الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صاحب ياسين.. في مقهى الزهاوي

وديع العبيدي

2011 / 12 / 1
سيرة ذاتية


صاحب ياسين.. في مقهى الزهاوي
كنت قد أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى يومها وأهديت بعض نسخ منها لأصدقاء المقهى، حينها سألني الأستاذ الصديق عبد الرزاق السيد أحمد السامرائي.. هل قدمت نسخة للأستاذ صاحب؟.. وكنت جالسا قريبا منه. عندها أخرجت نسخة جديدة وبدأت في كتابة سطر اهداء كالعادة المتبعة عندنا، وقلت للأستاذ.. أصدرت مجموعة شعرية جديدة وأحب اهداء نسخة لك.. فجاوبني بابتسامة أبوية دافئة..
- مبروك.. يسعدني أن أقرأ لك..
- الأستاذ صاحب..
- صاحب ياسين..
توقف القلم بين أصابعي لحظات.. ولا أعرف ماذا دهمني عند سماع الأسم.. ياما قرأت من شعره وسبحت في عوالمه ووددت أن ألتقي به عن قرب.. صاحب ياسين.. أكملت تسجيل بقية الاسم ولكن بمحبة عميقة.. ووضعت بين يديه الكتاب وصافحته كأني في محراب مقدس.. بينا كان يتصفح الكتاب استغرقت مع نفسي في عالمه الشعري.. وفكرت أن أصحو وأعود إلى توازني اللائق لأعرف كيف أبدأ الحديث معه..
عبّرت له عن سعادتي باللقاء وحاجتي للاستماع إلى شهادته عن تلك المرحلة المبكرة والحرجة في حركة الشعر العراقي..
صاحب ياسين.. نظارة سوداء تخفيان عينين نرجسيتين.. وملامح متغضنة هادئة عقب صراع طويل مع الذات.. مع الداخل.. هو صامت منصت بعمق.. تشعر وأنت تنظر إليه أنه يكتب قصيدة أو يعالج فكرة أدبية.. يرتدي قميصا أبيض بنصف كم.. يعقد ذراعيه أمام صدره.. في جيب قميصه الصيفي صورة ورقة مطوية وقلم.. يبتسم قبل أن يتكلم.. يبدو كأنه فقد كثيرا من وزنه.. طوله يقارب (1.7م) عريض الكتفين، له مهابة في جلسته.. وقفته.. عند مسيره.. يذكرني منظره الزاهد بالشاعر الفيلسوف ميخائيل نعيمة.. سألته عن الصحافة الثقافية في الأربعينيات وما تلاها.. عن حركة الشعر الحر والسياب وحسين مردان.. يتكلم بهدوء.. وكأنه يغرف من أرشيف ذاكرة.. يرسم صورة ماض وملامح شخصيات ما زالت تتحرك أمام عينيه المتأملتين وهو يتحدث بهدوء منساب..
وفي شعره كان أقرب للمدرسة السورية وشعر المهجر اللبناني. متعلقا بالأوزان الخفيفة والتفعيلات القصيرة من مجزوء الأبحر. وهو إلى جانب الاستاذ محمد عزة العبيدي شكلت الطبيعة والمرأة بأبعادها الفلسفية والرومانسية طابعا عاما لأدبه. وما أحرى مثقفينا وناشرينا الأصلاء الالتفات لجمع ونشر أعمال هؤلاء الرواد وسواهم من رموز الثقافة العراقية الأصيلة في القرن الماضي.
عمل الاستاذ صاحب ياسين في الصحافة الأهلية العراقية أيام العهد الملكي، وكان عمله مثل طبعه وشخصه مطبوعا بالهدوء وعدم التنقل بين جريدة وأخرى. وقد أتاح له العمل الصحفي الثقافي أن يكون شاهدا على يوميات ثقافة العراق ومثقفيه وسياسييه، دون أن يكون طرفا أو محورا فيها.
فالثقافة العراقية وريثة تركة ثقيلة من التخندق السياسي والمذهبي والعرقي والطائفي والبلداني. ومع ظهور الدولة الحديثة كان الاستعمار الانجليزي محور المعيارية الثقافية والسياسية، مؤيد للانجليز أو معارض لهم، مؤيد للملكية أو معارض لها. ومن خضم تلك الملابسات وظهور تيارات سياسية حديثة تطورت المعيارية إلى شيوعي أو معارض للشيوعية (ملكي)، ليتطور لاحقا إلى تصنيف (شيوعي/ قومي)، (شعوبي/ بعثي- ناصري) ، (مثقف/ رجعي)، (اسلامي/ علماني- ملحد). ان مآل الشخصية العراقية والثقافة العراقية الآن حريّ بالتفاتة إلى عيوب الاحترابات الاجتماعية والشخصية والتبجح بالمذهبيات لنحر الهوية الوطنية واعدام النسيج الاجتماعي العراقي في التافه والمبتذل من أنماط التفكير أو ملاحقة دعاوى لا تستحق الوجود.
بالمقابل، لم يستطع العقل العراقي حسم أية إشكالية سياسية أو اجتماعية خلال المسيرة الدائبة لتطور أنماط ومسميات المعيارية المذهبية، والتي شكلت منذ البدء وللآن غيابا تاما لمفهوم الوطن وتأسيس الوطنية. بعبارة أخرى، ان الانسان العراقي ومجتمعه، الذي انتذر قبل أربعة عشر قرنا لدفع فاتورة صراع علي ومعاوية/ الحسين ويزيد، مما شكل تدميرا للعناصر الوطنية الأصيلة وإشاعة معايير احترابية دخيلة، ما زالت تتراكم وتغلي مؤدية إلى مسخ الهوية الوطنية ومسخ الشخصية العراقية على مذبح الصراع بين العرب والعجم، السنة والشيعة، الاسلام والعلمانية. وفيما كان العراق وانسانه معروفا بالثقافة والذكاء صار رمزا للجهل والانحطاط.
في تلك المقهى، وعبر زجاج الواجهة، كان الرواد المتقاعدون متفقين في رفضهم لفكرة الحرب بين العراق وايران، ورافضين لتقديم ملايين الشباب العراقي على مذبحها، ورافضين للوضع عموما والكثير من تفاصيله. لكنهم كانوا مشمولين بقانون التقاعد الوطني رغما عنهم. ولم يكن متاحا لكثيرين منهم أن يفتكر أو يقترف تسجيل صفحة من مذكراته أو ذكرياته الشخصية أةو العائلية أو سيرته الثقافية، أو أي شيء يمكن أن يشي بوطن، يخاف حكامه من صوته.
ما أحوجنا اليوم إلى أرشيف الذاكرة العراقية.. إلى أولئك الذي كانوا لما يزالوا يفكرون بطريقة صحيحة ونظيفة، لم تلوثهم المذاهب والأيديولوجيات والطوائف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?غرب وا?طرف الخناقات بين ا?شهر الكوبلز على السوشيال ميديا


.. عاجل | غارات إسرائيلية جديدة بالقرب من مطار رفيق الحريري الد




.. نقل جريحتين من موقع الهجوم على المحطة المركزية في بئر السبع


.. سياق | الانقسام السياسي الإسرائيلي بعد حرب 7 أكتوبر




.. تونس.. بدء التصويت لاختيار رئيس الدولة