الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصيدة في هجاء القذافي

عادل بشير الصاري

2011 / 12 / 7
الادب والفن


مع رحيل القذافي وزوال جماهيريته الشعبية نستذكر شيئا من الشعر الذي قيل في هجائه، فنقدم لهواة الشعر الكلاسيكي قصيدة ليبية بعنوان ( إلام السكوت ) ، وهي تعد من أوائل شعر المعارضة أو المقاومة الليبية ضد حكم القذافي ، نُظمت في أوج طغيان وجبروت ذاك الحكم البغيض ، وأذيعت عام 1983م من إذاعة المعارضة الليبية التي كانت تبث برامجها من السودان ومصر، وتمثلها آنذاك الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا .
وقد قُدِّمتْ القصيدة حينها على أنها للشاعر موسى عبد الحفيظ ، ومن المؤكد أن هذا الاسم كان اسما حركيا اتخذه الشاعر لنفسه خوفا من بطش زبانية القذافي ، فقد تبين بعد سنوات أنه الأستاذ الدكتور يونس فنوش ، من مواليد مدينة جالو عام 1944م ، وقد نال درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة السربون الفرنسية عام 1973م .
عدد أبيات القصيدة واحد وعشرون بيتا ، مصوغة في وزن الخفيف ، ويعرف المتمرسون في علم العروض الخليلي أن هذا الوزن يقبل التدوير ، والمقصود بالتدوير هو اتصال شطري البيت الشعري بحيث يكون جزء من آخر كلمة في الشطر الأول والجزء الباقي في أول الشطر الثاني ، لذلك وقع التدوير في أحد عشر بيتا ، وهو ما أتاح للشاعر أن يسترسل في تدفقه العاطفي ، ويصعِّد من نبرة إيقاع أبياته .
ولعل أول ما يشد انتباه المتلقي لهذه القصيدة هو نبرة إيقاعها العاطفي الحماسي ، فلغتها خطابية إنشائية تراوحت بين الإخبار والإنشاء ، ولما أراد الشاعر من قصيدته توجيه خطاب سياسي حماسي للشعب يشحذ النفوس ويثير الهمم لأجل الثورة على الطاغية فإنه لم يبالِ بابتداع صور شعرية معبرة ولا بتنسيق أفكاره ، فقد خلت الأبيات من التصوير الإبداعي ، وجاءت الأفكار مبعثرة ومكررة هنا وهناك في عدد من المواضع ، والواقع أننا لا نريد التعمق في تحليل مستويات الخطاب الشعري في الأبيات ، ولا في تتبع تجليات التصوير فيها ، ذلك لأننا نقدم هذه الأبيات لعامة الناس الذين يستهويهم الشعر العربي المصوغ في الأوزان الخليلية ، ولا يعنيهم من هذا الشعر سوى إيقاعاته ومعانيه .
لذا نقول إن الشاعر استهل قصيدته بمخاطبة أبناء شعبه مذكرا إياهم بأن فساد وظلم واستهتار القذافي بأبناء ومقدرات الوطن قد تعدى كل الحدود ، وعلى الشعب أن يثور لرفع الظلم عنه ، لأجل أن يحيا حياة كريمة ، ويعجب الشاعر من أن الكائنات لم تعد تطيق رؤية الليبيين وهم يئنون من جور القذافي وإرهابه ، لكن الليبيين ـ للأسف ـ استطاعوا أن يطيقوه ، ورضوا أن يتولى أمرهم رجل مجهول النسب ، وهي إشارة إلى ما كان يشاع عن الأصول اليهودية للقذافي :
يا بنـي أمتـي لقد بلـغ السـيلُ زُباهُ ، فآن أنْ تستفيقوا
ضجتْ الكائناتُ مما تطيقون ، فكيـف استطعتمُ أن تطيقوا
أن يلي أمركمْ لقيطٌ ، رمتْهُ في حِماكمْ عبر الظلامِ الطريقُ
ثم أخذ الشاعر في نعت القذافي بأصدق النعوت التي ـ مع شناعتها ـ تدل على شخصية القذافي الحقيقية :
جاهلٌ يدعي الفطانةَ ، كذابٌ ، مريضٌ ، منافقٌ ، زندبقُ
الجهل بالسياسة وبأحوال العباد والادعاء الكاذب والنفاق والزندقة السياسية والدينية هي أبرز صفات القذافي ، وهو ما اتضح جليا في مجمل سياساته وخطاباته ، فطيش القذافي ورعونته ليس بخافيْين على أحد من العالمين ، ذلك لأن جهله بطبيعة الشعب الذي يحكمه وبألاعيب السياسة الدولية قد ورَّط ليبيا والليبيين في سلسلة من الصراعات والهزائم المتكررة ، وبدد ثروات طائلة لا حصر لها من خزينة الشعب على مغامرات فاشلة وأفعال بهلوانية مخزية ، وجرائم إرهابية منكرة ، وهو ما جعل عددا من الكُتَّاب الذين تناولوا شخصيته بالتحليل النفسي يصفونه بالمجنون والمريض ، ولا ننسى أن الرئيس المصري السادات كان ينعت القذافي بالولد المجنون .
وعرَّج الشاعر في البيت الخامس مصورا زبانية القذافي من زمرة اللجان الثورية :
وحواليهِ حفنةٌ من عيالٍ ، شأنها الرقصُ عنده والنقيقُ
كلما قام في المحافلِ يهذي ضجَّ منهم لسخطهِ التصفيقُ
إن ما يصوره الشاعر في هذين البيتين لا يمكن أن تنساه الذاكرة الليبية في السنوات القريبة ، وهل ننسى ـ نحن الليبيين ـ عيال القذافي من الرعاع والغوغاء والمهرجين والمجرمين ممن كانوا يسمون بـ ( الثوريين ) ؟
وهل يمكن نسيان ما فعله أولئك الرعاع في المسيرات والمظاهرات وأثناء خطابات سيدهم أمين القومية العربية وملك ملوك إفريقيا ؟ .
لطالما صفقوا وطبلوا وزمروا لسيدهم ، ولطالما هددوا وتوعدوا غيرهم من عامة الشعب ، صارخين بأصواتهم المنفرة والمشروخة :
النار .. النار .. الدم الدم .... الثوري على الموت مصمم .
صفيهم بالدم يا قايد ... سير ولا تهتم يا قايد .
ولطالما أحرقوا الكتب ، وهدموا بيوت معارضيهم ، واستولوا على ممتلكاتهم ، وزجوا بالآلف من أبناء شعبهم في السجون وعذبوهم ، ولطالما أزهقوا أرواحا بريئة ، ولطالما نبشوا قبور ضحاياهم ، وتعلقوا بأرجلهم وهم على أعواد المشانق .
إن هؤلاء المجرمين كانوا عونا للقذافي على جرائمه وطغيانه ، وهم من زينوا له سوء أفعاله:
لفظ الترهاتِ قالوا حكيمٌ ، ومشى عارياً فقالوا أنيقُ
يعد هذا البيت ـ بحسب الذائقة الذاتية وبحسب بنية القصيدة الكلاسيكية التي تعتمد على وحدة البيت ـ أجود أبيات القصيدة ، وأبرعها في تصوير حال القذافي مع رعاعه وزبانيته ، فهو إذا لفظ الترهات من جوفه صاحوا : حكيم ومفكر ومنظر وفيلسوف ، وهو لو مشى عاريا أمامهم سيقولون إنه في كامل أناقته ، وهذا التصوير يشي بمدى خطورة الحاشية على الحاكم إن لم يحسن اختيارهم ، ولو صحَّ ما قاله السيد عوض حمزة أحد رفاق القذافي الذين شاركوه في انقلاب سبتمبر 1969 م من أن القذافي قبل هذا الانقلاب كان بالنسبة لمن عرفوه قديسا فإن هذا يدعم المقولة التي تفيد بأن الحكام الطغاة هم صناعة بطانتهم ومتملقيهم ، وعلى المؤرخين وعلماء النفس والاجتماع أن يفسروا للناس كيف تحول القديس إلى شيطان مريد ؟ .
لقد خدع الرعاع والمتملقون القذافي حين خلعوا عليه النعوت البراقة من مثل الزعيم والصقر الوحيد وإمام المسلمين والمفكر الأممي العظيم ومفجر عصر الجماهير ومهندس النهر الصناعي العظيم ، وحين شبهوه بالنبي عيسى وهم الحواريون ، ولا شك أنه كان يتلذذ بسماع تلك النعوت ، وينتشي طربا بها حتى السُكر ، حتى استمرأ منهم النفاق والمديح الكاذب ، وحتى بات لا يطيق سماع أي نقد لسياساته ، بل كان يصف منتقديه بالخونة والرجعيين وعملاء الاستعمار :
وتمادوا حتى دعـوْهُ نبـياً ، وادَّعـوا أنــهم له الصــدِّيقُ
وسقوه خمرَ النـفاقِ ، وقالوا : قمْ ، وحدِّثْ فشأننـا التطبـيق
يا لهولِ المُصابِ كيف قبلتمْ ؟ لم تثوروا لم تغضبوا لم تضيقوا
قد رضيتمْ ما ليس يرضى كريمٌ ، واحتملتمْ ما ليس حراً يُطيقُ
( يا لهول المصاب ) صرخة شاعر مفجوع ومصدوم مما حل ببلده من خراب على يد القذافي ورعاعه ، وتساءل الشاعر مرة ثانية مستنكرا ومؤنبا مواطنيه كيف قبلتم بما يفعله القذافي بكم ؟ ، فهم قد سكتوا عن جرائمه ، فلم يثوروا ولم يغضبوا ، واحتملوا منه ما لا يحتمله الكرام ولا يطيقه الأحرار .
ويصور الشاعر ما حل ببلده ليبيا على يد القذافي وزبانيته بأنه منكر وشر عابث مستهتر لا حدود لعبثه واستهتاره ، ومن نكد الدنيا على الحر الليبي الأبي أن يحيا في بلده عبدا يسترقه حاكم مريض مع حفنة من مرضى النفوس .
منكـرٌ يزكـمُ الأنـوفَ ، وشــرٌّ عابـثٌ في البـلادِ حـرٌ طليقُ
ومريــضٌ في وسـطِ حفنـةِ مرضى أصبـحوا سادةً وأنتمْ رقيقُ
يخلص الشاعر إلى أن الشعب بكافة مكوناته وشرائحه يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا بسبب خنوعه وخوفه من الطاغية وزبانيته ، فالسكوت عن الظلم والخوف من الطاغية هو الذي جعله يتمادى في طغيانه ، ويتساءل : إلامَ السكوت على الفساد والظلم والذل؟ هل يليق بالمؤمنين في ليبيا السكوت عما يحدث لبلادهم من تدمير شمل البنيات التحتية والمعرفية والأخلاقية والاجتماعية ؟ .
قد قبلتمْ فصار مُلكاً مطاعـاً في يـديهِ التوسيـعُ والتضيـيقُ
واحتملـتمْ فـزاد منـه التجني وسـكتمْ فـزاد منه النعــيقُ
وغفـوتمْ حتى تحوَّل كابوساً وقيـداً في كـل يـومٍ يـضيـقُ
فانظروا اليوم كيف أرداكمُ الخوفُ وبـتمْ يخشى الشقيقَ الشقيقُ
وتُسـامـون ذلـةَ الأرضِ والعـرضِ أهـذا بالمـؤمنين يليقُ
فإلامَ السـكوتُ ؟ قد هاجتْ المـوجُ وأشفى على الهلاكِ الغريقُ
وفي البيت الأخير يصيح الشاعر بمرارة : متى تفعلون بالله شيئا ؟ .
ومتى تفعلون بالله شيئاً ليس يكفي الصراخُ والتحديقُ
وقد شاء الله أن يمد في عمر الشاعر ليسمع الجواب عن سؤاله ، وليرى أمنيته تتحقق بعد ثمان وعشرين سنة يوم السابع عشر من فبراير 2011 م ، فبعد صراع مرير مع الطاغية استمر اثنتين وأربعين سنة ، فعل الليبيون ما لم تفعله شعوب كثيرة سِيمتْ الخسف والذل من حكامها الطغاة ، فقد توقفوا عن الصراخ والتحديق وانتفضوا ضد الطاغية ، وزلزلوا أركان حكمه حتى مكَّنهم الله منه ، فوقع في أيديهم ، فأذلوه وساموه ولو للحظات سوء العذاب ثم قتلوه شر قتلة جزاءا وفاقا بما سفكه من دماء الليبيين على مدى سني حكمه العجاف ، فهدأت بهذا نفوس الشهداء وتعافى وجدان الأرامل واليتامى والمعذبين ، وعادت لليبيا خضرة أوراق زيتونها ، وزرقة سمائها ، وحنين الإبل في بواديها ، وبياض الياسمين في مدنها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا