الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
ياسين الحاج صالح
2011 / 12 / 5ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011
1ــ هل كانت مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهيرية مؤثرة في هذهِ الثورات؟ وإلى أي مدى؟
في اليسار التقليدي، الشيوعي، منزعان: منزع مساواتي وعدالي وإنساني، ومنزع تسلطي، ميال إل احتكار الصواب والسلطة. بقدر ما يتغلب المنزع الأخير في تكون اليساريين، فإنه يضعهم في موقع متعالي على العامة والثورات. ولقد كانت الشيوعية الرسمية، وبعض الشيوعية المعارضة تاريخيا،وهما شريكتان في التمركز حول الذات والتلهف على السلطة، أقرب إلى التحفظ على الثورة، أو العداء الصريح لها. شاركتهما الموقف الشيوعية اللبنانية.
هناك بالمقابل يساريون مستقلون، ديمقراطيون وليبراليون، ينحدر بعضهم من المنزع الآخر لليسار الشيوعي القديم، المنزع العدالي والإنساني، كانوا أكثر إيجابية وانخراطا في الثورة. ومساهماتهم أغنت الثورة ونمت بعدها الثقافي، وأسهمت في إنقاذ كرامة اليسار في البلد.
لكن بين المشاركين في الثورة منحازون لقيم المساواة والحرية والعدالة، دون أن يعرفوا أنفسهم كيساريين أو ينحدروا من أصول يسارية تقليدية. أكثرهم شباب على كل حال، وربما من بينهم سيتشكل يسار جديد ما بعد شيوعي.
2- هل كان للاستبداد والقمع في الدول العربية الموجه بشكل خاص ضد القوى الديمقراطية واليسارية دوره السلبي المؤثر في إضعاف حركة القوى الديمقراطية واليسارية؟
يتضمن السؤال حكما ذاتيا منحازا في شأن مراتب التعرض للقمع، يحيل إلى التمركز الشيوعي القديم حول الذات. في الواقع ليست "القوى الديمقراطية واليسارية" هي التي تعرضت للقمع "بشكل خاص"، فقد طال القمع كل القوى السياسية والاجتماعية المستقلة حقا، وفي كل من تونس ومصر وسورية وليبيا تعرض الإسلاميون لوطأة القمع الأشد.
لكن لا ريب أن القمع أضعف تلك القوى. لقد ألحقت بها النظم القمعية هزائم سياسية، وهو ما أفضى إلى تقزيمها وغرس شعور عميق بالنقص في أوساطها، وكذلك أسرها في موقع رد الفعل وإفقادها القدرة على المبادرة الفكرية والسياسية. وقد فاقم هذا كله أنها قلما تمكنت من تجديد منظوراتها الفكرية ورؤاها، بحيث تجدد شبابها وتستعيد القدرة على المبادرة. وهذه النقطة أكثر أهمية من القمع ذاته في رأيي. يشهد على ذلك أن اليسار التقليدي دخل في أزمة حتى حيث تعرض لقمع أقل أو لم يتعرض للقمع. وهذا لأن منظورات هذا اليسار وأكثر مفاهيمه وأدواته لم تعد صالحة لا لفهم العالم وشرحه، ولا لتوجيه العمل فيه، ولا لاجتذاب مؤيدين وتعبئة أنصار على تلك الأرضية. أي أن كل وظائف الإيديولوجية الشيوعية قد تعطلت، الوظيفة المعرفية الشارحة، والوظيفة العملية البرنامجية، والوظيفة الرمزية التعبوية. وهذا التعطل الشامل علامة موت أكيد.
يشهد على ذلك أيضا أن اليسار غير الشيوعي لم يجد صعوبة في الانخراط بأشكال متنوعة في الثورة في سورية.
3- هل أعطت هذه الانتفاضات والثورات دروساً جديدة وثمينة للقوى اليسارية والديمقراطية لتجديد نفسها وتعزيز نشاطها وابتكار سبل أنجع لنضالها على مختلف الأصعدة؟
أرى أن أهم درس أن اليسار ليس مسألة انتساب إيديولوجي، أو أصل أو هوية، بل هو مسألة موقع في الصراعات الاجتماعية والسياسية الفعلية، ومسألة عمل وكفاح فعلي. من هو ضد الثورة ليس يساريا، وإن كان اليساري ينخرط في الثورة بطريقة ربما تغاير انخراط وعلى أسس مغايرة.
والدرس الثاني وجوب إعادة بناء التوجه اليساري على المبادئ الأخلاقية الأولى، العدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وليس حول تلك التركيبات الإيديولوجية المزورة مثل الممانعة والشيوعية والقومية.
وكذلك أولوية المعرفة المبنية على التجربة الحية والخبرة وليس على اجترار تعاليم الإسلاف.
4ــ كيف يمكن للأحزاب اليسارية المشاركة بشكل فاعل في العملية السياسية التي تلي سقوط الأنظمة الاستبدادية؟ وما هو شكل هذهِ المشاركة؟
بالانخراط في الكفاح الثوري الجاري الآن، بأن تكون جزءا من العملية التغييرية الكبرى التي نعيشها، وبالانحياز المتسق ضمنها إلى قيم المساواة والحرية والعدالة والأخوة الوطنية والإنسانية. وبالتخلي النهائي عن الصلف الشيوعي والانعزالية الشيوعية، وذهنية الملة الناجية في صيغتها الشيوعية. وكذلك القطيعة مع ذهنية الحرب الباردة المستمرة ضد جميع الآخرين، وهي استبطان للحرب الباردة التي كانت خاضتها الشيوعية السوفييتية غير المأسوف عليها (ومثلها في ذلك الليبرالية الأميركية).
المساحة التي سيشغلها يساريون في العملية السياسية بعد سقوط نظم الاستبداد تتناسب مع مساحة مشاركتهم اليوم في الكفاح ضد الاستبداد.
5- القوى اليسارية في معظم الدول العربية تعاني بشكل عام من التشتت. هل تعتقدون أن تشكيل جبهة يسارية ديمقراطية واسعة تضم كل القوى اليسارية والديمقراطية العلمانية ببرنامج مشترك في كل بلد عربي, مع الإبقاء على تعددية المنابر, يمكن أن يعزز من قوتها التنظيمية والسياسية وحركتها وتأثيرها الجماهيري؟
بقدر ما يتعلق الأمر بسورية، فإن الأولوية كانت ولا تزال لمزيد من الفرز بين يسار استبدادي وعلمانية استبدادية وبين يسار وعلمانية ديمقراطيين. الأولوية للديمقراطية والتحرر الشعبي، وليس للقرابات الإيديولوجية. الجبهة المطلوبة هي جبهة الديمقراطيين (ماركسيين، ليبراليين، اجتماعيين...)، وليست جبهة الشركاء الإيديولوجيين.
6ــ هل تستطيع الأحزاب اليسارية قبول قيادات شابة ونسائية تقود حملاتها الانتخابية وتتصدر واجهة هذهِ الأحزاب بما يتيح تحركا أوسع بين الجماهير وأفاقا أوسع لاتخاذ المواقف المطلوبة بسرعة كافية؟
هذه مسألة حياة أو موت. في سورية نشط في الثورة، واعتقل واستشهد في سياقها، شباب، نساء ورجال، لا يشبهون إلا قليلا اليساري الشيوعي التقليدي، ولا يصدرون عن عقيدة محددة أو يبشرون بنموذج اجتماعي جاهز، أو يحتكرون الحق والمعرفة لأنفسهم. أعتقد أن الثورات إعلان موت نهائي للضرب التقليدي من اليسار، وشهادة ميلاد محتملة ليسار مختلف، عملي أكثر، إنساني أكثر، متحرر من أزمة اليسار القديم وماضويته.
لكني لا أتصور اليسار حزبا أو تنظيما، أو أحزابا... إنه حساسية وحركات اجتماعية وطاقة حية متحركة. أتطلع شخصيا بيسار لا تغريه السلطة على أي مستوى، ولا يدعو إلى المساواة، بل يجسدها في سلوك اليساريين. أحب كثيرا قول غاندي: كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم!
أحب أن أضيف أنه، على المستوى الفلسفي، يبدو لي أن على اليسار ما بعد الشيوعي أن يضع نفسه على مستوى ما يجري ويصير ويحدث، على مستوى الصيرروة (أستند على جيل دولوز)، وليس على مستوى ما هو كائن أو ما سيكون، الطوبى. الانحياز المعرف لليسار هو إلى التغير والحركة والتجدد المستمر، وليس إلى أية أوضاع قائمة أو مثل ربما تقوم يوما.
7- قوي اليسار معروفة بكونها مدافعة عن حقوق المرأة ومساواتها ودورها الفعال، كيف يمكن تنشيط وتعزيز ذلك داخل أحزابها وعلى صعيد المجتمع؟
بالمشاركة المباشرة، هنا والآن، للنساء في التشكيلات الاجتماعية والسياسية القائمة أو الآخذة بالتشكل. ورأيي أن اليسار ينبغي أن يكون أكثر انشغالا بالمجتمع مما بالدولة، وبالتحت وليس بالفوق، وبالآن أكثر مما بالمستقبل. المستقبل يصنع الآن، واليساري التحرري يقوم بالعمل الصحيح الآن.
وبما أن من المرجح أن يكون للإسلاميين حضور ووزن عام أكبر بعد الثورات، فسيكون مهما لليسار أن يجسد نموذجا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا مغايرا، متسقا ذاتيا، وقادرا على مخاطبة قطاعات متململة في مجتمعاتنا من أية سيطرة دينية محتملة. مسألة المرأة في القلب من مثل هذا النموذج. والمهم بالطبع هو التحرر الحقيقي للنساء، وليس التحرر الشكلي المحض.
8ــ هل تتمكن الأحزاب اليسارية والقوى العلمانية في المجتمعات العربية من الحدّ من تأثير الإسلام السياسي السلبي على الحرّيات العامة وحقوق الإنسان وقضايا المرأة والتحرر؟
هذا ممكن إذا كانت هي تجسد الحريات العامة وحقوق الإنسان والمرأة والتحرر. إما إن كانت تعرّف نفسها بهذه القيم دون أن تتجسد في نظمها وعملها فعلا، فبالطبع لا يمكنها أن تحد من أي تأثير سلبي لأي كان.
سألاحظ أيضا أنه في الواقع المعاين كان دور إسلاميين في الجولة الراهنة من الكفاح من أجل الحرية السياسية أكبر من دور "أحزاب يسارية وقوى علمانية"، ليس كل الإسلاميين ولا كل اليساريين والعلمانيين بالتأكيد، لكن يما يكفي لعدم المطابقة بين الهوية الإيديولوجية وبين الموقع والدور الفعليين. وبما يوجب الخروج، مرة أخرى من التمركز الإيديولوجي حول الذات ومن ذهنية الحرب الباردة.
بالمناسبة، ألاحظ أن الإسلاميين ماديون بالمعنى الفلسفي للكلمة أكثر بكثير من عموم اليساريين، يمن فيهم يسار ما بعد شيوعي. الإسلاميون أرجلهم على الأرض وعيونهم على الأرض، رغم "سماوية" عقيدتهم، وهم منشغلون بالواقع القائم فعلا ومشكلاته، وإجاباتهم بسيطة، وربما تبسيطية، على ما يطرحه من تحديات، وهم شعبيون بمعنى قربهم الفعلي الحي من الشعب، ومن البيئات الشعبية الفعلية. فيما أكثر ضروب اليسار لدينا فكروية ومجردة، ومثالية بعمق (فلسفيا). لا يسجل الإسلاميون تقدما في مجتمعاتنا الثائرة لأسباب احتجاجية فقط، ولا لأنهم مفهومون ومثالهم قريب مما يعرفه الناس ويتعارفون عليه، ولكن كذلك لأنهم أقرب فعليا إلى الجمهور العام وأكثر انخراطا في أوساطه. لا مجال لمنافستهم سياسيا أو الحد من أية آثار سلبية محتملة لهم على أي مستوى دون اكتساب احترام المجتمع ووضع النفس إلى جانبه وفي مستواه.
9- ثورات العالم أثبتت دور وأهمية تقنية المعلومات والانترنت وبشكل خاص الفيس بوك والتويتر..... الخ، ألا يتطلب ذلك نوعاً جديدا وآليات جديدة لقيادة الأحزاب اليسارية وفق التطور العملي والمعرفي الكبير؟
بلى. لكن المسألة محلولة منذ أن نفكر أن الثورات هي التجربة المكونة ليسار جديد ما بعد شيوعي. فإذا كان ما يميز اليسار هو انشغال أقوى بقضايا المساواة الاجتماعية وموقف مخاصم لأهل السلطة والامتياز، فإن يسار ما بعد الثورة هو ما يجعل من الانترنت ووسائل الاتصال الجديدة ميدان معركة من أجل الحرية والمساواة، وضد الراسخين في السلطة والمال. هذا غير ممكن دون تمكن طيب من التقانات الجديدة التي قلبت العلاقة التعليمية لمصلحة ألأصغر سنا: الأصغر هم من يعلمون الأكبر. قد يكون واحدا من التناقضات الأهم غدا هو هذا الذي يتواجه فيه شباب يسيطرون على التقانة مع كهول يسيطرون على السلطة والمال. أفترض أن يسارا جديدا هو يسار يقوده الشباب.
ولعل الأكبر سنا يحسنون كثيرون إلى مجتمعاتنا بأن يشتغلوا أكثر في مجال الثقافة. هذا شيء مهم، وسيزداد أهمية في ومن ما بعد الثورات.
10- بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن، كيف تقيمون مكانته الإعلامية والسياسية وتوجهه اليساري المتفتح ومتعدد المنابر؟
السجل متناقض في هذا الشأن في تقديري. من ناحية وسع "الحوار المتمدن" قاعدة الكتابة والمشاركة، فكان له مفعول ديمقراطي لا ريب فيه. لكنه أفسح المجال لمشاركات من كل نوع، ينتحل بعضها العلمانية والحداثة، لكنه يميني اجتماعيا وأقرب إلى الفاشية سياسيا، وأقرب إلى التيارات الأشد يمينية وعدوانية في الغرب. وهذا ما انكشف بخاصة بعد تفجر الثورات، رغم انه لم يكن خافيا جدا قبلها.
ويبدو لي أن "الحوار المتمدن" ساحة تجاذب بين منحدرين من النزعتين المتأصلتين في اليسار التقليدي اللتين ذكرتهما في الإجابة على السؤال الأول: نزعة إلى العدالة والمساواة والأخوة الإنسانية، ونزعة إلى الاستئثار بالسلطة والحقيقة والقيادة. الميول الفاشية هي استمرار لهذه النزعة الأخيرة في اليسار الشيوعي. وبعض معتنقيها هم موالون للأنظمة التي تتفجر ضدها الثورات. كلاهما، النزعة التسلطية في اليسار التقليدي وتحولها الفاشي، يتعالى على العامة وعفويتهم، وكلاهما ينسب لنفسه رسالة، لكنها كانت رسالة "تغيير" عند اليسار الشيوعي، انقلبت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والشيوعية السوفييتية إلى رسالة "تنوير".ويعرض كلاهما منزعا عصبويا طائفيا، وعداء أكيدا للديمقراطية. وأكثر المنورين الفاشيين هم شيوعيون استبداديون سابقون أو شركاء لهم في الذهنية.
ويبدو لي أن هذين التيارين، الشيوعي الماضوي والحداثي الفاشي، يهيمنان على "الحوار المتمدن"، أكثر من اليسار الاجتماعي والديمقراطي.
أرى أن يتوقف الموقع عن خطة التوسع الأفقي، ليس فقط لاجتناب أصوات لا قضية لها ولا مبدأ، ولا كي يطابق هويته المعلنة كموقع يساري وديمقراطي وعلماني، ولكن كذلك لأن المنابر الافتراضية صارت كثيرة، وهناك الفيسبوك وتويتر، والقارئ يغدو أكثر انتقائية، وسيقصد "الحوار المتمدن" لأنه يسعى وراء توجه بعينه ولون فكري محدد، وليس من أجل كشكول يحتوي ألوان متعددة فلا يبقى له لون خاص به.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية
نايــــــــــــــــــا
(
2011 / 12 / 22 - 01:03
)
إجابات صريحة منطقية وموضوعية، خصوصا ما تعلق منها بالرد على السؤال الثامن والعاشر... شكر وتحية
.. صعود تاريخي للبتكوين... هل ينعش ترامب العملات المرقمة؟ | الم
.. #رابعة_الزيات تكشف عن عمرها الحقيقي بكل صراحة #ترند #مشاهير
.. تونس والمغرب: ماذا وراء طلب الحصول على صواريخ جافلين الأمريك
.. الجزائر: إدراج -القندورة- و-الملحفة- على قائمة التراث الثقاف
.. الجزائر: مجلس الأمة يدين -تدخل- البرلمان الأوروبي في الشؤون