الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إجابة مطوّلة على جملة من الأسئلة الراهنة!
مرزوق الحلبي
2011 / 12 / 6ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011
إجابة مطوّلة على جملة من الأسئلة الراهنة!
يبدو لأول وهلة أنه من الأسهل الإجابة على كل سؤال من الأسئلة الواردة أعلاه بشكل منفصل. لكن ما العمل والأسئلة مترابطة جدليا وتنطوي على تسميات وتعريفات نعتقدها متقادمة! بمعنى، أن الأسئلة التي تحاول استقراء الحاصل الآن واستشراف الآتي وتسميته تتصل كلها بحدث جار لا تزال مفاعيله ترسم في المشهد وتغيّر في تفاصيله. ونرجّح أنها ستواصل الفعل ذاته ردحا غير قصير من الزمن في لعبة الأفعال وأضدادها أو الحدث وانعكاساته. وهكذا، فأمامنا مشهد لما ينته تشكيله بعد وخاضع لأثر الأرجوحة لا يني يتحرك من جهة إلى جهة نحو حالة من الاستقرار النسبي أو الفوضى العارمة. فكلاهما سيناريو محتمل للسيرورات ذاتها التي انطلقت مع ما سميناه غير متأكّدين "الربيع العربي" نحو أفق مفتوح. فلا الواقع ينصاع في تحولاته للرغائب التي تعشش فينا ـ مهما يكن انتماؤنا وميلنا ـ ولا التاريخ ينحكم للأمنيات والأحلام. وكلاهما شقيان لا يسيران في خط تصاعدي بالضرورة ولا من الأدنى إلى الأرقى. هكذا هما بحد ذاتهما وهكذا هما بفعل حركة الزمن الكوني وما فيها من مؤثرات ومفاعيل تنعكس بدورها على المشهد العربي شاء مَن شاء وأبى من أبى!
ومن جديد المرحلة أن مفاهيم مثل "اليسار العربي" و"القوى الديمقراطية" و"الإسلام السياسي" و"الأحزاب اليسارية"، قد ضاقت تماما أو تفككت بفعل عقود من التحولات وضمور الدلالات أو تضخمها في مصطلحات مثل "الدولة الإقليمية" أو "الدولة" أو "الدولة القومية" و"العروبة" "والصحوة الإسلامية" و"الأصولية". وندّعي على سبيل المثال أن ما جاء في الأسئلة من تسميات ينتمي إلى حقبة سابقة بينما الحقبة الأخيرة في تطور المجتمعات العربية اتسمت بانحسار مفهوم الدولة وعدم صلاحية سوسيولوجيا الدولة الإقليمية تماما الأمر الذي جرّ معه تقويضا لمصطلحات مثل يسار أو يمين أو ما شابه، وإن كنا لا نزال نحبها ونستخدمها للقراءة والتحليل. فهي كأدوات حفر أو إدراك أو فهم أو تفكيك باتت بحاجة إلى إعادة تهيئة أو استبدال . وفكرتي تقوم على قراءتي للانحسار على أنه نكوص إلى مكونات أقل من الدولة أو أكبر منها وهي الدين. ومن هنا اعتقادي أن الأمر ليس بصدد "الإسلام السياسي" بل بصدد الهوية الإسلامية والولاء لها عوضا عن الولاء للدولة التي أخفقت تماما في القيام بمهماتها ضمن العقد الاجتماعي المفترض، ولو في حدوده الأدنى ـ أمن شخصي وغذائي ومسكن! صحيح، أن الإسلام السياسي بدأ كقوة اجتماعية في مواجهة الدولة لكنها صارت مع الوقت بديلا لها وهو ما لم يكن بمقدور اليسار العربي أو الديمقراطي أن يفعله لأن ذلك مضاد لماهيتيه وطبيعته التي تنوجد بوجود الدولة لا بدونها. عكس الإسلام القائم قبل الدولة ويطرح نفسه بديلا عنها ونموذجا أمثل متخيلا من الماضي والموروث الذي تطرحه هذه القوى كنظام بديل للدولة ويفوقها من كل النواحي في تحقيق "صالح الأمة" ـ وفق النظرة ذاتها. والأمة هنا، أمة المسلمين حيث هم قبل الدولة وبعدها وفيها وفي كل عصر وزمان. بمعنى، أن اليسار افترض الدولة حقلا للعمل والوجود بينما افترض الإسلام السياسي الدولة كيانا طارئا واقعا لكن لا مانع من التخلي عنه في لحظة مناسبة. وها هي، من ناحية هذه القوى، اللحظة المناسبة قد أزفت وينبغي استغلالها كما عبّر رموز في هذا التيار تعبيرا عن نتائج الانتخابات في بعض المواقع حيث دعونا إلى التسليم بنتائج الانتخابات وكأن الجزء ـ نسبة 40% ـ مثلا تنوب عن الكل!.
وعليه، النقاش، في رأينا المتواضع، ينبغي أن يكون في موضوعة الدولة الإقليمية والمخاطر المحدقة بها، أو خطر الهبوط من سطح الدولة إلى حالة من "الوضع الطبيعي" ما قبل العقد الاجتماعي وشيوع الفوضى التي لا يُمكن أن تكون خلاقة في هذه الحالة. فالقوى الإسلامية النازعة في جوهرها إلى إلغاء الدولة لصالح مشاريع الخلافة المختلفة أو "العدل السماوي" بدت في نصوصها وممارستها حيث انتصرت من قبل الثورات الجارية مستعدّة لأن تمتطي ظهر الدولة واعتلاء سطحها ليس لأجل الدولة بل في سبيل مشروعها المعلن أو المضمر. وهو إقامة المركزية الإسلامية المضادة للغرب، وهذه المرة بالنسخة السنية لهذا المركز. وتشكل التجربة الإيرانية أنموذجا لقوى إسلامية سنية تفكر بالطريقة ذاتها ومحكومة للجرح النرجسي ذاته الناتج من هيمنة الغرب بعد قرون من الاستعمار، إن الفكرة الإسلامية في جوهرها لدى غالبية التيارات الفاعلة تحمل بذور التفرّد والإطلاقية. هذا، يُفسح أمامها الباب لزيادة سؤددها كما هو حاصل الآن. وهي لا تختلف في هذا عن قوى سياسية إطلاقية استثمرت فرص وامتيازات الديمقراطية ـ الانتخابات ـ للانقضاض لاحقا في حركة التفاف ليس على الديمقراطية وحدها بل على المجتمع والدولة (أنظر التجربة الهتلرية وما رافقها من فرنكوية في إسبانيا والموسيلينية في إيطاليا والخمينية في إيران وهو النموذج الأقرب والأكثر إغواء للإسلاميين العرب).
"يسار" في الأسر!
أما القوى غير الإسلامية ـ الليبرالية واليسارية ـ فقد كانت ضحية الدولة الإقليمية وأنظمتها على طول الخط حتى انحسرت تماما واندثرت أو تضاءلت قوة دفعها أو تأثيرها سوى في الفلولكلور السياسي في المجتمعات العربية (بتفاوت طبعا). لأن اليسار ليس فكرا فحسب بل هو بحاجة إلى مناخ مناسب وإلى مدينة وإلى نُخب فيما انحسرت المدينة وتريفت كما سنبين هنا.
صحيح أن المدن العربية ـ العواصم خاصة ـ هي مراكز مدينية من حيث تعداد السكان أو كونها مراكز خدمات عامة ومراكز حكم. لكن هذه السمات لا تكفي لأجل توفير الحيز المديني ومساحة الحراك المناسبة ليسار متكامل الصفات. والسبب يكمن في أمرين، أن الشرائح البرجوازية ظلت ضيقة تماما بفعل الاقتصاد العربي القاصر عن النمو في الإنتاج وإن نما في الاستهلاك أو الاقتصاد الريعي. بمعنى، أن الفئات الوسطى العربية لم تتسع وإن انوجدت ولم تتطور بسبب من القصور الاقتصادي البنيوي وحصر الفئة الوسطى في التجارة والاقتصاد الريعي أو الخدماتي أو الزراعي كأهم سمة للاقتصاد العربي. فهي أنشطة لا تُذرّر المجتمع ولا تُفكّك بناه الطبيعية من قبيلة وعشيرة أو طائفة ولا تضعفان الدين والولاءات الأقل من الدولة أو أكبر منها. بمعنى، أن بُنية العلاقات داخل المجتمع لم تتحول كثيرا ولم تُغادر الروابط الوشائجية البدئية القابضة على روح الفرد وحرياته. بمعنى، أن التحولات الاقتصادية منذ الاستقلال لم تُفلح في تطوير أنماط تفكير وسلوك أبعد من تلك التي تحتّمها الولاءات القبل والبعد دولانية. بالمقابل، لم تفلح الدولة كمؤسسات وأنظمة ودستور ـ عقد اجتماعي ـ في توفير المواطنة أفقا للحياة وتحقيق الذات لا للأفراد ولا للمجموعات ـ أنظر حال الأقليات في العالم العربي. حضرت الدولة، وهي مفهوم حديث في علمي الاجتماعي والسياسة، ولم تتطور عنها مواطنة بدلالة بقاء الولاءات الأخرى غب الطلب، جاهزة دائما لاستبدال الدولة كمرجعية وسيادة وقانون وحيز.
وهذا يقودنا إلى السبب الثاني لوهن المراكز المدينية العربية وهو ترّيفها الزاحف بدل تمدينها للريف. فالنظام الذي قام على قصور اقتصادي واضح ألغى المدينة حتى في صورتها قبل الاستقلال وريّفها خدمة لنظامه الاقتصادي والسياسي. أو لنقل أنه ما كان ليستطيع أن يعيش ويتعايش مع المدينة كحاضنة مفترضة لبرجوازية المجتمع المفترض أن تقوم بدور التحول والتحويل في المجتمع وإنتاج الأفكار والمنظمات وإنتاج قوة الدفع إلى أمام. إن خنق المدن العربية شلّ إمكانية تحولّها إلى مصنع للحريات والأفكار اليسارية العلمانية، أو إلى ورش حقيقية ليسارية مؤثّرة فاعلة. قد نستثني من هذا التوصيف مدنا في مراحل معينة من تطورها ـ بيروت أو القاهرة في فترات محددة أو تونس أو الجزائر ـ ومع هذا لا يُمكننا أن نجد ذاك المركز المديني العربي النابض بنبض يسار متبلور واضح المعالم. ليس كجزء من أثر مرحلة التحرر بل كجزء من المجتمعات بعد الاستقلال المتبلورة كمجتمعات حديثة. ويُخيّل إليّ الآن على بُعد في الجغرافيا والتاريخ أن اليسار العربي في حركته الأساسية أتى انعكاسا وصدى ليسار عالمي ـ مرحلة الثورة الاشتراكية والفكر الماركسي على مذاهبه وحركات التحرر ـ أكثر مما كان يسارا صميميا منزرعا في التجربة العربية وصادر عنها ومنها. وهذا لا يعني أنني لم أتعرّف على يسار صادق، لكنه فُهم على أنه تقليعة أو بضاعة مستوردة.
يُضاف إلى هذا وذاك حقيقة انتشار الأمية في العالم العربي وتأخر انخراط المجتمعات العربية في الحداثة والحداثة الفائقة. فاليسار فكر مركب غير تسطيحي تماما كما هي اللعبة الديمقراطية القائمة على التعدد والاختلاف والتسويات والحلول الوسط بينما الثقافة العربية، بتأثير تاريخها ودينها، ظلت ثقافة واحدية مشتقة من وحدانية الله والملك والحاكم والسلطة. وهو ما يُناسب الفكر الإسلامي ويتطابق معه كونه يتضمن هذه الرموز في الدين والموروث. وهي تحاكي بُنية "العقل العربي" وتقاربه أكثر مما هو اليسار الديمقراطي القائل بالتعدد وبيسارية وبالنقدية والنسبية.
مواطن ضعف اليسار في ذاته
لكن في تجربة اليسار العربي ما أنهكه. وأشير هنا إلى أربع نقاط ضعف ذاتي في فكر وممارسة اليسار العربي.
أولا ـ لقد كان اليسار في غالبيته دوغمائيا جامدا في رؤيته وممارسته. فقد تعامل مع المجتمعات بنوع من تبجح أنه يمتلك الحقيقة التي لم تكن سوى تنظيرات ماركسية أو تحليلات طبقية ما كانت كافية لوحدها لقراءة المجتمعات وتحريكها. لقد كان هذا اليسار في كثير من المواثع أسيرا لقوالبه ووصفاته الجاهزة التي حُشرت المجتمعات وتحولاتها فيها بدل أن يتم إنتاج ما يناسب هذه المجتمعات ويفكك ألغازها.
ثانيا ـ في مستوى آخر، كان هذا اليسار اتكاليا يعيش تحت وصاية المركز السوفييتي ويدور على إيقاعه فيما يتصل برؤاه السياسية وما أعقب فترة الحرب الكونية لثانية وطيلة فترة الحرب الباردة. رغم نزعة بعض قوى اليسار العربي نحو عدم الانحياز ـ القوة العالمية الثالثة ـ إلا إن ارتباطاته المعلنة والخفية بموسكو عطّلت فيه مكوناته الوطنية وأبعدته عن مجتمعاته وتلك الشرائح المرشّحة للتعاون معه. ومن هنا فإننا يُمكن أن نرى في انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته سببا مباشرا في انتهاء يسار وولادة آخر ربما أضعف ولكنه أكثر ملاءمة للعب دور المحرّك في المرحلة المقبلة. فهو يسار ألفى نفسه يتيما بغير وصي أو أب طوطم وعليه أن يُنتج فكره وذاته وسياساته باستقلالية ووفق رؤية وطنية. وهي نقطة الضوء بالنسبة لي في تقييمي لما هو حاصل وما قد يحصل.
ثالثا ـ الممارسات المتذبذبة لليسار نفسه. فباعتقادي أنه لم يأخذ فكره بجدّ حتى آخر الرمق حيث كان يستطيع ذلك. فقد مالأ أنظمة وخطب ودّها وقضى عمره يبرر ذلك. أو أنه هادن الإسلاميين الأصوليين والإصلاحيين وتنازل لهم عن كثير من مبادئه بحجة أن الصراع مع الأنظمة وكأنه تنازل عن دوره كقانون نفي في المجتمعات وبناها القديمة وشرع ينظر لحيوية الأديان وما شابه وانبرى كثيرون ينافحون عن صاحب مقولة الدين أفيون الشعوب إنكارا أو تبريرا في نوع من السلوك النابع من غياب الثقة بالنفس كأطر وتنظيمات وكفكر ثوري يُمكن أن يكون أساسا للتغيير. بمعنى، أنني أقرأه الآن كيسار لم يأخذ نفسه على محمل الجد.
رابعا ـ لم يُشف هذا اليسار من نزعته العنفية بتأثير حركة التحرر العالمية من الاستعمار ومرحلة التحرر العربية. فقد كانت ثوريته ذات نزعة صدامية انقلابية غير تحويلية المر الذي جعل نفسه قصيرا يريد خلق التجربة السوفييتية في شروط مغايرة تماما. وقد أسهم تسلحه وعسكرته الكلية أو الجزئية في استدعاء عنف الدولة وغضب المجتمعات ـ الأمر ذاته حصل مع الإسلام السياسي العنفي في نزعته في أطواره الأولى وبدا أن التيارين يتسابقان في العنف ويتغذيا من بعضهما!
أما عوامل إضعاف هذا اليسار فكانت كثيرة أهمها انقضاض الأنظمة القومية الوطنية على هذا اليسار تحديدا خلال التحرر وبعد الاستقلال باعتباره القوى التي تهدد الأنظمة الناشئة والمستأنفة على تفرّدها. بل غذت هذه الأنظمة وعبأت الإسلاميين على اختلافهم لضرب اليسار وتصفيته. وأعتقد أن هذه السياسات التي شهدتها معظم الأقطار العربية أتت ثمارها ـ أنظر مصر مثلا والسعودية . أنظر ما فعلته إيران وسوريا في لبنان حين طالت الاغتيالات أهم مفكري اليسار العربي في المشرق العربي ـ فقد انحسرت أوساط اليسار المنحسرة أصلا بسبب التضييق السلطوي والظلم الاجتماعي الديني ـ بواسطة المؤسسة الدينية والجامع ـ واندفعت إلى الهجرة. بدلالة أن اليسار العربي في نصفه على الأقلّ يعيش في المنفى الذي تحول إلى الوطن مع الوقت. وهو بذلك أثر لا فعل وصدى لا صوت له لأنه خارج مجتمعه بعيدا عنه عكس الجامع ـ والشيخ ـ الذي صار صوت الناس ومكانها المفضل. بمعنى، إن الاستبداد حصد رؤوس اليسار أو أبعدها عن الحيز الذي يحتاج تفكيرها واجتهادها.
"يسار" في طوره الثاني!
يعيش اليسار العربي الآن طوره الثاني وهو طور مؤسسات المجتمع المدني القائم على ثورة الاتصالات والشبكات والتكنولوجيا الفائقة والحيز الافتراضي. كما إنه يسار مرن متحرر من قيود الأيديولوجيا الثقيلة التي استعاض عنها بأيديولوجيا أخف وطأً تقوم على أفكار متناسقة وليس على نظرية شمولية. كما تحررت أنساق عمله من مثالية تنزع إلى العمل على إيقاع واحد في كل مكان وزمان، يسار متذرر يلائم نفسه لظروف لظروف مجتمعاته. وهذا اليسار تحديدا هو الذي استطاع أن يُخرج الناس إلى الميادين والساحات علما بأن اليسار التقليدي المنضوي في أحزاب تاريخية أو تجمعات أيديولوجية من الحقبة السابقة لم يستطع أن يفعل ذلك من قبل. كذلك، كل التيارات الإسلامية المتشددة أو الإصلاحية أخفقت في ذلك من قبل. والسبب في ذلك هو نزعة اليسار الجديد المدنية التحويلية غير الثورية بمفهومها التقليدي. فاليسار الحالي الجديد أو المتجدد ـ سنجد فيه أفكار وروح اليسار في طوره الأول ـ هو يسار مدني ذو نزعة نظرية سلمية فيما كان اليسار في طوره الأول صداميا وثوريا عنيفا استطاعت الأنظمة التأليب ضده والقضاء عليه عسكريا. بمعنى ما كان اليسار الجديد النازع إلى الليبرالية بحكم حركة التاريخ والتجارب السابقة ليسار دوغمائي أو ماركسي جامد، تحرك احتجاجا على بؤس الدولة الإقليمية ونظامها المستبدّ المنتهك للحريات والكرامات الإنسانية وعلى جمود البُنى المعارض ليسار وإسلاميين تقليديين تحولا مع الوقت إلى جزء من بُنية الأنظمة وثقافتها، ثقلا فائضا على صدور الناس.
إن فرضية عمل هذا اليسار ينبغي أن تتحول أو تتعدّل قليلا أو كثيرا تبعا للتطورات التي ستشهدها المجتمعات العربية. فقد يجد هذا اليسار نفسه أمام تحد ديمقراطي حقيقي وعليه أن يُسهم في تطوير هذا الخيار بأمانة وإخلاص لأفكاره التي يبدو لي أنها لم تكتمل. وهنا أحذر من مغبة النكوص إلى مفاهيم الاشتراكية في حالتها الخام كما صاغتها التجربة السوفييتية لأن الظرف يستدعي تطوير رؤيا يسارية تستند إلى استخلاصات من فشل تلك التجربة ومن مزالقها لا سيما المتصل منها بقمع الحريات وروح الإنسان والمركزية الاقتصادية المطلقة. وأرجح أنه مصير اليسار في السنوات القليلة القادمة. كان في السلطة أو لم يكن عليه أن يكون في المجتمع كي يطوّر ما حققه في الميدان من تغيير في للنظام إلى تغيير في البنية النفسية والاجتماعية والثقافية. وهذا مصيره ـ واقعه ـ في ظل أي سلطة ستقوم.
لكن في سيناريو آخر قد يجد هذا اليسار نفسه وحيدا، وبتفاوت، أمام آلة قمع جديدة تتمثل بالقوى الإسلامية التي تعبر عن غبطتها بنتائج الانتخابات حيث أجريت، ولا تخفي رغبتها في تكريس ذلك في الدستور تعديلا وتغييرا ـ مصر والمغرب مثالا. وهنا، فإن مهمة اليسار ستكون أكثر خطورة لأنها سترتكز على فرضية سوسيولوجيا الدولة القومية وديمومتها في مواجهة قوى هدم هذه الدولة أو تحويلها الزاحف لدول شريعة. وحريّ بهذا اليسار أن يخرج من إسار خطاب الدولة القومية والحداثة كما صاغتها التجربة الإنسانية إلى ما قبل الحرب الكونية الثانية ليقرأ ما استجدّ في الزمن المعولم. وهنا نصل إلى حقيقة تاريخية وهي أن الدول العربية ظلت رغم كل دساتيرها دول شريعة في كثير من نواحي حياتها وإدارتها، وإن الأنظمة اتكأت في كثير من مراحل تجربتها على المقدس والموروث في توطيد شرعيتها. ومن هنا اعتقادي أن انقضاض القوى الإسلامية على نتائج الربيع العربي لم يكن صدفة لأنها وريثة طبيعية للثقافة وللسلطة وغير بعيدة كما يبدو للوهلة الأولى عن جوهر المجتمعات كما تطورت في ظل الدولة الإقليمية. فهي ليست نقيض الدولة او نخبها الحاكمة بل هي وجهها الآخر.
مهمات تكاد تكون مستحيلة!
في النهاية، قدر اليسار العربي الجديد أن يواجه من جديد كما أرى بعيني روحي حركة النكوص داخل مجتمعاته وكماشة الغرب التي يقف نفيا لها وتحديا حقيقيا لسياساتها. وهنا المفارقة، فالإنسان العربي وجد نفسه في حضن الإسلاميين بوصفهم الهوية المقابلة للغرب المسيحي او لحركة العولمة التي تضع الفرد والجماعة في لجة من عدم الوضوح ومن الشك والمتاهة ـ سمة النظام المعولم وجهة دفعه ـ ينشد الطمأنينة بالنكوص والارتداد إلى ماض متخيّل. وهي حركة يحاول الغرب أن يتعايش معها ويصالحها الآن على الأقل رغم بذور الصدام الذي تحمله للطرفين مستقبلا. أما اليسار العلماني الذي من المفترض أنه يطرح صيغة دخول المجتمعات العربية حلبة التاريخ والنظام المعولم من باب الجدارة والاستحقاق الحضاري فسنجده مرة أخرى بين فكي كماشة، النظام الديني على غيبياته والغرب على سياساته النازعة إلى الهيمنة. لكنه في نقطة أخرى من التاريخ وهذا يعني أنه قد يؤدي أداء آخر.
على أي حال، نرى إلى الحاصل على إنه أحداث متسارعة ذات سيولة هائلة. وهي بوصفها كذلك، مرشحة للتحول. بمعنى، أن الأوضاع غير نهائية في كل مستوياتها ولذلك فإنه سيظل لليسار دوره وكلمته، توحّد أو لم يتوحّد. لكن الأهم أن يُنتج رؤيته القائمة على تجربة الحداثة برمتها وما بعد الحداثة، مستفيدة من قراءات مركبة للعالم والمجتمعات دون الافتتان بالسطحية والتسطيح وشعبوية مضادة للشعبوية الدينية. فالرهان هنا خاسر ولا حرق للمراحل بعد الآن كما على الطريقة الستالينية. عليه أن يقطع الطريق من أولها إلى آخرها دون أوصياء خارج الوطن والثقافة، أو ميكانيزمات جاهزة وأيدولوجية سحرية تحلّ جميع العقد بما فيه العنة الجنسية أو التخلص من الشعر الزائد. إنه يسار معافى ـ وهذا أملي ـ في مواجهة تاريخية جديدة وطويلة. يسار جديد لن يحظى بأي امتيازات أو تسهيلات يخلق العالم من جديد ويسميه. وهو يُدرك أنه ليس وحده في هذا العالم، وأن طريقه وعرة محفوفة بالألغام خاصة وإن قوى إسلامية واسعة تطرح نفسها بديلا للدولة وللسياسة. وهنا السيناريو الأخطر وهو أن يجد اليسار نفسه أمام العالم دون الحقل السياسي في زمن يهبط فيه الله على الأرض ويفرض نصه نهائيا ـ الفاشية الدينية! مهمات تكاد تكون مستحيلة.
باحترام
مرزوق الحلبي
5/ديسمبر/2011
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. شاهد.. تدافع مميت خلال مباراة كرة قدم في غينيا يسفر عن سقوط
.. هذا ما قالته رائدة فضاء ومهندسة طيران في الإمارات عن قصة نجا
.. لمساندة الجيش السوري.. ميليشيات موالية لإيران تدخل سوريا
.. ما مدى جدية الطرف الإسرائيلي في إحراز تقدم بالمفاوضات؟
.. الدفاع المدني بغزة: لا توجد أي خدمات طبية أو إسعافية في القط