الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صناعة -المحنة- في المغرب: «امتحان الزوايا» إلى «امتحان المثقفين».

عبدالحق فيكري الكوش

2011 / 12 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي



عاش المغرب طوال فتراته التاريخية على إيقاع الصدام العنيف والدموي بين السلطة العلمية والسلطة السياسية، ذهب ضحيته أجيال بكاملها، وتم هدر مجموعة من الطاقات المغربية في مجموعة من المجالات والكثير من الجهد والوقت، مثلما أسس هذا الصدام لثقافة الخصومات التاريخية، ولثقافة الظلم في المجتمع المغربي ورسخ لها، ووسع الهوة بين السلطتين السياسية والعلمية دون أن يتمكن المغرب إلا في فترات محددة من ردم هته الهوة العميقة وفي اللحظات المصيرية التي كانت تتطلب مثل هته التضحية، ولا توجد منطقة ولا سلالة غير مظلومة من تاريخ المغرب ومن سياسييه وأسره الحاكمة، وهذا الصدام بلغ ذروته في العصر السعدي، ثم صار هذا الصدام مؤسساتيا منذ تلك الفترة التاريخية، وجزء من عقيدة الدولة والسياسي المغربي لما يستوي على الحكم، وأصبح استهداف المعارضين والعلماء والمثقفين.. عقيدة ومهنة قائمة الذات، وتفنن "الجلادون" في اختراع طرق القتل والإبادة والاغتيال وفي إبداع الطريقة المناسبة واختيار التوقيت المناسب واختراع الذرائع المختلفة، والخاسر الكبير هو بلد، كان من الممكن اليوم أن يكون في طليعة الدول المتقدمة، وله مكانته بين الأمم والشعوب العريقة، شاهدنا في ذلك التوهج التاريخي للمغرب، في فتراته الذهبية، وكيف انه عندما كف عن استهداف أبنائه وعلمائه ومفكريه ومثقفيه، ووحد بين سلطته السياسية والعلمية نحو أهداف محددة، وتطلع إلى ما هو أفضل وأنجز المهمة التي تليق به، التواجد بين قائمة الأمم المؤثرة في محيطها وجوارها الجيو-استراتيجي، وقطف انتصارات عسكرية وسياسية حاسمة، وتمكنه من التموقع في محيطه بشكل قوي، متحكما في قواعد اللعبة الاستراتيجية والمصالح من حوله، والمساهمة في صنع القرار الاستراتيجي في محيطه...
الصدام بين السلطة العلمية والسياسية كانت له كلفته الباهضة في عصرنا الحديث وفي الخمسين عاما التي تلت استقلال المغرب، والفاتورة في عالم مختلف عن قديمه، مكلفة كثيرا، وباهظة، لربح هامش ولو قليل من الحرية في التحرك والمناورة وفي امتلاك القرار السياسي باستقلالية.. ونحن أمام ملف ما اصطلح عليه ب"سنوات الجمر والرصاص"، نكاد نجد الوصفة ولكن عاجزون عن إتمام العلاج ، ليبق الجرح مفتوحا في الزمن، دون أن تمتلك الدولة الإرادة السياسية النهائية والشجاعة في معالجته وحسمه نهائيا للتفرغ للقضايا الكبرى والمصيرية والامتحان الحقيقي، استعادة المغرب لموقعه التاريخي الريادي، ومكانته وهيبته المفقودة. خصوصا وان جميع الظروف اليوم تؤهل المغرب لاستعادة هيبته، وهي فرصة ناذرة للانفلات من الدائرة الضيقة والهامش الضيق وتكسير أغلال الطوق المضروب على عنقه.
سنوات الجمر والرصاص ليست غير فصل دموي آخر من فصول "امتحان الزوايا" السالف الذكر، وصيغة من صيغه بطريقة مختلفة، والذي أبدع السعديون فيه من خلال النيل من معارضيهم، والفتك بهم، بغاية اجتثاث وتجفيف منابع نشوء أي سلالة حاكمة قادمة، تهدد سلطتها القائمة، ودائما كانت هته السلطة تعود إلى المسوغ الديني في تبرير جرائمها، فوَضْع القفازات الدينية، يعفي الحاكم من مهمة التبرير، بل يضفي على العملية طابعها الشرعي، ولنا في فتوى قتل الثلثين لإصلاح الثلث إحدى الغرائب التي من خلالها تبرير البطش السياسي بالمثقف والمعارض ورجل العلم والدين والفنان وحتى العامة أو ما يسميهم الحاكم "الأوباش"، ولتبرير بطش السلطة السياسية بالسلطة العلمية والمعارضين..
عندما توجهت السلطة السياسية في العصر السعدي نحو المعارضة الداخلية، التي جسدتها الزوايا، فلعل الغاية كانت القضاء نهائيا على كل السلالات المرشحة أو المهيأة للحكم، وتجسدت الاجراءات الدموية التي اتخذها السعديون في حق السلطة الدينية فيما سمي :


-«امتحان الزوايا» (المذابح الجماعية للعلماء وأرباب الزوايا): وهو من أشد الامتحانات هولا، (ويبق "سنوات الجمر والرصاص مجرد نسخة منقحة عنه)، تمت تحت غطاء ضريبي، وتحت ما يسمى ضريبة النائبة (وهي ضريبة جديدة استحدثها محمد الشيخ غير الضرائب الشرعية من زكوات و أعشار، وغالبا ما تكون قدرا من الحبوب والسمن) وشملت إجراءاتها الدموية جميع المغاربة، ونموذجها ما حل بقبيلة مزاب من نكبات كما جاء إِتحاف أعلام الناس(3/182، 183)، منها إيقاع السلطان بهم في 23 شعبان 1202 هـ وقطعه رؤوس 700 من وجهائهم، ثم إيقاعه بهم مرة أخرى في السنة الموالية (شعبان 1203) مع قبائل بني مسكين ، لرفضهم أداء "النائبة" والإتاوات المستحقة عليهـم...
والمحنة الأخرى شملت مجموعة من الفقهاء، ومن بينهم الشيخ الفقيه أبا محمد عبد الواحد بن أحمد الوانشريسي – محمد بن علي الزقاق- الفقيه الصالح قاضي الجماعة بفاس الذي أمر السلطان بقتله لأنه اتهمه بالميل إلى أبي حسون الوطاسي أمير فاس، وكان يقول من قتل سوسيا كان كمن قتل مجوسيا فلما قبض عليه السلطان محمد الشيخ قال له أنت زق الضلال فقال له لا والله بل أنا زق العلم والهداية، ويحكى أنه لما مثل بين يديه قال له السلطان اختر بأي شيء تموت فقال له الفقيه اختر أنت لنفسك فإن المرء مقتول بما قتل به فقال لهم السلطان "اقطعوا رأسه بشاقور فكان من حكمة الله وعدله في خلقه أن السلطان المذكور قتل به أيضا و الشيخ أبو علي حرزور المكناسي - خطيب مكناسة الزيتون أمر السلطان بقتله لكلام بلغه عنه وأنه كان يذكره في خطبه ويحذر الناس من إتباعه والانقياد إليه ويقول في خطبته جاءكم أهل سوس….الأقصى البعاد ثم يتلو الآية الكريمة ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد..)
المحنة شملت احمد العروسي وسيدي رحال وعبد الله الكوش... بل أن هذا الصدام الدموي، حدث بتزكية من سلطة علمية مضادة، ومساندة للسلطة السياسية...
هته المذابح والإجراءات الدموية هي التي مهدت لخلق مشكل الصحراء الذي اختمر لتطبخه دول الجوار وقوى أجنبية في مطابخها والنتيجة هته المأساة في تيندوف، وهته الحصيلة الرهيبة من القتلى والضحايا التي تجاوزت ال 25 ألف قتيل، والخسائر المادية والمعنوية الجسيمة. فهروب المعارضين إلى الصحراء، سينتج عنه تشكل وعي سياسي جديد، في مستقبلنا الحاضر، وفي حدوث تفاعل بين جميع عناصر المجتمع الصحراوي الذي انقطعت صلة الرحم التاريخية به، بفعل التصرفات الطائشة للسلطة السياسية، التي بطبيعة الحال، كانت تفتقر إلى عنصر بعد النظر. وفرار سيدي أحمد العروسي، ومعارضين آخرين، نحو الجنوب المغربي هو عمق المشكلة، ولعل الحاكم المغربي نظر دائما إلى الصحراء كوعاء عقابي ولم ينظر إلى الصحراء كمكان تنبعث منه براكين وحمم تهدد وتعصف بحكمه.

- «امتحان المثقفين»:
ويمكن وصفه بالامتداد الطبيعي لامتحان الزوايا، والنسخة المنقحة منه، وتجسد في اغتيال نهائي للزوايا وسلطتها، ( الاستيلاء على الزاوية الدلائية بفاس سنة 1668م، والأمر بإخلاء مبانيها وطمس معالمها.. ثم سنته 1784 م – 1199ه سيتم هدم مقر الزاوية الشرقاوية بأبي الجعد ، والإستيلاء على ممتلكاتها ، ونقل شيخها محمد العربي بن المعطي الشرقاوي إلى مراكش مع أسرته. وكادت الزاوية الناصرية بدرعة أن تلقى نفس المصير سنة 1788 م-1203ه ). مع تحوير مهمتها وتنويم السلالات المنتجة لها، وتجسد فيما ما اصطلح عليه بسنوات الجمر والرصاص، ووصولا إلى حالة الحصار المفروضة على مثقفين مغاربة من حجم عالمي، حتى يومنا هذا..
الأخطاء التي ارتكبت ما بعد الاستقلال لم تكن إلا تتمة لامتحان الزوايا السعدي، واستهداف جميع رؤوس المعارضة والسلطة العلمية من طرف السلطة السياسية القائمة أعاد المغرب إلى القرن التاسع الهجري، ليحدث للمغرب تراكم في ملفات الصدام الدموي بين السلطة السياسية والعلمية، وهذا الصدام عطل مسيرة المغرب نحو البناء والديمقراطية ودولة الحق والقانون وجعل طابور المظلومين يتسع...
الاغتيال شمل حتى حناجر الفنانين، وما اغتيال الشيخة خربوشة وبوجميع الا صدام بين السلطة السياسية وحناجر المنتقدين ولو كانوا مجرد فنانين، ليظهر ضيق صدر الدولة والحاكم حتى من حنجرة غاضبة، تقذف حمم الغضب والصراخ في وجه الظلم.
لقد نالت المحنة من المفكر محمد عابد الجابري مثلما نالت من المثقف والمفكر المهدي المنجرة، مثلما نالت من الفنان مثل بوجميع، مثلما نالت من آخرين، بل إن العنصر الاثني يتم تغييبه في هته الحالة ( إبراهام السرفاتي).
إن اغتيال أرباب الزوايا في العصر السعدي وتشتيت شملهم إلى غاية الاغتيال المادي والمعنوي للمثقفين والمعارضين، لما بعد استقلال المغرب، إلى الإبادة النهائية لمفهوم الزاوية القديم – ما بعد العصر السعدي- وحصره في المفهوم الجديد، المفهوم الطرقي الذي لا يخلو من غايات خسيسة وهي استبلاد الناس، وغرس قيم الخرافات في جماجمهم، وتنويم المجتمع من خلال هته الزوايا الطرقية، وتكاد خارطة انتشار الزوايا بمثابة خارطة تنويم تاريخي، إذ تحولت الزاوية ومحيطها إلى قطعة ترابية خارج التاريخ، ومكانا لزراعة مخدرات من صنف غير مرئي، تفتك بالمجتمع وتشل قدرته، دون أي عناء، ودون ترك بصمات لما بعد الجريمة.
الزاوية بخروجها عن مفهومها التقليدي، كمؤسسة اجتماعية، وكجامعة ومؤسسة علمية، ثم حينا مؤسسة عسكرية، ومؤسسة سياسية حينا حين تلزمها الظروف التاريخية بعدم الحياد، وبعثة ثقافية مغربية نحو الخارج، وانزلاقها نحو تأدية دور المخدر، ثم تأدية دور استخباراتي، لتؤدي دورا مُعطّّلا وكابحا للنمو المعرفي والثقافي للمجتمع المغربي.
ونحن ننجز حفريات في تاريخ الزوايا، ونقصد مقابرها في أرشيف التاريخ المغربي، نتأسف عن هذا الاغتيال المروع لمؤسسات هي نفسها اليوم تسمى "جمعيات مجتمع مدني"، أحد آواني الحداثة في مجتمعاتنا العربية.
امتحان المثقفين هو مشروع تعطيل وكبح للطاقات، بل وهو مشروع ممتد للنيل من المثقفين بدأ منذ عصر السعديين، أو العصر الذي منه بدأت مشاكل المغرب أجمعها ومنها مشكلة الصحراء ومشكلة سبتة ومليلية رغم امتلاك الدولة آنذاك وسائل الحسم العسكري للملف.
ضيق صدر الدولة ومن خلالها الأسرة الحاكمة في استيعاب الرأي المعارض ، يعود إلى افتقاد عنصر بعد النظر، وقد أثبتت التجارب الحديثة ووصول الاشتراكيين والإسلاميين للحكم في المغرب إلى أن الاصطفاف في المعارضة ليس هو ممارسة السلطة، فتغيير الواقع نحو الأفضل هو مهمة جماعية غير منتهية في الزمن وليس مسؤولية ملك أو مثقف أو عالم بل مسؤولية الجميع وهي تراكم تاريخي، لا بداية له ولا نهاية له..
إن وقوفنا على الممارسات المشينة في المواسم، يعطينا صورة واضحة، عن وجود نيتة مبيتة للإساءة للمثقفين والعلماء والفقهاء والمفكرين والمجاهدين الذين هم » رُقُاد« هته الأضرحة، ويظهر حجم الوقاحة المتعمدة للإساءة لهؤلاء أمواتا وأحياء عبرة لهم، وعبرة لمن يرد أن يحذو حدوهم، وتجسد الاغتيال حاليا في غياب أي ذكر لا في شوارع المملكة ودروبها ولا في الكتب المدرسية.
إن الدولة تركز على الثقافة الموسمية، وعلى المهرجين لربح الوقت وتبذيره، وفتح وسائل الإعلام إمامهم لهدم القيم وتمويت الهوية المغربية تحت يافطة الحداثة والتغيير، بينما الحقيقة أنها مؤامرة ضد المغرب وتاريخه وهويته ومثقفيه ومفكريه وعلمائه. ..

خاتمة:
المغرب مطالب بالكف نهائيا عن صناعة المحنة لنخبته، والمفروض اليوم، التعجيل بمصالحة غير مسبوقة بين السلطة العلمية والسياسية، في ظل الخصال الأصيلة للإنسان المغرب من تسامح ووسطية وميل إلى السلم وجنوح إليه.
تكريم المثقف المغربي، وطي نهائي لملف "الظلم" في المغرب، الظلم ضد الإنسان وضد المنشأة الثقافية، التي توثق لمرور الإنسان المغربي ومساهمته التاريخية، والظلم ضد الجهات والأمكنة، هته واحدة من آليات المصالحة بين السلطة السياسية والسلطة العلمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ