الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حامد البازي.. في مقهى الزهاوي

وديع العبيدي

2011 / 12 / 9
سيرة ذاتية


الأستاذ حامد البازي شاعر وأديب ورسام ومؤرخ من مدينة البصرة، وقد غلبت عليه صفة المؤرخ مع تقدمه في السنّ، لاهتمامه بجمع وتوثيق التراث البصري، وقد أقام عدة معارض وثائقية لتسجيل وعرض تاريخ البصرة عبر الصور والأفلام والكتب. وهو عضو جمعية المؤرخين العراقيين والعرب، وحاصل على درع المؤرخ العربي.
كان يزور بغداد مرات عديدة خلال العام، سيما في فصل الصيف، هاربا من قيظ البصرة إلى هجيرة بغداد، وكان نزوله في بيت ابنته القاطنة في العاصمة، يلتقي أصدقاءه ومنهم بعض رواد مقهى الزهاوي. وكان حضوره يضفي أجواء جديدة على حياة المقهى، عابقة بأخبار البصرة وملاحظات المؤرخ ومستجدات الأيام.
سنواته تتقدم في السبعين. خطواته قصيرة مثل جمله المتأتأة. في عينيه قلق شارد، منشغل الذهن على الدوام، بفكرة أو شيء يستعجل في القيام به، أو شيء يتساءل في طريقة الوصول إليه. تقدمه في السن لا يمنع حيويته ونشاطه، وقلقه وتأتأته الناجمة من تزاحم الأفكار والكلمات في اللحظة، لا تخفي روحه الشبابية واهتماماته العصرية والحديثة.
يرتدي دائما بدلة (بيج) من قطعتين، وهندام أنيق مثل مذيع تلفزيوني. يغطي فروة رأسه (عرقجين) أبيض نظيف أو جديد على الدوام. لونه أسمر، وعيناه تشعان بطفولية سمحة. طوله لا يتعدى (1.7م) لكن انحناءة بسيطة في كتفه. يداه دائما أمام صدره يستخدمها أثناء الحديث، أو يضم بها كتابا أو صورة إلى صدره. له وجه مدور صغير، حليق الوجه والشارب. صوته خفيض لا يكاد يسمعه من لا يجاوره، أو يرهف السمع إليه. وفي صوته (خنة) من أثر ربو أو التهاب قصبات قديم.
صديقه المقرب إليه في المقهى هو الاستاذ عبد الرزاق السامرائي، غالبا ما يخرجان لانجاز مراجعات ادارية أو زيارات ثقافية معا. وصديق الاستاذ (ابي احمد) هو صديق أصدقائه بالنتيجة، يصل خيط الود بينهم ويتبادلون السؤال والاهتمام.
وللاستاذ المؤرخ ذاكرة حية وناشطة، يكتب وينشر باستمرار، ومعارضه التوثيقية تحظى باهتمام الصحافة والتلفزة سواء في البصرة أو بغداد. وكان له طموح توثيق كل منطقة من مناطق البصرة وطرز الحياة فيها قبل التغيير أو قبل التدمير، ولا أدري إلى أين وصلت جهوده وكيف آلت.
في النصف الأول من عام 1991 انقطعت أخبار الاستاذ حامد البازي، وساور القلق والأسئلة جميع محبيه وأصدقائه. وصار السؤال عنه يتخلل كل لقاء أو محادثة. زاد من وطأة ذلك انقطاع خطوط التلفون خلال الضربات الجوية الأمريكية لمدة أربع أسابيع. وكان الخوف أن تتسبب نوبة قلبية أو جلطة في غياب صديق حبيب ووحيد من أهل البصرة. ومع انعدام الوسيلة كادت الأسئلة تنتهي إلى صمت.
بعد مدة على نسيان الموضوع، بادرني أبو أحمد مستبشرا..
- عرفت..
- ايش..
- حامد البازي موجود
- صحيح.. مبروك.. هو وين
- عند بنته.. بس يرتاح شويه انشوفه..
عاد الأمل في رؤية صديقنا.. ولكن وتيرة الحياة والتجوال بين خرائب باب المعظم وأحيائها شبه المهجورة كان قد انعكس على نفوسنا واستتبع ملامح نفسية وفكرية واحباطات لم تكن بهذا السوء. حركة الشارع ليست كالسابق. والنفوس ضاقت، والأمل مات أو يكاد. اختفت محلات كثيرة. ناس كانوا هنا أو هناك اختفوا من مشهد الميدان والحيدرخانة. نسير من منطقة إلى أخرى في وسط بغداد، كأننا ننتقل من قرية إلى قرية أبعد عبر أرض مهجورة. هل حلّ يوم القيامة، هل مرّ.. أم هو في الطريق وهذه ملامح بداياته ...
اخيرا التقينا الاستاذ حامد البازي.. جاء في بدلته البيج و(عرقجينه) الأبيض كالعادة. لكنه هو لم يكن كالمعتاد. لقد تغير شيء فيه.. شيء في داخله. الكمد والأسى واضحان في هيئته، وجهه، عينيه، صوته. لم يتأخر كثيرا كالعادة. ولم يرغب في التجوال أو الذهاب إلى مكان ما لرؤية أحد. كان حزينا. مشروع الزواج الذي كان يداعب خياله بعد فترة ترمل طويلة التغى. وكان عليه أن يعود سريعا إلى البصرة. البصرة كانت خرابا مضاعَفا عشرات المرات في تلك الحرب. (مدينة المدن) و(ثغر العراق) تحولت إلى أرض قفر مهجورة. هجرها أهلها وسحقت القذائف والمجنزرات بيوتها وأحياءها وانمحت ملامحها التراثية. غرباء وسماسرة اشتروا بيوتها بسعر التراب والعوائل والمحلات الأصلية اختفت. حامد البازي كان في غاية الحزن، وكنا نخشى على قلبه من حزنه وأساه. كان يحاول توثيق الماضي من الضياع، فإذا بالحاضر يتعرض للدمار أمام عينيه. ربما تمنى وهو يشهد سقوط القذائف أن تكون له قوة فيزياوية خارقة تعيد القذائف إلى نحرها أو تحرف مسارها بعيدا عن مدينته التي استأثرت بفكره ووجدانه.
لندن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?غرب وا?طرف الخناقات بين ا?شهر الكوبلز على السوشيال ميديا


.. عاجل | غارات إسرائيلية جديدة بالقرب من مطار رفيق الحريري الد




.. نقل جريحتين من موقع الهجوم على المحطة المركزية في بئر السبع


.. سياق | الانقسام السياسي الإسرائيلي بعد حرب 7 أكتوبر




.. تونس.. بدء التصويت لاختيار رئيس الدولة