الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في دارة المنولوجست عزيز علي

وديع العبيدي

2011 / 12 / 12
سيرة ذاتية


على العارضة اليمنى لباب بيت في منطقة العامرية من جانب الكرخ من بغداد، لوحة معدنية فضية اللون مثبتة على خشبة من نفس اللون كتابة بخط فارسي رفيع المستوى تحمل اسم (عزيز علي). ذلك هو بيت الاستاذ المنولوجست المشهور والأثير إلى نفوس كثيرين، وأحد رموز مرحلة كاملة، بل أبرز رمز عراقي فضح الانجليز وسياستهم في العراق على مدى العهد الملكي، أي في أوج ربيعهم.
عند قرع جرس الباب الخارجي، كان الذي فتح الباب هو الاستاذ عزيز علي بنفسه. شاب في السبعين، ناصح الجسم، وجه مبتسم حافل بالأمل أو بالفرح، يكاد يقاربني في الطول (1.65م). استقبلني مصافحا وأنا أضع قدمي على عتبة الباب الداخلية وأقدم له نفسي، بقيت أصابعه تشدّ على يدي وهو يقول ويكرر.. إياك أن تشتهر.. إياك أن تشتهر.. بسبب الشهرة شهد علي ناس لا أعرفهم وقضيت ثلاث سنوات في سجن العمارة بسبب الشهرة.. إياك أن تشتهر.. الشهرة لعنة..
كانت تلك أول مرة ألتقيه فيها.. ولم أكن أحلم أنني سوف ألتقيه ذات يوم.. في طفولتي سمعت أغانيه ومنولوجاته.. وسمعت اسمه والناس يذكرونه ويشيدون به.. يتحدثون عن البستان والسفينة وأهل الفن.. وكأنها منشورات سرّية.. عندما التقيته يومها.. لم يدر بخلدي شيء من منولوجاته وما سمعته عنها. كنت أتعرف عليه للتوّ. وأستمع إليه شخصيا كلمة كلمة وأحاول استيعاب شخصه وشخصيته.. التي رسمت تلك الصورة التي بقيت تهدد الحكومات والأنظمة.. اسمه كان تهديدا بحد ذاته.
نشأ في عائلة بغدادية محافظة، وكان متفوقا في الدراسة، حتى أكمل المدرسة الثانوية. وكان يتمنى اكمال دراسته الجامعية، لكنه اضطر للعمل. وكان عمله محاسبا لدى تجار البتاويين. وكانت مقاليد التجارة يومذاك في أيدي اليهود.
عرف عنه حسن أدائه الغناء، وعند افتتاح الاذاعة دعي لتقديم أغنياته، وكان رافضا للفكرة في البدء. ولكنه عند اقتناعه رأى أن يقدم شيئا جديدا، شيئا مفيدا ليس من الشائع والمتعارف. فنظم بعض أفكار كانت تراوده وقدمها من دار الاذاعة العراقية فلقيت استحسانا وقبولا، مما شكل له حافزا للاستمرار بنفس النمط. وصارت اغنياته موضع أحاديث الناس في كل مكان، ورأت السلطات أنها تشيع بلبلة لما فيها من أفكار. وحاولوا منعه من الغناء مدة، فاشتدّ طلب الناس لأغانيه، وقيل له يومها.. أن يعود للغناء مع تغيير لأفكاره وتجنب التعرض لسياسات الحكومة. ولكنه رفض التدخل الحكومي في فنه. وعندها بدأوا في مطاردته واصطناع تهم تقوده للسجن. وعندما كان في زيارة لمدينة العمارة تعرض للاعتقال، وحاكموه باستخدام شهود زور، وأودع السجن.
كان الاستاذ عزيز علي مناوئا للحكم الملكي، ورافضا للاحتلال والتدخل الانجليزي في مقاليد البلاد، وكان اليهود وضعوا أنفسهم في خدمة السياسة الانجليزية، فاستخدم الفنان فنه للتعبير عن أفكاره والتعبير عن مشاعر ومطاليب الفئات الشعبية الواسعة. وفي أعقاب حركة 1941 التحررية ضاق صدر النظام الحاكم وزاد التضييق على الحريات الفكرية والصحفية وملاحقة مسببي الشغب، ومفهوم الشغب يعني استثارة الناس ضد الحكومة.
ان منلوجات الاستاذ عزيز علي الفريدة واليتيمة مدينة لفسحة الدمقراطية واحترام حرية الرأي والتعبير يومذاك. وغيابها من وسائل الاعلام لاحقا دالة انعدام حريات الرأي والتعبير. فالحكم الجمهوري الذي رأى نفسه ضدا لسياسات الحكم الملكي، استمر في منع منولوجات عزيز علي ومطاردة صاحبها.
في أيام حرب الثمانينيات استشهد أحد أبناء الاستاذ عزيز علي وحصلت حركة تدخلات من البعض للتوسط في اطلاق سراحه مع تقدمه في السنّ. أي توقف نشاطه الفني وتقاعده الثقافي. وهو في بيته ذاك كان يعيش وحيدا منعزلا عن حركة الحياة لولا أشخاص محدودين يهتمون به وباحتياجاته. ولم تكن زيارتنا اليتيمة له تلك في أواخر الثمانينيات بدون إذن المقربين منه.
لو لم يكن عزيز علي منلوجستا لكان شاعرا وأديبا مميزا. ذلك ما استشففته من حديثه العميق والواسع، وتناول موضوعات متعددة ومهمة. ولا يخفى أنه عاش في ألمانيا ويجيد لغتها، ويكشف حديثه وطريقة تحليله وطرقه للأمور عن ثقافة واسعة وعقلية غير تقليدية نادرا ما صادفتها في العراق حتئذ. ومنذ الأربعينات كانت له مساهمات في الشعر الحديث، متأثرة بالياس أبي شبكة وعمر ابي ريشة، ومن آثاره الشعرية تلك قصيدة خطرت له وهو يتمشى على ضفة دجلة، فتجسدت له بغداد الحضارية في صورة فتاة (حورية) تخرج من الماء وتخاطبه، فيستذكر مآثرها وجمالها ويندب لما آلت إليه على يد الزمان (المعاصر). وذكر أن شاعرة تعد اطروحة دراسات عليا كان من المؤمل أن تدرس تجربته لكنه لم يسمع عنها شيئا. وقد أشرت إلى تجربته في اطار دراستي النقدية عن شعر يوسف عزالين التي صدرت في القاهرة (1993).
أما الأمر الآخر الذي توقف عنده، فهو موضوع القيم الخلقية، ومنها أخلاق الفنان أو المبدع، والتي تشكل أساس مفهوم الالتزام. ولمح خلال ذلك إلى العلاقة المتوترة بينه وبين الفنان محمد القبانجي، والذي سبق له زيارة ألمانيا كذلك. ويستخدم ظاهرة المقهى للمقارنة بينهما. يؤكد الاستاذ عزيز علي أنه لم يجلس في مقهى في حياته، وانه عندما يمرّ من أمام مقهى يشعر أن كعبي قدميه او ركبتيه تصطفقان خجلا. فيما كان الفنان محمد القبانجي من جلاس المقاهي، وكان يقدم أغنياته والمقام العراقي في عدة مقاه. وهو يعتبر هذه الظاهرة سببا في انحطاط مستوى الغناء في العراق. وعلى رغم تصنيف المقاهي الواضح ووجود مقاهي ثقافية أو تراثية أو فنية، فأن ملاحظة الاستاذ الفنان ليست عديمة الأهمية، إذا اعتبرنا ما وصلت إليه الأغنية العراقية في الثمانينيات بما فيها المقامات التي افترض ان تبقى لها مكانة مرموقة كجانب رمزي للتراث الوطني.
وهذا يقود لسؤال.. لم لا تتوفر بغداد وبقية مدن العراق الكبرى على قاعات لتقديم فنون الموسيقى والغناء أسوة بالمسارح وقاعات الفنون التشكيلية، والبدء بتغيير النظرة الاجتماعية للفن وأهله؟..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عزيــــــــــــــــــــز علي
عبدعلي ( 2012 / 2 / 14 - 17:02 )
ان ظاهرة عزيز علي لتحتاج الى توقف وتامل لما لهذا الفنان من قيمه فنية زاحرة بالفن الاصيل والكلمه السيف التي جلجلت عروش الظالمين

اخر الافلام

.. ا?غرب وا?طرف الخناقات بين ا?شهر الكوبلز على السوشيال ميديا


.. عاجل | غارات إسرائيلية جديدة بالقرب من مطار رفيق الحريري الد




.. نقل جريحتين من موقع الهجوم على المحطة المركزية في بئر السبع


.. سياق | الانقسام السياسي الإسرائيلي بعد حرب 7 أكتوبر




.. تونس.. بدء التصويت لاختيار رئيس الدولة