الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أول رواية عن ثورة 17 فبراير الليبية: “عدو الشمس، البهلوان الذي صار وحشا” – الفصل الحادي عشر والأخير

محمد سعيد الريحاني
أديب وباحث في دراسات الترجمة

(Mohamed Said Raihani)

2011 / 12 / 4
الادب والفن



أدرك الليل موكب الهائمين في الصحاري المكشوفة لأعين الأعداء والمطاردين قرب ماسورة ضخمة.

توقفت كل سيارات الموكب وأسكتت كل المحركات وخرج كل من كان بداخلها بخطوات سريعة نحو الماسورة إلا العقيد الذي ظل يتأمل الدخان المتصاعد من سيجارته نحو السماء. وحين طلب أحدهم منه الالتحاق بهم داخل الماسورة للنوم سالما، بعيدا عن أعين الأقمار الاصطناعية في السماء وأعين المتلصصين على الأرض، علق العقيد ساخرا:
- أأدخل مجاري المياه لقضاء ليلتي كما تفعل الجرذان؟!

ضحك مرافقوه وسبقوه للاختباء داخل الماسورة وتغطية أرضيتها بمعاطفهم قبل أن ينادوا على العقيد ثانية لتبوئ مكانته بينهم حبوا على يديه ورجليه...

داخل الماسورة، تمدد على ظهره ورفع يده فلامست سقف المكان وأدرك كم انخفض السقف في مسيرة عناده لكن دفء المكان وشخير مرافقيه كنس تأملاته وعجل بسفره إلى عوالم لا سقف لها ولا جدران فبل أن يستيقظ مذعورا على أصوات لا هي بأصوات صيادي الأرانب ولا صيادي الحجل ولا صيادي الخنازير البرية... فتملكه الهلع والرعب وهو لا يرى غير الأرجل تجري خارج الماسورة في كل الاتجاهات ثم تعود إلى حيث تقف السيارات الرباعية بالدفع التي خذلته خذلانا لم يضرب له حسابا ووشت به للثوار الذين تعرف عليهم من خلال لهجتهم ونبرة صوتهم وإيقاع جملهم...

أبطلت المفاجأة أطرافه ونسي بأن له مسدسا يمكنه الدفاع به عن نفسه، وبأن حواليه مرافقون يمكنه الدفاع بهم نفسه...

طال فعل المفاجأة حتى أطل الثوار برؤوسهم داخل ماسورة المياه في الصحراء القاحلة، فانتبهوا لكونها غير سالكة. دققوا النظر فإذا بالعراقيل الجاثمة داخلها ليس لا أعشابا عالقة ولا أتربة موحلة... استرعى الأمر فضولا زائدا فطلبوا مساعدة بقية العيون لبقية الثوار الذين طوقوا مسلكي الماسورة فراعهم ما شاهدوا: للأعشاب العالقة داخل الماسورة أرجلا وأيدي واعين تضيء أو تعكس الضوء حين تسلط مصابيح الثوار عليها...

فكر أحدهم بإطلاق النار داخل الماسورة لمعرفة طبيعة الأعشاب العالقة داخل الماسورة فجاءه الجواب: لا تطلق الرصاص فهنا يقضي ليلته قائد ثورة الفاتح وأعوانه من رجالات الثورة العظيمة...

أبطلت المفاجأة أيدي الثوار وعقدت لسانهم ولم تتحرر حتى سمعوا صوت الزعيم الذي ألفوه من خلال خطاباته على المذياع والتلفاز:
- لن أخرج من الماسورة إلا بضمانات!
- ومن تكون حتى نعطيك ضمانات؟
- أنا معمر القذافي زعيم الثورة الليبية المجيدة وقائد الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى...
- أمعمر القذافي الذي يلبس الذهب ويتكئ على الذهب وينام فوق الذهب ويأكل في الذهب... ينام هنا في الصحاري داخل ماسورة؟!
- نعم، أنا هنا ولن أخرج من الماسورة إلا بضمانات!
- أمعمر القذافي الذي ينعت شعبه الثائر على الاستبداد والفساد بالفئران والجرذان... ينام مثل الجرذان والفئران داخل ماسورة هنا في الصحاري؟!
- نعم، معمر القذافي هنا فأعطوه ضمانات على سلامته حتى يخرج من الماسورة!

فقد أحد الثوار صوابه وبدأ يصرخ طالبا التحاق الثوار به:
- الجرذ هنا! معمر القذافي هنا! القائد الخالد هنا داخل الماسورة!...

أخيرا تحررت الأصابع وضغطت على الزناد فأطلقت أعيرة نارية في الهواء ابتهاجا بالصيد الثمين:
- اخرج، أيها الجرذ!...
- لن أخرج إلا بضمانات!...
- اخرج حيا وإلا سنخرجك قتيلا!
- أنا معمر القذافي القائد وأنا أقول لكم لن أخرج إلا بضمانات!...

أدخل أحد الشباب فوهة رشاشته داخل الماسورة وأطلق رصاصا على جنبات الماسورة فطفق القذافي يحبو على يديه ورجليه خارجا من الماسورة، طالبا العفو عند المقدرة، ناسيا شروط ضمانات السلامة...

أمسك به أحدهم من شعر رأسه لجره خارج الماسورة فعلق الشعر بيده وبدا القذافي في أعين الثوار لأول مرة رجلا أصلعا:
- هل معمر القذافي الذي حكمنا لأربعين عاما كان أصلعا؟!
- هل كان معمر القذافي طيلة الأربعين عاما من حكمك علينا تضع كل هذا الثقل فوق رأسك؟!
- هل كان معمر القذافي كل هذه المدة على كرسي الحكم يمثل علينا ويكذب علينا حتى في مظهره؟!
- أيمكن ان يكون هذا الرجل مجرد شبيه لمعمر القذافي أراد بإلقائه بين أيدينا صرف النظر عن وجوده في مكان آخر من البلاد؟!...

أمسك أحد الثوار بالعقيد من أذنه وسحبه إلى أعلى ليجبره على الوقوف فانتبه الجميع إلى أن معمر القذافي المجرور من أذنه أقصر بكثير من معمر القذافي الذي جرهم من آذانهم لمدة أربعين عاما. فسأل أحد الشباب:
- ولكنك، طيلة الأربعين عاما على التلفاز، كنت تبدو أطول بكثير، يا معمر!
- لست مسؤولا عما كنت أبدو عليه. التمثلات هي تمثلاتكم وأنتم مسؤولون عنها!...
- ولكنك أنت من صنعها لنا، ألم تكون مسؤولا أبدا عما فعلت؟
- أنا لم أكن أفعل، أنا كنت أعمل؟...

تدخل ثائر آخر صارخا:
- لا تكلموا وحشا لا يجيد شيئا آخر غير الكلام أمام الناس وأمام الكاميرا. إنه لا يجيد غير الكلام والخطابة والسفسطة... هل يذكر أحدكم إنجازا حققه على الأرض؟! كل الحروب التي دخلها خسرها، والوحدة الوطنية التي حققها أسياده ها هو اليوم يهددها، والأطر التي أنجبها الوطن هجرها إلى غير رجعة... هذا وحش الكلام. ألا تذكرون أننا حين دخلنا قصره في باب العزيزية وجدنا جهاز البث الإذاعي والتلفزي داخل غرفة نومه: يخطب وقتما شاء ويقول ما شاء كيفما شاء حين يجفو النوم عينيه؟! أنسيتم هذا وهو موضوع ثورتكم عليه؟!

لكن الفضول كان أقوى فتابع شاب آخر:
- هل كنت، أيها الجرذ تقف على صناديق أم كنت ترتدي أحذية عالية الكعب عند إلقائك لخطبك خلال الأربعين عاما من حكمك؟!...

نهر شاب السائلين عن أسلوب إدارتهم للحديث مع معمر وانقض بعنف على رجله رافعا إياها للسماء:
- هذا هو الشيء الذي يقف عليه الجرذ كي يبدو لكم أعلى وأطول وأكبر...

اندهش الجميع لكون العقيد يرتدي حذاء عسكريا بكعب يقارب بعلوه كعب أحذية النساء. فالتهبت فيهم نار الإهانة وانقض أحدهم على زوج الأحذية فنثرها من رجلي القذافي وبدأ يلطمه بهما وهو يصرخ ليسمع للشاب الذي تذكر للتو بأن له هاتفا نقالا يليق بتصوير لحظة تاريخية:
- صَوّرْ، صَوّرْ! هذا هو معمر القذافي! هذا هو معمر الجرذ!...

وفي هياج الهائجين، كان صوت يخاطب القذافي الذي لم يتوقف اللطم بالأحذية على وجهه:
- ألم نقل لك، أيها الجرذ، بأننا "جايين لك"؟!
- بلى، ولكنني كنت ضحية الكرسي الذي كان يفكر بي...
- ألم نكن صادقين في وعدنا، أيها الجرذ؟!
- بلى، واليوم آمنت برب موسى ورب الثوار...
- اسكت، أيها الجرد. اليوم، إيمانك مردود عليك!...

انتبه أحدهم إلى أن القذافي قد يكون محتفظا بسلاح أبيض أو مسدس في جيب من جيوب لباسه العسكري فنبه الثوار الشباب غلى ضرورة تفتيش العقيد وسحب غي فرصة منه في الإفلات من أيديهم.

جذب أحدهم قميص العقيد بعنف فشلت المفاجأة يديه:
- كم نسخة من معمر القذافي كانت تدور في ليبيا؟!
- معمر الذي بين أيدينا أبيض اللون وقصير القامة وجسده بلا شعر لا على رأسه ولا على صدره ولا في أي مكان آخر من جسده؟!
- بل إن النسخة الحالية من معمر شقراء مثل سيجارة أمريكية!...
- هل كان معمر القذافي يخفي عنا كل هذا وهو يدعي ما ادعاه طيلة الأربعين عاما؟!
- لم يكن معمر القذافي طاغية فحسب وإنما كان له وجهان أيضا. لقد كان رجلا آخر. كان الجرذ يسخر منا. يا للإهانة!...

انتاب الثوار غضب فجائي ففقدوا صوابهم وبدؤوا يركلونه ويصفعونه ويلكمونه وهو يتوسل إليهم:
- هل ستقتلوني، يا أبنائي؟!
- لا بد من عقاب أقوى من القتل كي تستحقه...
- ألن ترحموا ضعفي؟!
- وهل رحمت ضعفنا في مسيراتنا السلمية التي قصفتها بالطائرات، وفي خلوتنا في بيوتنا حين سلطت علينا الجنود المرتزقة ليستبيحوا بيوتنا ويغتصبوا نسائنا ويقتلوا أطفالنا؟ هل رحمت ضعفنا آنئذ، أيها الوحش؟!
- أنا الآن أعتذر لكم عما فعلته...
- معمر القذافي يعتذر! يا للمكر! يا للخديعة!...
- هل شققتم على قلبي لتشكُّوا في إيماني؟!
- اسكت، أيها الجرذ. اسكت!...

اقتحم شاب غاضب الدائرة المطبقة على العقيد، شاهراً سلاحه:
- دعوني أقتله.
- لا. لن نقتله. سنحتاجه لفضح كل من كانوا معه وكل ما قام به وكل الأسباب التي جعلته يتحامل على هذا الوطن طيلة هذه المدة...
- وماذا سنفعل بشهاداته وفضائحه التي قضى كل حياته يلطمنا بها حيثما ولينا وجهنا: على المذياع والتلفاز والجرائد والمقررات الدراسية؟!...
- هذا الوحش بين أيدينا هو الوحيد الذي يعرف ملفات البلاد. لم يكن يشرك أحدا في قراراته. كل من تحلقوا حوله كانوا مجرد ديكورات، مجرد أكسيسوارات، مجرد زوائد. سنحافظ على سلامته لنقرأ كف قدرنا ونعرف لماذا حدث لنا ما لم يحدث لغيرنا...
- دعوني أفجر هذا الرأس المجنون الذي أنتج "الكتاب الأخضر" وباقي الحماقات. لن تتحرر ليبيا إلا بتفجير ذلك الرأس. دعوني أقتله قبل أن يفلت من أيدينا بسهو ساه أو فعلة فاعل. دعوني أقتله قبل أن يفلت منا ويعود لتدمير ما أفلت منه!...

أمام لامبالاة الثوار، سحب الشاب بقوة أزرار قميص العقيد ليفرغ في صدره ذخيرة مسدسه الرشاش من الرصاص لكن عينيه وقعتا على مسدس ذهبي خطف بصره.

انتزع المسدس من حزام العقيد وتفحصه فوجده يحتوي على ذخيرة حية كاملة لم يستعمل منها ولو رصاصة واحدة....

حك المسدس بظفره فلم يتقشر سطحه الذهبي...

وزنه بيده فكان أخف وزنا من المسدسات التي تدرب عليها في مخيمات تدريب الثوار على حمل السلاح...

قربه من عينيه وقرأ العبارة المنحوتة باللون الأسود على جانبيه: "شمس الفاتح لا بد أن تغيب"...

انتاب الشاب غيظ مضاعف:
- هل سيدوم حكمك إلى الأبد، أيها الجرذ؟!

كان العقيد ممددا على العربة يمسح الدم السيال على وجهه ولم يجب على الأسئلة السيالة على مسامعه إلا بعدما اختلطت ثانية بالركل والرفس واللطم:
- لماذا لم تلبس أحذية من ذهب، أيها الجرد، وتنصب عليك عجلا من ذهب يكون لك إلها؟ تكلم!...

كان الرفس والركل والصفع واللطم يقلبه ويقلّبه في كل الاتجاهات ولا يترك له مجالا للحفاظ على توازن يسمح له بالجواب. لكن الطعنة الكبرى كانت هي العبارة التي قرأها الشاب منحوتة على مسدسه الذهبي الذي صنعه له جهابذة السحرة الأفارقة لحمايته من غدر الغادرين.
سيلاقي حتفه حتما ولن يقف إلى جانبه لا سحرة إفريقيا ولا سحرة الكابالا. لقد تمكن خصومه من تعقيم فاعلية السم الذي يتسلح به بنفس الطريقة التي عقّمَ بها ويلينغتون، الجنرال الإنجليزي، سمّ الإمبراطور نابوليون بونابارت وأخصى فاعليته قبيل معركة واترلو إذ سحب منه، عن طريق جهاز استعلاماته، سيفه المصنوع من الألماس، معدن الخلود، ووضع محله سيفا شبيها قبيل المعركة بأربع وعشرين ساعة فظهر ويلينغتون لنابوليون في ساحة المعركة وهو يدرك بأنه سيصارع خصما خاسرا مسبقا يحارب بسلاح زائف...

عبارة "شمس الفاتح لا بد أن تغيب" المنقوشة على المسدس نبهته إلى أن المسدس لم يكن مسدسه الأصلي والذي حفرت عليه عبارة "شمس الفاتح لن تغيب"...

لم يكن المسدس مسدسه، ولا الشعار المنقوش عليها شعاره، ولا القدر الذي اختاره له السحرة قدره...

تحت وابل الركل، كان العقيد ينتظر القدر الجديد بفارغ الصبر...

تحت وابل الرفس، كان العقيد ينتظر الخلاص بأسرع طلقة...

تحت وابل اللطم والصقع، كان جسد العقيد مجرد قشرة صرصور هجرتها روح الإزعاج والتشويش على الآذان التواقة لسماع أصوات الشحرور القادم للتّوّ للتبشير بزحف الربيع...



اضغط هنا لتحميل الرواية كاملة: http://raihani.free.fr/ebooks/the_enemy_of_the_sun.pdf








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-