّة. ولستُ أكثرَ عفَّةً من حركةِ المقاومة.

في الظّهيرة، لم تستقم روحُ الدّعابةِ في البيت، حتّى عودةِ الابن الضّال، أحمد، الّذي يصرُّ أنَّ الّذي حاولَ هدمَ الكعبةِ هو أبرهة كدابرا أو شرشبيل الشّرير، وأنَّ العدد التّالي مباشرةً لـ (5) هو يومُ الجمعة. كان محمود ودينا قد تركاه في حافلةِ المدرسةِ نائماً، وعادا لسببٍ غريبٍ بحقيبتِه المدرسيّة.

على أمِّنا الجزيرة، متحدّثٌ من المجلسِ العسكريِّ المصريّ، في مؤتمرٍ صحفيّ، كان ينصح: "لماذا المليونيات؟ ركِّزوا في الانتخابات". وعلى فضائيّةٍ ثانيةٍ، جلسَ مشعل قبالةَ أبو مازن مبتسماً، فيما صرَّحَ قياديٌّ بارزٌ [لفظٌ يُساءُ استخدامُه عادةً] من حماس، على فضائيّةٍ أخرى أنَّ نوايا أبو مازن تجاه المصالحةِ صارت أكثرَ صدقاً، مبرّراً ذلك بفشلِ الأخيرِ في مساعيهِ في الأممِ المتّحدة. في طريقي إلى المطبخ ـ للاستزادةِ من أقراصِ عجّةِ القرنبيط بالبيضِ والبصلِ والبقدونس، والّتي أحبّها ساخنةً، ومقرمشةَ الأطرافِ، وحارّةً قليلاً ـ تساءلتُ ما الّذي تفعلُه قيادةُ حماسَ في دمشقَ الآن!

كتبَ صديقي المصريُّ حتّى آخرِ ألفاظِه النّابية، وأستاذي في المسرح، محمود اللّوزيّ، على صفحتِه بالإنجليزيّة: "على خلافِكم، أنتم الشّباب، فقد عاصرتُ كيفَ كان الإخوان يعاملون بما يستحقّون. على الأقلّ يملكُ بعضُنا ذكرياتٍ جميلةً". هممتُ بمجاراتِه، مماحِكاً: "لا تكن قاسياً يا محمود، دعهم يتغذّون، فقد ناموا طويلاً"، كنتُ سأكتبها بالإنجليزيّة أيضاً لسببين: كي لا أغضبَ أصدقائي الّذين لا يخافون الإخوان، ولحاجتي لمرادف الفعل (feed). وفي النّهايةِ لم أفعل؛ فقد اقتنعتُ شابّاً أنَّهم لا يبغونَ حكماً أو انقلاباً عليه، وأنَّ توسيعَ القاعدةِ هو جلُّ همِّهم. لم أظنّ أنّني سأعيش لأشهدَ يوماً تتسعُ فيه القاعدةُ أكثرَ ممّا تحتمل.

احتلّت صديقاتُ زوجتي الصّالةَ في المساء، واحتلَّ ابناؤهنَ الغرفَ المجاورة، وبقيتُ محاصراً في غرفتي مع نصٍّ لمحمود درويش، يحاورُ فيه ظلَّه، يجنحُ إلى (ظلِّ الكلامِ)، يرسمُ ظلَّ الحكاية، محتاراً بين الشّعرِ والنّثرِ، والموتِ والحياةِ، والوطنِ والمنفى، والحبِّ والوَحْدةِ، والنّومِ والأرقِ، وبيانِ الاستقلالِ وحَيْرةِ العودة. محمود درويش، في حضرةِ الغيابِ، فلسطينيٌّ في أبهى انقسامِه.

تقافزَ ليلاً صغاري حولي في السرير كقطط، شاهدنا ـ للمرّةِ العاشرةِ على الأقلّ ـ فيلم توم هانكس "القطار القطبيّ السّريع"، قاطع سيناريو (كهرباء، مولّد، كهرباء) الفيلمَ مرتين، حتّى فاتنا مشهدُ قدومِ زلاّجةِ "سانتا لوز" ـ هكذا يسمّيه محمود، بالرغم أنَّ الرّجلَ الكبيرَ في الفيلم يدعى: السّيّد (C). نمتُ بعدَها دون أن أقدّمَ اعتذاراً للخميسِ المقدّسِ عندَ قدماءِ الموظّفين.

حَلَمْتُ أنّني أقرأ كتاباً، لا أذكرُ عنوانَه، حديثَ الإصدارِ لأحدِ الأصدقاءِ، لا أذكرُ اسمَه. وعندما وصلتُ إلى جملةٍ تتحدّثُ عن إلهةِ الحبِّ والخصبِ عندَ السّومريّين "إنانا"، أيقظني، مفزوعاً، جرسُ هاتفي الخلويّ. كان رقمُ المتّصلِ غريباً، وهو رقمُ هاتفٍ خلويٍّ إسرائيليٍّ ـ على اعتبار فلسطينيّةِ الشّبكةِ الوحيدة، الّتي ظلَّت تحتكرُ بيعنَا الهواءَ والوطنيّةَ، حتّى جاءت أخرى بهذا الاسم ـ وفي حالةٍ كهذه، تنتهي الاحتمالاتُ بصديقٍ فلسطينيٍّ من القدس، أو زميلِ عملٍ في مؤسّسةٍ دوليّةٍ، وتبدأُ بضابطِ مخابراتٍ إسرائيليٍّ يدعى "أبو سليمان". لا أعلم لماذا يصرُّ هؤلاء على سرقةِ لقبِ خالي فخري، الّذي كان أكثرَ الأشخاصِ الّذين عرفتُهم وداعةً وأُلفة. ناولتني زوجتي الهاتفَ، وتكلّمَ الغريبُ العربيّةَ بلكنةٍ عبريّةٍ إشكنازيّة: "ألو.. كيف حالَك؟". أجبتُ مغتاظاً: "السّاعة وحدة ونص، مين معي؟". لقّفني: "إنتي شغموتا!".

أربعٌ وعشرون ثانيةً فقط، كانت أكثرَ من كافيةٍ لكي يجتاحَني الغضبُ كشاحنةٍ بلا كوابحَ على منحدر، حتّى أوشكتُ أن أنقسمَ فلسطينيّاً على ذاتي. الحقُّ أنَّ اقتراضَ لباسِ المقاومةِ العسكريّ، كان أوّلَ ما تبادرَ إلى ذهني لحظتَها. كم أردتُ أن أهدّدَ الغريبَ بإكمالِ حوارِنا وجهاً لوجه، عند خدمتِه القادمةِ على حدودِ قطاعِ غزّة. منعني خوفي أن يُثلجَ الأمرُ صدرَ "أبو سليمان"، وكذلك قَدْرُ الادّعاءِ في الفكرة. قرّرتُ اللّجوءَ إلى المقاومةِ السّلميّةِ، مسترجعاً أيّامَ الانتفاضة، وكدتُ أن أنفجرَ بجملةٍ "عبريّة" مثل: "كسّماك.. بِنْ زَنُوتْ.. منياك"، ساءني أنَّ هذه الألفاظَ كلَّها عربيّةٌ أصلاً، وأنَّ زوجتي لم تَسْمَعْني أتلفّظُ بهذه التركيبة من قبل ـ مجتمعةً على الأقلّ، ولم أدرِ إن كانت ستتفهّمُ ثورتي كما تفهّمَ كثيرون كيف أعطت الثورةُ القذّافيّ العصا ونسيت الجزرة.

إنَّ كلَّ شيءٍ ـ أيَّ شيءٍ ـ في هذه السّاعةِ، خيرٌ من النّوم. يا الله أحلامُنا، أسماؤنا، حتّى شتائمُنا. يا الله، أربعٌ وعشرون ساعةً فقط، هذا كلُّ ما أحتاجُه للرّجوع إلى حُلْمِ زوجتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟