الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة ... والثوار ... والثيران

عادل بشير الصاري

2011 / 12 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


من حق المواطن الليبي الذي تابع على مدى اثنتين وأربعين سنة أفعال الثائر الأممي معمر القذافي وأفعال عياله من رعاع اللجان الثورية أن يتساءل ببراءة ، ما الثورة ؟ .
هل الثورة في الميدان السياسي تعني حقا ـ كما يقول المنظرون لها والقائمون بها ـ التغيير الإيجابي لمختلف مناحي الحياة ؟ .
هل الثورة هي التقدم والتحضر والحرية والاستقلال والرخاء ؟ .
إننا لو أخذنا بهذا المعنى فإن القذافي لا يعد ثوريا ، بل هو رجعي موغل في رجعيته ، لأنه بسياساته الهوجاء أرجع ليبيا إلى قبل مرحلة الاستقلال 1951 م .
إننا لا يمكن أن نصف ما قام به القذافي على مدى سني حكمه العجاف بأنه ثورة أي تفدم وتغيير إيجابي ، فهو ردة ونكوص إلى الوراء ، وفوضى اتخذت لها طابعا رسميا ، فقد كان مهرِّجا سياسيا يمثِّل بامتياز على المسرح السياسي العربي والدولي .
أين الثورة التي طالما عرَّفها القذافي وعياله بأنها الحرية والعدالة والسعادة والازدهار الذي سيحيل ليبيا إلى فردوس أرضي ؟ .
هل الثورة في المصانع العاطلة والمشاريع الزراعية الكاسدة ، أم في المدارس والجامعات والمستشفيات والطرق المتهرئة ؟ .
هل الثورة في إحياء النعرات القبلية ، أم في شنق طلاب المدارس والجامعات ؟ أم في إلهاء شعب بكامله بالبحث عن ضرورات الحياة ؟ .
هل الثورة في الدعوة إلى مجتمع بقوم على نظام الكومونات والمقايضة والمناوبة الشعبية وباقي أنماط الحياة في عصور ما قبل التاريخ والعصور الوسطى ، أم في إلغاء تعليم اللغة الإنجليزية ، وإحراق الكتب والمكتبات ومحفوظات التسجيل العقاري ، وتكسير الآلات الموسيقية ؟ .
هل الثورة في الإمساك عن بناء مؤسسات الدولة العصرية ، أم في الإنفاق بسخاء على المنظمات الإرهابية والمجرمين والقتلة ؟ .
أين الثورة ، وماذا تعني هذه الثورة ؟ .
لا خلاف أن المفهوم العام لكلمة ( ثورة ) هو التقدم والتغيير والتطوير ، ويشمل جميع مجالات الحياة ، ولقد استفادت البشرية أيما استفادة بفعل الثورة الصناعية والزراعية والطبية والتكنولوجية والأدبية والفنية ، لكنها لم تستفد من معظم الثورات السياسية والانقلابات العسكرية سوى الفوضى والتدمير والخراب ، لذلك غدا مفهوم ( الثورة ) في المجال السياسي ذا دلالة سلبية ، بحيث إذا ذكرت كلمة ثورة وثوار يستحضر الذهن فورا صورة الثيران الهائجة المنفلتة من عقالها ومرابضها، وهي تحطم كل شيء يصادفها .
وهذه الدلالة السلبية لطالما جسدتها سلوكيات الثوار عندنا في ليبيا ، حيث غلب على سلوك رعاع اللجان الثورية التهريج والنزق والهيجان والإثارة والتطرف ، وهو سلوك تم رصده بالعين المجردة في الميادين العامة وهم يسحلون ويمثلون بجثث قتلاهم من معارضي القذافي ، وتم رصده أيضا في المهرجانات والمسيرات والمظاهرات ، فهم إذا خرجوا لها شرعوا في القفز والتصفيق والزعيق والصراخ بالأناشيد والهتافات والشعارات الرنانة ، وفي الرقص والتطبيل والتزمير ساعات حتى يغيب بعضهم عن وعيه .
وبعض من هذا التهريج الثوري استورده ثوار القذافي من ثوار عبد الناصر الذين شبَّه تجمعاتهم الكاتب التونسي حسين المغربي ، فقال : (( كأنها حلقات الذكر التقليدية التي كانت شائعة ، تدور في جو صاخب ، بين الاهتزاز والهدير ، وتمس كل مقترب من الحلقة بطائف من الهوس المأخوذ المرتعش ، وفي غمرة من ذلك يصبح جائزا دق الدبابيس وهرش الزجاج وبلع المسامير )) .
شاع استخدام كلمة ( ثورة ) خلال القرن الماضي في كتابات عدد من المفكرين القوميين واليساريين والشيوعيين مثل : ميشيل عفلق وسلامة موسى ولويس عوض وكلوفيس مقصود وانطوان سعادة ومنيف الرزاز ، فقد أعلن هؤلاء في كتاباتهم أن العالم العربي لكي يلحق بالغرب بحاجة ماسة إلى ثورة شاملة تكتسح مخلفات الماضي على غرار ما حدث في تركيا .
يقول الكاتب اللبناني جميل المعلوف في (( ولا بد أن يعقب هذا الانقلاب السياسي الصغير ــ يقصد انقلاب مصطفى كمال أتاتورك على الخلافة الإسلاميةـ ثورة أدبية ضد المبادئ القديمة ، فيثور الابن على أبيه ، والمرأة على زوجها ، والخادم على سيده ، والرعية على كاهنها وشيخها ، ورجال الدين على كتبهم )) .
كذلك كان لجمال عبد الناصر وإعلامه دور كبير في انتشار كلمة ( ثورة ) على الألسنة وفي الإعلام المقروء والمسموع والمرئي ، فقد كان زعيما شعبيا يكثر من استخدامها في خطبه ليستميل بها أفئدة الجماهير المتعطشة للتغيير، ثم خلف من بعده القذافي ، فكان أسوأ خلف ، حيث توسع في استخدام الكلمة ، بحيث سمى ووصف بها أفعالا وأشياء كثيرة ، ومنذ انقلابه المشئوم سنة 1969 م ترددت في إذاعاته وصحفه مصطلحات من مثل : الإنسان الثوري ـ الفكر الثوري ـ المثقف الثوري ـ الفلاح الثوري ـ الطالب الثوري ـ الأدب الثوري ـ الإعلام الثوري ـ التحالف الثوري ـ الأخلاق الثورية ـ المناهج الثورية ـ الأنظمة الثورية ..
كما ترددت كلمة مقابلة لكلمة الثورة هي كلمة ( الرجعية ) ، وبدأ الليبيون يسمعون القذافي وأبواقه يعلنون سخطهم عن : الإنسان الرجعي ـ التحالف الرجعي ـ النظام الرجعي ـ السياسة الرجعية ـ الثقافة الرجعية .. إلخ .
غير أن للرئيس المصري الأسبق محمد نجيب مفهوما مغايرا للمعنى الشائع لكلمة ( ثورة ) ، فقد ذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل أن الرئيس أصدر تعليماته إلى الصحفيين ورجال الإعلام بعدم استخدام كلمة ( ثورة ) في كتاباتهم والاستعاضة عنها بتسمية حركة الجيش المصري ، لأنها في نظره (( وحشة أوي وهتبهدل الدنيا وهتسبب فوضى وهتدمر الاستثمار الأجنبي في البلد )) .
ولا شك أن مفهوم محمد نجيب لكلمة ( ثورة ) يعد في حينه غريبا ، حيث كانت الدلالة السائدة في أذهان الناس أنها تعني تغيير نظام الحكم بوساطة الجيش، لأجل الخلاص والتحرر من سيطرة الأجنبي ومن الإقطاعيين والمستبدين ، ويبدو أن نجيبا كان يشير إلى سلسلة الفتن والاضطرابات والجرائم التي ارتكبها الثوار في كثير من دول أوروبا إبان القرن الماضي .
كذلك فإن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي حين قام بانقلابه الأبيض في السابع من نوفمبر 1987 م على الرئيس الحبيب بورقيبة آثر استخدام كلمة ( تغيير) ، ولم يستخدم قط كلمة ( ثورة ) ، والحق أن الأولى أكثر تهذيبا من الثانية ، وأقل استفزازا .
اعتقد أن كلمة ( ثورة ) لم تعد تصلح لأن تقع اسما أو وصفا لجميع أوجه النشاط الإنساني ، فإن تسمية أو وصف حركة من حركات الإصلاح السياسي أو الديني أو الاقتصادي أو الاجتماعي بالثورة يعد إساءة لها ، ولا أرى مكانا مناسبا لهذه الكلمة سوى انتفاضات الشعوب ضد الطغاة والجبابرة والمحتلين ، فمن المناسب جدا أن يُطلق ـ مثلا ـ على انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الصهاينة المحتلين بأنها ثورة ، لأن المعانى اللغوية للكلمة في هذا المقام مثل : الهيجان والغضب والتمرد والتطرف تكاد تكون مطابقة لمقتضى الحال ، لكن لا تكون كذلك إذا وصف بها برنامج حكومة أو حركة إصلاح ديني مثلا .
إن ما يجعل وقع كلمة ( ثورة ) ثقيلا على النفس وموجعا أشد الإيجاع هو جرائم الثوريين ـ وبخاصة العسكريين منهم ـ التي ارتكبوها في حق شعوبهم ، فهم قد فككوا وحدة الأمة باسم القومية العربية ، وخنقوا الحريات وأعدموا معارضيهم باسم الحفاظ على حرية الشعب ، ونشروا الفقر والحرمان والبؤس بين طبقات شعوبهم باسم المساواة والعدالة والاشتراكية ، ودمروا البنية الثقافية والخلقية للمجتمعات باسم محاربة الفكر الرجعي .
لقد قامت في كثير من دول العالم ثورات ، ففي روسيا قامت الثورة البلشفية ، وفي ألمانيا الثورة النازية ، وفي إيطاليا الثورة الفاشستية ، وفي تركيا الثورة الكمالية وفي مصر الثورة الناصرية ، وفي ليبيا الثورة الشعبية فهل استفادت الشعوب في هذه الدول سوى الفوضى والإرهاب والفساد على اختلاف صوره ؟ .
لقد تفككت أوصال الاتحاد السوفيتي إلى دويلات هزيلة تشحذ الطعام من أوروبا وأميركا ، وكانت النازية نكبة على ألمانيا وجيرانها ، فبسبب أطماع الثائر هتلر قتل الملايين هدرا وشطرت العاصمة برلين إلى شطرين ، وبسبب ثورية الفاشست احتل الحلفاء روما القيصرية ، وبسبب نزق الثوار الأتراك محيت تقريبا معالم الإسلام في تركيا ، وفي عهد الثورة الناصرية احتلت إسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية ، وفي عهد ثورة القذافي دُمرتْ مؤسسات الدولة التي أنشأها العهد الملكي ، كما تهتك النسيج الاجتماعي تهتكا مريعا ، وغدت ليبيا وجها شاحبا ، ذهبت نضارته ، وجف ماؤه ، وجسدا ينتفض أوجاعا في لحظات النزع الأخيرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من المفاوض المصري المتهم بتخريب المفاوضات بين حماس وإسرائيل؟


.. غزة: ما الجديد في خطاب بايدن؟ وكيف رد نتنياهو؟




.. روسيا تستهدف مواقع لتخزين الذخيرة والسلاح منشآت الطاقة بأوكر


.. وليام بيرنز يواجه أصعب مهمة دبلوماسية في تاريخه على خلفية ال




.. ردود الفعل على المستويات الإسرائيلية المختلفة عقب خطاب بايدن