الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورات لا تغيّر الواقع بين ليلة وضحاها، ولكنها تفتح آفاقاً أرحب للتغيير... وتتيح مجالاً أوسع أمام تنامي دور اليسار

داود تلحمي

2011 / 12 / 5
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011


الثورات لا تغيّر الواقع بين ليلة وضحاها، ولكنها تفتح آفاقاً أرحب للتغيير... وتتيح مجالاً أوسع أمام تنامي دور اليسار

تكرّم الزميل العزيز فواز فرحان ووجه لي عدداً من الأسئلة بشأن الثورات العربية ودور اليسار فيها. وقد رأيت أن من المناسب صياغة مادة مكثفة تتناول المواضيع التي أثارتها هذه الأسئلة، مع إفساح المجال للتعمق والتفاعل من خلال الحوار مع الزملاء والقراء الكرام.
داود تلحمي

لا شك ان الثورات الشعبية العربية التي بدأت تعطي ثمارها الأولى مع بدايات العام 2011 هي الحدث العالمي الأهم خلال هذا العام. ومصير هذه الثورات ومآلها يطرحان بالضرورة تساؤلات كبيرة على العالم كله، وعلى مواطني المنطقة العربية بشكل خاص. وهذه التساؤلات تزداد حرارة مع تأخر تلمس المواطنين للنتائج والثمار الملموسة لهذه الثورات في البلدان التي نجحت فيها المحطة الأولى للثورة بالإطاحة برأس النظام السابق، ومع العمليات الإنتخابية التي جرت في تونس ومصر وأظهرت تقدماً واضحاً للتيارات ذات المرجعية الدينية، ومع تعرض بعض الثورات والإنتفاضات الشعبية لمصاعب وعقبات كبيرة في عدد من الساحات العربية الأخرى التي قاومت فيها الأنظمة الحاكمة وأجهزتها العسكرية والأمنية إمكانية تخليها عن السلطة أو قبولها بعمليات استفتاء أو انتخابات تقرر مصير هذه البلدان المعنية وتختار هيئاتها التأسيسية والتشريعية والتنفيذية بحرية كاملة وبدون تقييدات داخلية وتدخلات خارجية.
وما ينبغي التأكيد عليه في المقام الأول هو ان مثل هذه الثورات الشعبية لا تحدث التغيير الشامل والواسع دفعة واحدة، ولكنها تفتح المجال واسعاً وتزيل القيود أمام عملية تغيير مهمة قد تستغرق سنوات وربما عقوداً طويلة.
فهذا ما حدث، مثلاً، مع الثورة الفرنسية التي انفجرت في العام 1789 بدون قيادة موحدة واضحة وبدون برنامج وأفق محددين. فشهدت سلسلة من التقلبات وعمليات الشد والجذب، كما والتصفيات الداخلية، الى أن انتهى الأمر بسيطرة الضابط نابليون بونابارت على السلطة ثم إعلان نفسه إمبراطوراً وخوض معارك عسكرية واسعة في المحيط الجغرافي ومناطق أخرى لتحقيق توسع للهيمنة الفرنسية في القارة الأوروبية وخارجها. كل ذلك مع الإحتفاظ بعدد من شعارات الثورة الفرنسية للتغطية على هذه الطموحات الإقليمية للحاكم الطموح الجديد، وفي الوقت ذاته لتأمين الإلتفاف الشعبي الداخلي لتدعيم وضعه الداخلي، وبالتالي تسهيل تحقيق هذه المطامح الخارجية. والتاريخ بعد ذلك معروف، مع هزيمة نابليون في العام 1815 وعودة الملكية على مراحل، الى ان تمكنت أفكار الثورة الفرنسية من شق طريقها على الأرض في بلد نشأتها بعد زهاء القرن على انطلاقتها.
وبالطبع، لا نقارن بين الثورات الحالية في منطقتنا العربية والثورة الفرنسية التي جرت في سياق تاريخي مختلف وفي زمن أبكر. كما لا يمكن مقارنة ثورات منطقتنا بثورات أخرى جرت في القرن العشرين وكانت ذات قيادة واضحة وذات برنامج محدد، إما منذ بدايتها، كما هو حال الثورة السوفييتية في أواخر العام 1917، أو الثورة الصينية التي انطلقت منذ أواخر العشرينيات، أو في خضم هذه الثورات، كما هو حال الثورة الإيرانية عامي 1978- 1979 التي كانت في بداياتها تشمل قوى وتيارات سياسية مختلفة ولكن سرعان ما آلت الهيمنة فيها الى آية الله روح الله الخميني وتياره السياسي الديني.
والمثال الأقرب زمنياً ومن حيث المضمون للثورات العربية هو ثورات وانتفاضات أميركا اللاتينية ضد الأنظمة العسكرية والديكتاتورية منذ بدايات الثمانينيات الماضية، والتي تمكنت عبرها شعوب القارة من التخلص بشكل متلاحق من عدد من الأنظمة الإستبدادية القمعية التي حكمت هذه البلدان لعقدين أو أكثر.
فالثورات العربية، التي تتسم أيضاً بغياب القيادة الواحدة أو الموحدة وغياب الرؤية المُجمع عليها للمستقبل، وتتخذ طابعاً شعبياً عفوياً وإن تشكلت في بعض الحالات هيئات تحاول أن تظهر بمظهر القائد أو المنسق لها، هي بالأساس تعبير عن فيض الكيل، إذا صحّ التعبير، وعدم قدرة المواطنين على تحمّل هذه الأنظمة المستبدة والفاسدة وغير الكفؤة أكثر من ذلك، بعد أن تفاقمت الأوضاع المعيشية والحياتية لغالبية المواطنين، خاصةً في ظل انفجار الأزمة المالية والإقتصادية الرأسمالية العالمية منذ العام 2008 بانعكاساتها السلبية الواسعة على العديد من بلدان "العالم الثالث"، بما فيه وخاصة بلدان منطقتنا العربية. وما عبّرت عنه التحركات الشعبية هو الرغبة في الإنتهاء من مرحلة معينة في تاريخ المنطقة والولوج في مرحلة جديدة يمكن أن توفّر، كما يأمل المواطنون، كفاءة أعلى في إدارة شؤون البلاد وتحقيق ما يصبو إليه المواطن من احترامٍ لحقوقه وكرامته وتأمينٍ لحياة شريفة تليق به.
ولا أعتقد ان المقارنة مع ما حدث في عدد من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات الماضية مقارنة مفيدة وصائبة. فهناك لم تكن المشكلة الأساسية معيشية بالنسبة لغالبية المواطنين. حيث لم تكن الأوضاع المعيشية بالحدة التي وصلت إليها في المنطقة العربية، ربما باستثناء حالات محددة مثل رومانيا، التي كانت قد عانت قطاعاتها الشعبية من فترة قاسية من التقشف الشديد لتسديد الديون الخارجية للدولة، أو بعض جمهوريات يوغسلافيا السابقة التي تردت الأوضاع الحياتية فيها. في معظم هذه البلدان، كانت المشكلة تتعلق بسطوة القيادة السوفييتية أو القيادات المحلية على شعوب هذه البلدان واحتجاز وتقزيم حقوقها الديمقراطية وحرياتها ومشاركتها في القرار والفعل، في مناخ من تفاقم مأزق النموذج الإقتصادي (وبالطبع السياسي) السوفييتي الذي تم تطبيقه في هذه البلدان، وهو المأزق الذي قاد الى انهيار كافة هذه الأنظمة، بما في ذلك نظام الإتحاد السوفييتي نفسه، وحتى أنظمة بلدان لم تكن متحالفة أو مرتبطة بقوة بالإتحاد السوفييتي مثل يوغسلافيا وألبانيا، والى حد ما رومانيا، لكنها كانت أيضاً سلطوية وشديدة المركزية. ويمكن، بالطبع، أن تكون هناك عوامل وتدخلات خارجية في هذه التطورات، ولكن من الواضح أن المسألة لم تكن، في معظم الحالات، تتعلق بثورات شعبية بقدر ما هي انقلابات من فوق، أي من النخب الحاكمة نفسها، خاصة في الإتحاد السوفييتي، وجدت استجابة شعبية بفعل المأزق الإقتصادي الذي أشرنا إليه، علاوة على غياب الحريات والحقوق الديمقراطية وشعور الشعوب المعنية بدرجات متفاوتة من التمييز والقهر القومي.
بالنسبة للثورات العربية، من الجلي تماماً أن الثورتين التونسية والمصرية كانتا ثورتين شعبيتين بامتياز، ولم تكن للتدخلات الخارجية أية أدوار ذات قيمة في حسم المرحلة الأولى من الثورتين برحيل الحكام عن السلطة. مما لا يلغي، بالطبع، محاولات التدخل الخارجي في المراحل اللاحقة. أما في حالة ليبيا، وبالرغم من كون الإنتفاضة الشعبية بدأت بحكم التأثر بالنموذجين المجاورين في تونس ومصر، فإن العنصر الخارجي المتمثل في حلف شمال الأطلسي حضر بقوة في مرحلة مبكرة، ولعب دوراً مهماً في حسم الصراع، دون التقليل من أهمية الحماسة الشعبية والتضحيات الكبيرة التي قدمت في أنحاء البلد للتخلص من السلوكيات الفظة للنظام السابق.
وفي البلدان العربية الأخرى التي شهدت إنفجارات شعبية إنتفاضية بنفس سياق التأثر بالنموذجين التونسي والمصري، كانت هناك تحركات استباقية من قبل الأنظمة الحاكمة إما لامتصاص النقمة الداخلية عبر بعض الترضيات السياسية أو المادية، أو للقمع الشديد للحركة الشعبية، كما كانت هناك تدخلات خارجية متفاوتة بين بلد وآخر. ومن المنطقي توقع تحركات سياسية وعملية للقوى الخارجية، سواء المجاورة للبلد المعني أو الدول الأبعد جغرافياً، وخاصة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وبالطبع إسرائيل، وإن بأشكال أقل وضوحاً. فهذه الدول والقوى لم تكن مستعدة للوقوف مكتوفة الأيدي تجاه هذه التطورات العاصفة، فهي حريصة أن تفعل كل ما تستطيع من أجل الحد من الخسائر بحيث لا تتحول هذه الثورات الى اتجاهات تسيء الى مصالحها ونفوذها في البلدان المعنية وفي عموم المنطقة. ذلك ان هذه المنطقة المشرقية العربية التي شهدت هذه التحركات تقع على مقربة من المخزون الإحتياطي الرئيسي والأهم للنفط في العالم، منطقة الخليج، ومصير هذا الموقع الإستراتيجي ذو أهمية كبيرة بالنسبة لدول مثل الولايات المتحدة وبلدان أوروبا ودول أخرى في العالم، يهمها كلها استمرار تدفق النفط وضمان ملاءمة أسعاره والتأثير في مآل أمواله أكثر مما تهمها شعارات الحرية والديمقراطية التي ترفعها بين الحين والآخر للتغطية على حقيقة نواياها وأطماعها ومشاريعها في المنطقة.

قوى اليسار... منافسة غير متكافئة

أما بالنسبة للقوى اليسارية، فمن الطبيعي أن تشارك بقوة، في معظمها، في هذا الحراك الشعبي نظراً لكون الأنظمة في المنطقة بمجملها تقريباً أنظمة تابعة و/أو محكومة بشرائح طفيلية وفاسدة تسيء لمصالح وتطلعات القطاعات الشعبية الأوسع، وخاصة قطاعات الشغيلة، من العاملين في قطاعي الصناعة والزراعة وسائر مرافق الإنتاج وقطاع واسع من المثقفين الوطنيين والطاقات الشابة المتطلعة لمستقبل أقل بؤساً. وبالطبع، كل اتجاه أو تيار يساري له سياساته ومواقفه وتحليلاته للوضع في البلد المعني، كما له نظرته الخاصة واهتمامه العملي المتفاوت بتنمية دور النساء والشبان في المجتمع وفي الحياة السياسية وفي إدارة شؤون البلد، ومن الصعب التعميم في هذا المجال. خاصة وأن المحك هو الممارسة الفعلية وليس الشعارات المطروحة، التي يمكن ألا ترى ترجمة فعلية لها على أرض الواقع. ومدى جدية كل قوة أو تيار ستظهرها التطورات والممارسات اللاحقة لكل قوة وتيار في كل بلد.
ومن الطبيعي أن يطمح اليساريون لأن تعطي الثورات والعمليات الإنتخابية اللاحقة على نجاحاتها الأولية مكانة معتبرة لقوى وتيارات وأفكار اليسار باعتبارها المدافع الأول المفترض عن مصالح هذه القطاعات الشعبية المغبونة والمتضررة من السياسات السابقة. لكن الأمور، كما أظهرت نتائج انتخابات الجمعية التأسيسية في تونس ونتائج المرحلة الأولى من الإنتخابات التشريعية في مصر، ليست بهذه البساطة.
ففي كلا الحالتين، وبالرغم من بعض الفروقات بين البلدين، هذه أول مرة يمارس فيها المواطنون حقهم في اختيار ممثليهم في الهيئات التشريعية بحرية واسعة وبدون قيود وإرهاب وتزوير واسع ومنهجي من قبل أجهزة السلطة الحاكمة. ولكن لأنها المرة الأولى، فهناك الكثير من الهنات ونقاط الضعف في التنظيم، وفي ضبط التمويل (أو بالأحرى عدم ضبطه)، وفي مستوى الإستخدام المنصف المفترض لوسائل الإعلام والدعاية بما يؤمن فرصاً متكافئة لكافة التيارات والقوى والأشخاص المرشّحين في هذه الإنتخابات. وهناك أيضاً عامل يتعلق بعدم معرفة الجمهور الواسع بالخارطة السياسية الجديدة بمختلف مكوناتها. مما دفع الغالبية الواسعة من المواطنين الى اختيار تلك التيارات التي تعتبرها الأقرب الى مفاهيمها وثقافتها الشعبية، والتي هي، بالأساس، ذات جذور دينية في منطقتنا. وهو ما يفسّر هذا الجنوح الواسع للتصويت للقوى الدينية، سواء حركة النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة المنبثق عن حركة الإخوان المسلمين في مصر أو تشكيلات السلفيين، خاصة في مصر، وتيارات دينية ومحافظة أخرى.
والتيارات اليسارية، سواء في تونس أو في مصر، كانت لفترة طويلة عرضة للملاحقة والتغييب والحصار السياسي والإعلامي. دون أن ننسى أن انهيار الإتحاد السوفييتي وتجارب التحول الإشتراكي الأخرى في أوروبا وآسيا الوسطى أدى الى إضعاف جاذبية شعارات اليسار الداعي الى الإشتراكية حتى لدى جمهوره التاريخي، حيث لم يعد هناك نموذج واضح وإيجابي لما يمكن أن تعنيه هذه الدعوة للإشتراكية. ولا تشكّل الصين وبعض الدول القليلة الأخرى التي ما زالت تحكمها أحزاب يسارية عريقة تدعو للتحول الإشتراكي بديلاً مقنعاً للغياب الكبير الذي شكّله انهيار التجربة السوفييتية. خاصةً وأن الصين، على سبيل المثال، تخوض تجربة غير مالوفة للتطور السريع الذي يستعين بالإنفتاح الواسع على رأس المال والمشاريع الأجنبية ويعتمد مستوى معيناً من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وحرية السوق، بما ينتج عن ذلك من إثراء بعض الأفراد والشرائح، وتفاوت المداخيل بين المواطنين. وإذا كان صحيحاً أن هذه التجربة حققت نتائج هائلة على صعيد التنمية وصعود الوزن الإقتصادي للبلد على المسرح العالمي، لكنها ليست، بالنسبة للجمهور الواسع خارج البلد، واضحة الآفاق والمستقبل على صعيد تطبيق القيم الإشتراكية المعروفة، وإن كانت هذه التنمية تسهم في تخفيض كبير لنسبة الفقر في البلد.
وبالإضافة الى كل ذلك، لا بد من الإشارة الى كون التجربة السوفييتية قد حملت جانباً سلبياً في تعاطيها مع مجال الحريات والحقوق الديمقراطية للمواطنين، خاصة من خلال استئثار حزب واحد بالسلطة وبالهيمنة الكاملة على مرافق الحياة. وكل القوى اليسارية الداعية للإشتراكية بعد فشل هذه التجربة باتت مطالبة بأن تثبت بالملموس بأنها قد تجاوزت هذا النموذج السياسي، وانها تؤمن فعلاً بالحريات الديمقراطية وبالتعددية السياسية والفكرية والعقيدية، حتى في مرحلة التحول الإشتراكي، لتكسب ثقة قطاع من الذين يمكن استمالتهم الى البرنامج الإجتماعي - الإقتصادي لليسار. ومن الطبيعي أن يكون الإنسان الحريص على هذه الحريات والحقوق الديمقراطية متشككاً في مصداقية القوى اليسارية على هذا الصعيد لمرحلة من الزمن حتى تُثبِت هذه المصداقية وتستعيد الثقة المفقودة.
وهذا، بالطبع، ليس أمراً متعذراً أو مسدود الأفق. فنحن نرى في تجارب أميركا اللاتينية خلال العقد الأخير درجة ملموسة من النجاح في استعادة هذه الثقة وفي محاولة شق طريق جديد للتطبيق الخلاق للخيار الإشتراكي. ومن هنا، فإن الإمتحانات الإنتخابية الأخيرة في بلدان الثورات العربية ليست نهاية المطاف، إنما هي فرصة مفتوحة لقوى اليسار لبذل جهد مضاعف قبل المحطات الإنتخابية اللاحقة على هذا الصعيد، في مناخ يفترض انه يؤمن لها، ولغيرها، كل الحرية وأوسع مجالات التحرك والفعل السياسي والدعاوي.
وهنا، لا بد من التأكيد بأن المعضلة في ضعف نتائج قوى اليسار لا تتعلق بتعدد التنظيمات اليسارية المتبنية للخيار الإشتراكي، وأن تجاوز هذا الضعف لا يتأمن بتوحيد هذه التنظيمات عبر اتفاق بين هيئاتها القيادية: فالتوحيد الفوقي على أساس صيغ توفيقية بين برامجها المختلفة لا يحلّ المشكلة، وربما هو يفاقمها في بعض الحالات. فقد تقود مثل هذه العمليات التوحيدية غير المبدئية الى خسران المزيد من المصداقية والقواعد الإنتخابية بسبب الطابع غير المقنع، في بعض الحالات، لمثل هذه العمليات بالنسبة للجمهور السابق لمكونات الأطر الموحدة. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة تجارب فاشلة على هذا الصعيد في الإنتخابات الإيطالية، كما في انتخابات الهند النيابية الأخيرة. فالحل لا يكمن في افتعال وحدة لا مبدئية، بل في شق طريق خيار يساري قادر على الإستقطاب والإقناع من خلال الممارسة الملموسة على الأرض بحيث يكون واضحاً ومرئياً للجمهور المعني بطروحات وأهداف هذا الخيار. وآنذاك، يمكن أن يقود نجاح هذا الطريق الى استقطاب مكونات يسارية أخرى تقتنع به. وهنا يمكن أن نستفيد من دراسة بعض تجارب اليسار المقدام في أميركا اللاتينية خلال العقد الأخير.
كل ذلك لا يعني طبعاً استبعاد إمكانية التنسيق والعمل المشترك بين قوى يسارية متقاربة الطروحات والأهداف، وحتى في حالات معينة أقل تقارباً، في نشاطات عملية أو في العمليات الإنتخابية. لكن الوضوح البرنامجي، والأهم الوضوح في الممارسة، هما العامل الأهم بالنسبة للجمهور الذي يمكن أن يؤيد هذا التيار ويدعمه، خاصةً في المراحل الٍأولى من العمليات الإنتخابية.
ولا شك، كما سبق وأشرنا، بأن العامل المالي لعب دوراً غير قليل في الحد من إمكانية قيام القوى اليسارية بحملات واسعة لشرح مواقفها وبرامجها خلال الفترة الإنتخابية، وقبلها طبعاً خلال الفترة القصيرة التي تلت ترسيم وجود هذه القوى بعد الإنتصارات الأولية للثورات. وبعض القيود التي وضعت على تسجيل الأحزاب الجديدة، في مصر مثلاً، من نمط زيادة عدد الموقعين على استمارة تسجيل الحزب أو الرسوم المطلوبة للتسجيل، جعلت الأمور أصعب. هذا في الوقت الذي كانت فيه الأموال تتدفق بسهولة أكبر على قوى وأحزاب وتيارات ذات خيارات أخرى، علاوة على سهولة الصرف لدى الأفراد ذوي القدرات المالية الكبيرة الذين وفّرت لهم إمكانياتهم هذه شن حملات إعلامية ودعاوية واسعة وحملة اتصالات وعلاقات عامة، سواء من خلال تكتلهم في قوائم، أو قائمات كما أسموها في تونس، أو في الدوائر الفردية في مصر. والإمكانيات المالية تلعب دوراً ليس فقط في المرحلة الإنتخابية وإنما في المراحل السابقة من خلال دور الدعم الإجتماعي الذي تقوم به بعض القوى، الدينية خاصة، منذ زمن بعيد.
ومن الطبيعي أن يتم الإستخلاص بضرورة تنظيم عملية التمويل وضبطها الى أقصى حد ممكن، بما في ذلك من خلال التخطيط لتمويل مركزي من ميزانية الدولة للحملات الإنتخابية ووضع قيود على أي تمويل إضافي، بما يضع كافة المرشحين على قدم المساواة من حيث فرص الوصول الى الناخبين وتعريفهم ببرامجهم وتوجهاتهم. وهناك تجارب مفيدة على هذا الصعيد في بعض بلدان العالم.
***
وبالرغم من كل النواقص، لا يمكن إلا أن نعتبر هذه العمليات الإنتخابية الأولية في تونس ومصر خطوات كبيرة وتاريخية الى الأمام في تاريخ البلدين وعموم المنطقة، بمعزل عن رأينا وتقييمنا للقوى والتيارات التي حققت أفضل النتائج في هذه الإنتخابات. وهي نتائج كانت، بمنحاها العام، متوقعة، وإن أعطت لبعض القوى، وخاصة الدينية منها، حجماً أكبر من المتوقع، وأعطت نتائج أقل كثيراً من المتوقع بالنسبة لقوى أخرى. وفي الواقع فإن غياب أية انتخابات ديمقراطية حرة في الماضي في كلا البلدين لم يمكّن من التقدير المسبق شبه الدقيق للوزن الإنتخابي المحتمل لكل تيار ولكل قوة سياسية. أما بعد هذه الإنتخابات، فالأمور باتت أوضح الى حد ما، مع ضرورة التحسب من كون هذه الخارطة السياسية الأولية قابلة للتغير الواسع في السنوات القادمة بفعل تبلور القوى والتيارات وبرامجها وممارساتها، بما في ذلك الممارسة الفعلية للقوى التي ستشكل الحكومات القادمة وستصبح بالضرورة أمام محك التجربة العملية. فقد نحتاج الى ما لا يقل عن عقد أو أكثر من الزمن لترتسم ملامح خارطة سياسية شبه مستقرة في البلدين. وهي، بالطبع، خارطة معرّضة حتى بعد ذلك للتغير (النسبي) الدائم، كما يحصل في كل بلد عريق في الممارسة الإنتخابية الحرة أو شبه الحرة.
وهنا لا بد من التأكيد أن الديمقراطية الحقيقية لا تتمثل فقط في عملية إنتخابية موسمية لهيئات تشريعية على الصعيد الوطني. بل هي تتطلب ممارسة ديمقراطية واسعة على كل المستويات، على مستوى المناطق والمجالس المحلية، وعلى مستوى مرافق الإنتاج والعمل. هذا الى جانب أهمية تنامي البنى النقابية المستقلة وسائر مؤسسات المجتمع المدني (وليس المقصود هنا ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية)، بحيث لا يبقى الحراك العمالي أو القطاعي محصوراً في موقع واحد وفي مطلب محدد وآني، وبحيث تتشكل نقابات حقيقية معبّرة فعلاً عن مصالح القطاعات التي تعمل في وسطها، وليست مجرد امتدادات للنظام أو للحزب الحاكم، كما كان عليه الحال، بشكل متفاوت بين البلدين، بالنسبة للنقابة العمالية الرسمية بشكل خاص.
فنحن، بالتالي، أمام عملية تحول وتغيير طويلة الأمد، وعلى الأغلب متعرجة، ستستغرق بالضرورة سنوات عدة. ولكن كل المؤشرات، في تونس ومصر تحديداً، تبعث على التفاؤل، نظراً للحضور الشعبي الرقابي الذي تمثله حيوية المجتمع المدني في البلدين، واستمرارية التحركات الميدانية، بمعزل عن صوابية هذا الشعار أو ذاك الذي ترفعه في كل قضية ومفصل. فالمهم في البلدين هو أن قطاعات الشعب تولت زمام الأمور، وهي ستتولاه بشكل متزايد في المراحل اللاحقة مع تنامي الوعي الشعبي بأهمية هذه المرحلة التاريخية وتنامي مشاركة كافة القطاعات، وليس فقط القطاعات الأكثر وعياً وتسيساً والأكثر استفادة مما تقدمه التكنولوجيات المعلوماتية الحديثة على صعيد الإتصالات السريعة. وهذه عوامل تبعث على الثقة بالمستقبل، وبامكانية تصحيح الأخطاء والعثرات وردم النواقص وتدعيم المسيرة لتحقيق أهداف الشعب وقطاعاته الأوسع في التمتع بالحريات الديمقراطية الحقيقية، والأهم بأعلى درجة ممكنة من الإنصاف والعدالة الإجتماعية وتوفير العمل الملائم والحياة الكريمة لكل المواطنين.


"الحوار المتمدن" حقق خلال عشر سنوات إنجازاً مهماً في تعزيز مناخات التفاعل بين مختلف تيارات الفكر اليساري والتقدمي

بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس منبر "الحوار المتمدن"، يسعدنا كيساريين أنه حقق نجاحاً واسعاً في فتح آفاق جديدة للحوار والتفاعل بين مختلف الأفكار والآراء اليسارية في مرحلة ما بعد انهيار التجربة السوفييتية، وفقدان البوصلة لدى بعض شرائح وقطاعات يسار ما قبل هذا الإنهيار. وهذا الإنفتاح الغني والمثمر يشكّل استعادة لأهمية الحوار والتفاعل الفكري والسياسي في أوساط اليسار، لتجاوز مرحلة مؤلمة ومُفقِرة من التكفير المتبادل وإدعاءات امتلاك الحقيقة المطلقة التي سادت في أوساط واسعة من اليسار العربي والعالمي في مراحل سابقة ولعقود طويلة، دفع ثمنها معظم اليسار العربي والعالمي، مما ساهم في إفقار وتراجع الفكر اليساري النقدي في أوساط واسعة وصبّ في النهاية في طاحونة أعداء اليسار الذين يبتهجون لانهيار التجربة الرائدة التي كانت قد شكلتها التجربة السوفييتية في بداياتها، ويسعون لتأييس المواطنين، بما في ذلك الشغيلة والقطاعات المغبونة في النظم الرأسمالية والأنظمة التابعة، من إمكانية نجاح أي مشروع يساري جديد في منطقتنا وفي العالم.
لقد أعطى منبر "الحوار المتمدن" والقائمون عليه درساً قيماً لكل اليسار في المنطقة العربية من خلال التركيز على أهمية الإنفتاح الواسع على كل الأفكار والإجتهادات، مهما كانت، بما يعيد الإعتبار لأهمية التفاعل والإغتناء الدائم بأفكار جديدة وبخلاصة التجارب العملية على الأرض. كل التحية في العيد العاشر لهذا المنبر المقدام، وكل عام وهو وكلنا جميعاً على العهد بدوام التفاعل والحوار في خدمة قضايا شعوبنا وقطاعاتنا المغبونة والمستغلة.
أوائل كانون الأول/ديسمبر2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة