الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعادة الاعتبار - للثورة - .. واليسار .. والاشتراكية

بدر الدين شنن

2011 / 12 / 5
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011


منذ أوائل العام الجاري وحتى اللحظة ، لم تتوقف التسميات التي تطلق على ما حدث من متغيرات سياسية عبر الشارع في عدد من البلدان العربية ( تونس . مصر . سوريا . اليمن . البحرين ) . ومن المتوقع ، لتماثل الأوضاع في البلدان العربية ، أن تنتقل هذه المتغيرات إلى بلدان أخرى ، وخاصة الجزائر والسودان . أولى تلك التسميات والأكثر شعبية وتداولاً ، كانت " الثورة " . كل ما حدث ويحدث في البلدان المذكورة سمي " ثورة " ، وجرى تعميم نفس المعايير " الثورية " في كل مكان حطت فيه رحال الثورة . ورغم التراجع عند عدد لابأس به من الكتاب عن التسارع بإطلاق توصيف الحركات الشعبية إجمالاً بالثورة ، واستخدام تسميات أخرى ، مثل الانتفاضة الشعبية أو الحركات الاحتجاجية .. ألخ .. إلاّ أن المتحمسين ، وأطراف محلية ودولية لها برامجها الخاصة ، تصر على استخدام مصطلح " الثورة " لجذب أوسع القوى الشعبية إلى الشارع ..

في حين أن الواقع الموضوعي يتطلب قراءة متأنية ونوعية علمية لكل حدث تغييري في كل بلد عربي ، قبل إطلاق التسميات والمصطلحات السياسية عليه ، لاسيما وأن التطورات اللاحقة لأهم ثلاث " ثورات " تقدم الدلالة ، على أن من المستحيل نعتها بالثورة وفقاً للمفاهيم الثورية ، التي تؤكد على أن هبة الغضب الشعبي الناقمة على النظام لاتكفي لاكتساب اسم الثورة . وإنما تحتاج إلى توفر مجموعة من العوامل والفعاليات والقيم ، التي تعبر عنها قيادات الثورة وخلفياتها وبرامجها وأهدافها مجتمعة .

تأكيداً على ذلك ، يكفي أن ننظر إلى التناقضات والتجاذبات الدامية اللاحقة في مشهد الثورة التونسية والمصرية .. حيث يبرز السؤال : من هم الثوار .. وأين هم الثوار .. ومن اختطف أو حصد ثمار الثورة . أما في ليبيا فالمسألة في غاية الوضوح والمأساوية . فالثورة في بني غازي تحولت إلى أداة للقوى الدولية وحلف الناتو .. وإلى أداة تدمير كياني للوطن . والسؤال المشروع هنا ، هل يبقى الثوار كقوى تحررية تغييرية ضد الاستبداد ثواراً عندما يتحولون إلى أداة للقوى الامبريالية للسيطرة على بلدانهم ومقدراتها . وهل يصح أن نطلق بعد ذلك على الحدث الليبي مصطلح الثورة ؟ كذلك الأمر في اليمن حيث تستثمر " القاعدة " الإرهابية الدولية تستثمر الزخم الغاضب في الشارع لفرض سطوتها وسيطرتها على مساحات متزايدة من الأراضي اليمنية ، وحيث تنهش مخالب القبلية والطائفية الجسد اليمني ؟ وفي سوريا الأمر يدعو إلى التبصر والتأني في اعتبار أن مسارالخط البياني للوقائع فيما يحدث فيها هو خط " ثورة " . خاصة وأن قيادات " الثورة " الأكثر ظهوراً تحت الأضواء الدولية ، لم تخف تبنيها للبرنامج الأميركي الأطلسي الإسرائيلي في الشرق الأوسط ، وجهرت بطلبها السافر لكل أشكال التدخل الخارجي وأولها التدخل العسكري لإيصالها إلى سدة الحكم ، الأمر الذي لن يمر إلاّ على أشلاء ودماء مئات الآلاف من السوريين .

يفوق كل هذه التعارضات والتجاذبات الذاتية البائسة في الثورة على اختلاف تموضعها ، هو التدخل الدولي الأميركي الأوربي ، السري والعلني ، المسبق واللاحق ، في حراك هذه الثورات ، الذي تمثل في إصدار الإملاءات وأوامر العمليات العلنية إليها ، لتسييرها حسب مصالح تلك القوى الدولية ، بمشاركة دول الخليج النفطية القبلية المفوتة والخاوية من أي مؤسسة تمثيلية ديمقراطية ومن حقوق الإنسان ، والتي ينتشر فوق أراضيها القواعد والقوات الأجنبية ، فهل تظل " الثورة " ثورة عندما يوجهها أوباما من واشنطن وساركوزي من باريس وكاميرون من لندن وحمد آل ثاني من الدوحة وأردوغان العثماني الأطلسي من أنقرة ؟

هذا لايعني بأي حال التشكيك باستحقاق الثورة . فحيثما هبت الجماهير لتصنع ثورتها ، كانت هذه الجماهير تملك كل أسباب الشرعية لثورتها ضد الاستبداد والقمع والتهميش الاجتماعي والإفقار ، وتملك في آن حق حصاد ثمار ثورتها نظاماً بديلاً مغايراً ديمقراطياً وعادلاً . كل الذين سقطوا في غمرة صنع الثورة وصولاً للحرية والعدالة هم شرفاء شهداء صادقون . لكن ما لم يكن في الحسبان جدياً ، هو أن المجتمع يضم إضافة إلى قوى الثورة ، يضم قوى سياسية واجتماعية ذات وزن ولها علاقاتها وارتباطاتها المصليحة دولياً ، لاتقبل بالثورة ولا بطموحاتها في إسقاط النظام كلياً . وقد وظفت هذه القوى ثغرات وقصور الثورة في إعداد قواها وبرامجها وعقيدتها الثورية المتكاملة ، لتعمل على اختراقها وتحويل مساراتها نحو إجهاضها . بمعنى ، لم تكن الثورات كاملة البنية والمفاعيل والاستراتيجيا . وحدث ما حدث من التآمر والألاعيب السياسية ، كي لاتتحول إلى ثورات حقيقة تحمل برنامج وطني ديمقراطي على أنقاض إسقاط النظام من رأسه إلى قواعده ومقوماته .

واللافت هنا ، أن موجات الثورات لم تبلغ ، باستثناء البحرين التي تملك إرثاً سياسياً متميزاً ، لم تبلغ المغرب وشواطيء دول الخليج تحديداً التي تمثل أسوأ أنواع الأنظمة امتهاناً للقيم الإنسانية والديمقراطية ولتوزيع الثروة وأسوأها ارتباطاً مع الدول الامبريالية والكيان الصهيوني . ففي قطر تقبع أهم قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في العالم . وفي البحرين تتمركز قيادة الأسطول الخامس الأميركي . ويتوزع نحو مئة ألف جندي أميركي وفرنسي وبريطاني في قواعد عسكرية في الكويت والإمارات المتحدة وعمان والمملكة السعودية . والمغرب يحكمه أمير المؤمنين بسلطات دستورية ودينية مطلقة مباركة من الدول الغربية هي أكثر تشدداً ، حتى في تعديلاتها الأخير ، من السلطات التي تتمركز بيد الرئيس السوري المطلوب من نفس الجهات الدولية إسقاطه بذريعتها . وحسب آخر الإحصائيات فإن الأمراء السعوديين يعود إليهم ’ثمن العائدات النفطية في المملكة ، وفوق ذلك يتقاضى كل أمير من الأمراء البالغ عددهم ستة آلاف أمير ( 275 ) ألف دولار شهرياً . وإحدى شركات المجموعة الاقتصادية لملك المغرب حققت أرباحاً عام 2010 ( 5 , 2 ) مليار دولار ، في وقت ’يدفع فيه فقراء المغرب إلى مزيد من التهميش والفقر والهجرة في قوارب الموت نحو آفاق مجهولة بحثاً عن اللقمة الكريمة . كما لم تصدر من أوباما وساركوزي وكاميرون وأردوغان إملاءات التنحي عن الحكم لأي أمير أو ملك ، مثلما صدرت إلى رؤساء تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن . ما يستدعي بحق إعادة الاعتبار إلى المفهوم السياسي الاجتماعي للثورة ، وحماية مفهوم الثورة من العبث به واستخدامه في غير محله .

الأمر الغريب المركب في الحدث " الثوري " المتداعي في البلدان العربية يكشف أوضاع اليسار البائسة الراهنة .. ودور اليسار الغائب أو يكاد فيما يحدث . مرارة واقع اليسار العربي ، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وانفراد الولايات المتحدة الامبريالية الأميركية بالقطبية الدولية وانتشارثقافة العولمة الرأسمالية الفاسدة ، تلزمنا أن نسمي الأشياء باسمائها ، من خلال مجموعة من الأسئلة .. هل يمكن اعتبار كل من يزعم أنه منتم إلى اليسار هو يساري ؟ .. هل يمكن أن يقوم يسار دون الانتماء إلى نظرية ثورية وبخاصة النظرية الماركسية ؟ .. وأن كل من بدل جلده وعقيدته السياسية وتحول إلى خادم لسادة الرأسمال محلياً ودولياً يبقى يسارياً ؟ .. وأن اليسار الذي يتخذ الآن برنامج العولمة الامبريالية لتأبيد الهيمنة الرأسمالية على العالم ، وتأبيد تهميش وعبودية أربعة أخماس البشرية إلى ما شاء الله ، الذي يتطلب عربياً إضافة إلى مستلزمات العولمة الدولية بعامة ، يتطلب إجراء صفقة خيانية ذليلة تكرس الكيان الصهيوني وتشرد الشعب الفلسطيني خارج وطنه ، كما يتطلب الانغماس في مشروع الشرق أوسط الجديد ، الذي لايتورع عن استخدام أكثر الآليات تدميرية ودموية ، ليضع كل الكيانات العربية وثرواتها الوطنية والمالية وأسواقها تحت تصرف الإدارة الأميركية والصهيونية ، بديلاً لبرنامج الوحدة الوطنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمقاومة للهيمنة الأجنبية ، يمكن أن يحسب يساراً في حسابات ومفاهيم اليسار ؟

الإجابة على هذه الأسئلة بصدق ، تظهر جزءاً هاماً من حقيقة ضعف اليسار فيما سمي ثورات " الربيع العربي " والأجزاء الأخرى لحقيقة الضعف ، متروكة للتقييم التاريخي النقدي لحركة اليسار العربي في عهد السوفييت وما بعد السوفييت .
لقد فاجأ توقيت وحجم حركة الشراع العربي اليسار ، فهذه الحركة لم تكن بعامة من صنع اليسار وإن ساهم اليسار فيها بداية أو لاحقاً . لأن اليسار ، خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ، لم يكن بوارد لديه العمل في الأوساط الشعبية والطبقة العاملة كما هو معروف سابقاً ، بل اقتصرت توجهاته نحو النخب الطلابية والثقافية . وهذه النخب عندما تتحرك ، كما حدث واقعياً ، لاتحمل برنامجاً سياسياً اجتماعياً جاذباً للطبقات الشعبية . وعندما تندمج شرائح من هذه الطبقات في حركة الشارع النخبوية لاتلبث أن تجد أن قضاياها لامكان لها وسط اهتمامات هذا الشارع ويغمرها الاحساس أنها هنا أيضاً مهمشة . وهذه المفاجأة جعل اليسار عاجزاً عن التقييم السياسي الاجتماعي لما يحدث . فالبعض من اليسار وضع كل بيضه في سلة " الثوار " والبعض الآخر وقف متردداً .

ما يمكن قوله بالمجمل ، أن رايات اليسار ونداءاته وشعاراته لم تظهر بوضوح في حركة الأحداث .. في " الثورة " .. وعجزه الذاتي والتاريخي وتردده في حسم الموقف المبدئي مما يجري حقيقة ، فتح في المجال للقوى الإسلامية ، التي عقدت صفقات مزدوجة مع الشارع الغاضب ومع اميركا والغرب ، لتقبض على مقود توجهات " الثورة " وتحصد لاحقاً ، عبر عملية الاقتراع المشحونة بالتواطؤ مع أركان النظام السابق والحارقة لفرص الحركة والوقت بالنسبة للآخرين ، تحصد المركز الأول ما بين قوى وتيارات " الثورة " لاسيما قوى اليسار منها . ولعل أكثر أخطاء بعض اليسار سوءاً ، هو فصل الوطنية عن الديمقراطية ، ما أدى إلى ارتهانه لطروحات الغرب الامبريالية حول حقوق الإنسان المزيفة بالرعاية الغربية . ومن ثم أدى بهذا البعض إلى منزلق التنسيق مع الغرب الأميركي لتحقيق الأهداف المشتركة ، دون التوقف عند حقيقة أن لا شراكة مع الامبريالية على المصالح الوطنية مهما حمل المقابل من تسميات وقيم ، ودون أي اعتبار إلى أن مثل هذه الشراكة تدخل في خانة الخيانة الوطنية . الأمر الذي يتطلب إعادة الاعتبار لمفهوم اليسار وقيمه الثورية الوطنية والسياسية والاجتماعية .

وبناء على ما تقدم ، أمام اليسار العربي مهام كبير ة لإعادة بنائه كحركة فاعلة في الشارع السياسي الاجتماعي . في مقدمة هذه المهام إعادة وضع الاشتراكية في صميم البناء الفكري والسياسي للحركة بشكل واضح وراسخ . وإذا كان للمرجعية الفكرية الثورية دور أ ساس في تشكل هوية اليسار ، فإن للبرنامج السياسي الاجتماعي الديمقراطي المتكامل دور لايقل أهمية بل هام جداً في حركة اليسار وفي اندماجها في أوساط الطبقات الشعبية .. التي لاتنتصر ثور شعبية بدونها .

وحسب تجارب المراحل الماضية ، فإن اليسار حتى يستعيد دوره التاريخي وألقه وفعاليته ، لابد من أن يتعامل مع استحقاقات الحاضر والمستقبل ، وفق جدلية تندمج فيها المهام ، الوطنية ، والديمقراطية ، والقومية التحررية ، والعدالة الاجتماعية ذات التوجه الاشتراكي . بمعنى أن " الثورة " لايمكن اختزالها بإ سقاط رأ س النظام وبعض معاونيه . ولايمكن في غمرة المواجهة المعقدة والصعبة مع الاستبداد استجداء التدخل الخارجي لاسيما التدخل العسكري . ففي الحالتين تفقد الثورة مضامينها ، بل وتفقد قيمتها الثورية ، وتسقط عندما تسقط رهينة لدعم وتوجهات وتخلات الخارج التي لن تكون إلاّ معادية للوطن وللأهداف الحقيقية للثورة . والتجربة من تونس إلى ليبيا ومصر وسوريا واليمن خير برهان على ذلك . ولايمكن للثورة الحقيقية أن تقف عند حدود صفقة تداول السلطة بين أوساط الطبقة السياسية المتصارعة على الحكم ، فهذا التوقف يقتل الثورة ويصادر حقوقها في متابعة الطريق لإنجاز تحولات اجتماعية سياسية باتجاه الاشتراكية ، التي وحدها توفر فعلاً كامل قيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة في المجتمع .. التي تندلع الثورات الشعبية من أجلها ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية