الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور الفرد في التاريخ من خلال النموذج الناصري

منير شحود

2004 / 12 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


عندما شرعت بقراءة كتاب "الناصرية: نهضة أم سقوط" للباحث كامل عباس, كانت تراودني المخاوف من أن أجد حشدا من المفردات والعبارات المؤدلجة, كما يحدث في الكثير من أمثال هذه المؤلفات, فنتعب من الالتفاف حولها والقفز فوقها, وصولا إلى رمي الكتاب جانبا. ولكن على العكس, فقد انتهيت من قراءة هذا الكتاب بعد عدة ساعات, واستمتعت بسرده القصصي الجميل, محتملا صرخات طفلتي واحتجاجها, لتجاهلي التام لها في أثناء قراءته.
يبدأ الكتاب بشرح مبسَّط لتطور الدماغ البشري وبنيته الوظيفية, والتي تسمح بتفرد كل منا وتميزه كشخص ضمن مشتركات الجماعة, لينتقل بعدها إلى السياسة, عارضا لدور الفرد في التاريخ بشكل عام, وللتجربة الناصرية بشكل خاص. وفي تحليله يريد الباحث أن يتقاطع مع الرؤية الماركسية لدور الفرد في التاريخ, كتعبير مكثَّف عن حاجات جماهيرية أو طبقية, وليعارضها في الوقت نفسه, منوِّها بالأثر الكبير الذي يحدثه هؤلاء القادة في صيرورة الجماعات والشعوب, حالما يتجسدون كتعابير عن مصائرها وطموحاتها.
وبرأي المؤلف, فقد عكست الرؤية الماركسية لدور الفرد في التاريخ تطور أوربا بعامة, ولكنها تفقد الكثير من دقتها وموضوعيتها عند تطبيقها في بلدان الشرق... هذا الشرق الذي أفرد له ماركس نمطا إنتاجيا وحضاريا خاصا في تحليله لنمط الإنتاج الآسيوي. وهكذا فقد كان من أهم أسباب فشل الأحزاب الشيوعية التي اعتمدت النهج الستاليني في بلاد المشرق هو طمس خصوصية هذه المجتمعات, لأنها اعتمدت النسخة الستالينية الممسوخة حول بنظرية التطور الماركسية للمجتمعات الأوربية, والتي مرت بمراحل خمس: المشاعية فالرق فالإقطاع فالرأسمالية, والتي ستتلوها الاشتراكية وصولا إلى جنتها الشيوعية.
يربط الكاتب صعود القادة الشرقيين واستفرادهم بالدور الذي أدته الطبقة الوسطى في المرحلة بعد الاستعمارية. وفي مصر تمثل دور الطبقة الوسطى بالجيش, ولعبت شخصية جمال عبد الناصر الدور المحوري في هذا التمثيل, بفضل مزايا عدة, شخصية وخطابية, وكان حل الأحزاب السياسية وقمع أفرادها مقدمة لطغيانه الشخصي على وجدان الجماهير.
ويبدو أن حركة الحياة تبقى مستمرة, مهما حاول النظام الاستبدادي بقائده الأوحد فرملتها, وهكذا يتحول الحراك السياسي المقموع في المجتمع إلى عقر دار النظام الاستبدادي, وينمو في أحشائه؛ ففي مصر غيَّر السادات اتجاه الدفة, غير عابئ بعواطف الجماهير, وهذا ما يفعله أبو مازن في الساحة الفلسطينية الآن. وقد يكون التبدل دراماتيكيا عند إجهاض أجنة التغيير تماما, كما حدث في العراق ورومانيا. وعاجلا أم آجلا سيصل حكم الفرد إلى الأفق المسدود. وكلما قُيِّض للنظام الفردي أن يعيش أكثر, كان على الشعوب أن تدفع ثمنا أكبر, وتحاول استعادة ما فاتها تعويضا عن الوقت الذي قضته مبهورة في حمَّى الاندفاع العاطفي وراء القائد والمخلِّص.
يورد الكاتب ميزة إنسانية أصيلة عند جمال عبد الناصر, كدليل لصدقه واستقامته وإخلاصه لمبادئه الوطنية كما فهمها, كونه لم يسمح لأقاربه والمقربين منه أن يستفيدوا من سلطته المطلقة. ومع ذلك فلا يوجد استبداد دون فساد, بل أن العلاقة طردية بين درجة الحكم المطلق وحجم الفساد المنتشر في مجتمع معيَّن. ولكن الفرق بين جمال عبد الناصر وغيره, أنه لم يسمح لحلقة الفساد أن تقترب منه كثيرا, أو أن يغوص بنفسه في مستنقع الفساد, مثلما غاص آخرون مع حاشيتهم فيه, أو استفادوا من فساد الحاشية لربطها بالنظام بصورة لا فكاك منها, بحيث تبقى الأنشوطة معلقة على مسافة قريبة فوق رؤوسهم.
ويحاول السيد كامل عباس في النهاية تحليل السلوك الجماهيري العاطفي في المرحلة الناصرية, باعتباره تعبيرا عن عزتها الوطنية والقومية بمواقف قائدها, وخاصة بعد القرار - الصدمة بتأميم قناة السويس. وفي هذا الإطار فإني أعتقد بأن هذا السلوك على المستوى النفسي يعكس طفولة هذه الشعوب وعدم نضجها العقلاني؛ إذ كلما ارتقى شعب سلَّم الحضارة أكثر, استطاع كبح عواطفه والتحكم بها بالعقل. ويعكس ذلك على المستوى البيولوجي نشاطا أكبر للقشرة المخية Cerebral Cortex وتمكُّنها من السيطرة على الانفعالات المتأججة في البنى تحت القشرية, وخاصة في الجملة الحوفية Limbic System من الدماغ.
وفي الوقت الذي تمت الاستعاضة فيه عن السياسة بالتسييس وصودرت الحريات من المجتمع, تصدى الإبداع الأدبي لتحليل العلاقات الاجتماعية والتحولات الشخصية في المرحلة الناصرية. ويقتبس المؤلف الشواهد المعبرة من روايات الأديب الكبير نجيب محفوظ, والتي تعكس الواقع الحقيقي المتستِّر خلف ضباب الانبهار الجماهيري.
ومع ذلك فإنني أرى تبسيطا ميكانيكيا في تحليل الكاتب لنهاية التجربة "الاشتراكية" في الاتحاد السوفييتي, في معرض مقارنته لمصير بعض الأنظمة الاستبدادية, ومثلها الاستنتاجات التي خلُص إليها حول المستجدات الأخيرة في الحرب على العراق. ويبدو أن المؤلف لم ينجح في الفكاك تماما من التنميط الأيديولوجي الذي حاول تجنبه في معظم صفحات كتابه. كما أن ثمة نقص في المصادر التي يستند إليها المؤلف بخصوص المرحلة الناصرية, والتي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وفي بعض صفحات الكتاب كنا ننتبه إلى نهاية الاستشهاد ولا نعرف بدايته, ما يجعلنا نضيع الحدود بين رأي الكاتب نفسه والآراء الواردة في مصادره.
واستكمالا لهذا العمل القيِّم, أود أن أقترح على الكاتب دراسة مقارنة لأنظمة الاستبداد, تتضمن مراحل صعودها وسقوطها؛ لأن الموضوع هام, ويرتبط بحاضرنا ومستقبلنا, إذا افترضنا أن لنا مستقبل يستحق العمل من أجله!. وأتمنى أن يطوي التاريخ البشري هذه الصفحة من صفحاته, وتنضج شعوبنا لإدارة أمورها بنفسها, بعيدا عن الوكلاء الأرضيين والسماويين.
وإذا كان هذا ما أراه, فإنني لا أريد أن أصادر مسبقا متعة القارئ في تكوين استنتاجاته والتمتع بقراءة هذا الكتاب, حيث تتشابك السياسة مع البيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي, في حالة نادرة فيما يتعلق بالمؤلفات السياسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: نظام ري قديم للمحافظة على مياه الواحات


.. مراسل أوكراني يتسبب في فضيحة مدوية على الهواء #سوشال_سكاي




.. مفوضية الانتخابات العراقية توقف الإجراءات المتعلقة بانتخابات


.. الصواريخ «الطائشة».. الفاشر على طريق «الأرض المحروقة» | #الت




.. إسرائيل.. انقسام علني في مجلس الحرب بسبب -اليوم التالي- | #ر