الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة بعنوان ( عمّال البطالة )

مدحت ربيع دردونة

2011 / 12 / 8
الادب والفن


تقاطروا إلى موقع العمل ، وكان عددهم يربوا على العشرين شخصًا ، استوقفتهم كومة الحجارة القديمة البنية اللون ، والتي يعود زمنها إلى العصر العثماني ، وقد كانت قبل حين بيتًا من بيوت القرية ، وها هي الآن كومة تنتظر من يزيلها ليبني صاحبها بيتًا جديدًا بعد أن انهارت بفعل الزمن ... توقف العمال أمام الحجارة حدقوا فيها ، نظر بعضهم إلى البيوت المجاورة ، وانحنى كبيرهم يتحسس مادة الحجر بأطراف أصابعه ، ثم حاول دفعه بكفه فارتدت كتفه دون إزاحة الحجر ، أففف !!! اعتدل ونظر حوله ، فرأى الباقين قد أدار كثير منهم ظهره للموقع وآخرين ما زالوا يقلبون أبصارهم في أنواع الحجارة وعلامات اليأس ترين على وجوههم ... هناك مساحة مظللة بأشجار الحمضيات المتروكة ... تداعى إليها العمال من وخز شعاع الشمس ، وألقوا بجثثهم على الأرض متوسدين الحواف الترابية المحيطة بالشجر ، التفت إليهم كبيرهم : مالكم قعدتم ؟ ! ماذا جرى ؟! اعتدل أحدهم متكئًا على يده : وماذا نعمل ؟ نادِ لنا صاحب الدار نراه ، على الأقل يعمل لنا كبّاية شاي . حوّل رقيته :هيي يا صاحب الدار ! ! أنت وين ؟ ماذا يقولون له ؟ أبو من يقولون له ؟ يرد أحدهم : أبو عطالله . هيي يا أبو عطالله !! تسمع زوجته النداء : اصح يا حاج ، اصح يا أبو عطالله ، هناك ناس ينادون عليك ، اصح يا زلمة ، الدنيا الظهر !.... من يا حرمة ؟ من الذي ينادي ؟ ! هو أنا عارفة ؟! ناس تحت . يفرك أبو عطالله عينيه ، يطمأن إلى استقامة الرؤية ، يخطو نحو الشرفة ، يمد رقبته ناظرًا إلى الأسفل : آآآه ! هذول عمال البطالة الذين أرسلتهم البلدية ليساعدونا في رفع الحجارة وتنظيف المكان ، من زمان ونحن نطلب المساعدة من البلدية ، والحمد لله أخيرًا استجابوا وجاء العمال : أيوا ، أيوا ، أنا قادم . يرتدي أبو عطالله ملابس الخروج ويهرول مسرعًا : أهلاً يا شباب ! الله يعطيكم العافية ! يتقدم كبير العمال مصافحًا ، كيف حالك يا حاج ؟ نحن عمال دورات البطالة بعثتنا البلدية لمساعدتك ما هو العمل ؟ يتنحنح أبو عطالله ويرمي نظرات سريعة على المضطجعين تحت أشجار الحمضيات ، ثم يغذ السير نحو ركام المنزل يتبعه كبير العمال بخطوات أبطأ : هذه الحجارة يا جماعة نريد أن نزيلها من هنا وننظف المكان ، والبلدية وعدتني أن توفر سيارة نقل ، إن شاء الله لا تتأخر ! طيب يا حاج ، يا ليت تدبر لنا براد شاي قبل ما نبدأ الشغل . حاضر ! على عيني ! وبسكويت قرشللي كمان . تكرمو ، خمس دقايق . يذرع أبو عطالله الأرض متجهًا نحو البيت ... يشمر ذيل جلبابه ويعتلي درجات السلم بهمة الشباب : يا أم عطالله اعملي براد شاي كبير وحضري لنا ثلاث باكيتات قرقوش قرشللي للعمال ، هذول عمال البطالة جاؤوا يساعدونا في إزالة حجارة البيت . حاضر يا أبو عطالله ، لكن أنا أرى العمال قاعدين تحت الشجر ، إيش هلعمال ؟! من قبل ما يشتغلوا مهدودين !!! اسكتي يا وليه ! هذول عمال جامدين ! أنا أعرفهم من زمان ، أيام ما كانوا يشتغلون في البنيان ، أيام ما كان الواحد منهم يحمل ثلاثة أكياس أسمنت على ظهره ويطلع بها على الدور الخامس ! سترين بعد قليل! أنت اعملي الشاي وما عليك ! حاضر يا أبو عطالله ! يا خوفي ! والله وشوها على خشومها ! ينزل أبو عطالله حاملاً بيده اليمنى براد الشاي وفي يده اليسرى صينية مكتظة بالكؤوس ، يتجه بحذر نحو العمال ، ينظر إليه العمال مستبشرين بوجبة الشاي دون أن يتقدم أحد منهم ليتناول من أبي عطالله حمله ... واصل تقدمه وهو ينظر إلى العمال حينًا وينظر تحت قدميه حينًا آخر حتى لا يتعثر على الأرض الطينية غير المستوية ، ولسان حاله يقول : يبدو أن أم عطالله على حق ، والله إنكم قليلو العزم ! الله يعيننا على هذا اليوم !... وصل الحاج إلى ظل الأشجار حيث يستلقى العمال ، ووضع حمله على الأرض وشرع في صب الشاي في الكؤوس ، ونظر إليهم ، فبادره أحدهم : الله ينصحك يا حاج ! ناولنا كبايات الشاي . كظم الحاج غيظه ولكن النفس الحار أخذ يحرك شاربه ، ونظر إليهم شزرًا ، وحمل الصينية وخطى حانيًا ظهره ليتناول كل واحد منهم كأسه ... وقف الحاج ينظر إليهم وهم يرتشفون الشاي وشخير الشفط يتصاعد من أفواههم : إن شاء الله تكونوا مبسوطين ! الحمد لله يا حاج ، سلّم أيديكم على هالشايات !! . إذن متى تبدأون العمل ؟ الآن بعد أن نشرب الشاي . يسكن غيظ الحاج قليلاً ، ويستأذن ، ويعود إلى زوجته فيجدها وقد تمنطقت بحزام العمل الذي فارقته منذ أيام الحصاد ، وثنت داخله ذيل ثوبها وكأنها مستعدة لخوض معركة ... وقف الحاج ينظر إلى زوجته ودقات قلبه تنبئ بما يدور بخلدها ، فهذه خبرة أربعين سنة من الزواج بأم عطالله : عساك بخير يا حاجة ؟! بخير ! من أين يأتي الخير مع هؤلاء الرزايا ؟! أنا رأيت كل شيء من الشباك ! تعال معي ننزل ونرى آخرتها معهم ! يمسك بها الحاج ويحاول ثنيها ، ولكنها تصر على النزول ولم تتريث إلا بعد أن وعدها بالنزول معها ، ولكن بعد مراقبة العمال قليلاً من شرفة المنزل ... وافقت ، واتجه الاثنان إلى الشرفة وأخذا يرقبان حركة العمال ... فرغ العمال من شرب الشاي ، وبدأوا يتململون محاولين الوقوف والأرض تشدهم ، فلا تكاد ترى الواحد منهم ينتصب على قدميه قبل أن تظهر عليه علامات الخروج من معركة ... ترنحوا في خطاهم متجهين نحو الموقع ... بعضهم يرفع سروالة الذي شارف على السقوط ، وآخر يلوي يده محررًا بدنه مما التصق به من سرواله، وثالث يتشاجر مع قميصه الذي يعيق دخول يده ليحك بها إبط يده الأخرى ، ورابع ينظر إلى الركام ويمسح شدقيه لينتهي الأمر بأصبعيه قابضين على لحمة ذقنه ، وخامس قد شبّك يديه ورفعهما فوق رأسه محاولاً فك فقرات ظهره كما تفعل الحمير ، وسادس ... وسابع ... وثامن ... بينما يحدّق الحاج وزوجته ، ويرقبان المشهد وقد تسلل لديهما إحساس بقرب المواجهة ... يلتفت كبير العمال نحو بيت الحاج , ويصوب عينيه تجاه الشرفة ، فلم ير أحدًا ، ولكنه يشعر بمن ينظر نحوهم من نافذة البيت ، فاستجمع بعضًا من بقية عزم ليرفع عن نفسه الحرج ، وأخذ ينادي : يا حاج ! يا أبو عطاللة ! تتمتم الحاجة : ماذا يريد هذا النحس ؟ لا ترد عليه ! دعه يعوي ! بالله عليك يا حاجة دعينا نرى ماذا يريدون ! يتوجه الحاج إلى الشرفة : نعم ... ماذا حدث ؟ انزل بالله لحظة . حاضر . يهم الحاج بالنزول ، فتلحق به زوجته ، فيحاول عبثًا تنيها فلم يفلح ، ويهرول الاثنان معًا ، وفي لمح البصر يكونان أمام العمال : قولوا لي ، ما المشكلة ؟ لماذا لم تبدأوا العمل ؟ ينظر كبير العمال إلى وجه الحاج فيرى شاربه يرتعش ويده لا تستقر على حال فيحرف بصره قليلاً فيلحظ زوجته وقد ثنت مرفقيها واتكأت بكفيها على خاصرتيها وقد تشكلت على وجهها قسمات حادة ، توحي بقرب حدوث إعصار مدمر ... فأدرك الرجل أنه في حال لا يحسد عليها ، وأنه لو طلب ما في نفسه ستحل الكارثة . كان ينوي أن يطلب من الحاج وجبة إفطار للعمال ، ولكنه الآن مضطر إلى الانتقال للمرحلة الثالثة مباشرة ، وكفى الله المؤمنين شر القتال . الصراحة يا حاج هذه الحجارة كبيرة الحجم ولا طاقة لنا بحملها ، والأفضل لك ولنا أن تستأجر جرافة لنقلها .ما كاد الرجل ينهي كلمته الأخيرة حتى كانت المرأة تغرف من الرمل بكفيها وتعفر به تجاهه وتجاه باقي العمال : خذوا ...خذوا على رؤوسكم ... بينما كان العمال يتقافزون فارين من الموقع ، وأصواتهم بين الصراخ والضحك ، وكان الحاج أبو عطالله يضرب كفًا بكف ويتمتم بألفاظ لم يسمع منها إلا قوله : ( جرافة !!! ، آآآآآه يا مِطْرَق رمان !!!!!! ) .



دكتور مدحت دردونة
غزة - جباليا












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة جميلة
صبيح محمد ( 2011 / 12 / 8 - 17:02 )
عنما قرات العنوان ما توقعت انني ساقرأ قصة جميلة و حلوة، ولكن هذا هو الذي حصل، قصة رائعة و مثيرة للضحك احيانا اخرى. و شعرت بان الوقت الذي قضيته في قراءة هذه القصة كان من اجمل لحظات يومي هذا.


2 - قصة ممتعة جدااا
عليا مصطفي ( 2011 / 12 / 31 - 12:55 )
سلم ايدك يادكتور ع هالقصة الممتعة انها قصة واقعية جدااا 0صحيح يوجد فيها شي من الفكاهة الفلسطينة الاصيلة لكنها تحمل جوانب واقيعة جدااا وتتحدت عن مشكلة حقيقة موجود في الشارع الفلسطيني


3 - قصة رائعة
eman khader ( 2012 / 7 / 30 - 19:57 )
سلمت يداك دكتور مدحت هي قصة رائعة فعلاولا تبتعد عن مشاكل مجتمعاتنا

اتمنى ان نرى المزيد من هذه القصص التي تملأ الفراغ بالشيء المفيد

اخر الافلام

.. المخرج الأمريكي كوبولا على البساط الأحمر في مهرجان كان


.. ا?صابة الفنان جلال الذكي في حادث سير




.. العربية ويكند |انطلاق النسخة الأولى من مهرجان نيويورك لأفلام


.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي




.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية