الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غياب ثقافة اللامركزية

محمد محبوب

2011 / 12 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


وباء التسييس هو الأخطر اليوم في العراق حيث يكاد يفتك بمستقبل هذا البلد الذي يقف على كف عفريت وهو يستقبل عاما جديدا خاليا من اليانكي ، كل شيء في هذا البلد جرى تسييسه أو أنه متهم بالتسييس ، بدءا من الدستور الى القضاء ، الحج ، الدين ، الجيش ، النقابات ، التعليم ،الثقافة ، الفساد ، أجتثاث البعث ، العشائر ، الأعلام وأخيرا تشكيل الأقاليم.
وفي العادة يلجأ المختلفون الى تسييس الأختلاف عندما لا تتوفر رغبة حقيقية في الحوار للتوصل الى رأي موحد ، وهنا يستخدم الفرقاء وسائل غير مشروعة وبعيدة عن الممارسة الديمقراطية بهدف تركيع الخصم وتحقيق أهداف لاتنسجم مع المصلحة العامة ومن وسائل تسييس الأختلاف تحريك الشارع واللعب بعواطف الناس يمينا وشمالا.
أطراف الحكومة والكتل السياسية والمكونات القومية والطائفية تتبادل أتهامات التسييس كل يوم ، والشارع العراقي صار منقسما على هوى الولاءات ، أو ساخطا متذمرا من شراسة الفساد وسوء الخدمات وعقابيل التسييس ، ملفات في غاية الأهمية مثل الفساد يتم تحريكها وتداولها لا بصورة مهنية أداريا وقضائيا ، بل وفقا لأجندات سياسية لأغراض الضغط السياسي ، والأخطر من ذلك أن قضية خطيرة مثل الأرهاب يجري تداول ملفاتها على هذا السياق ، كما حدث في الكثير من الحالات التي تابعها الجمهور العراقي.
تسييس الدولة والمجتمع يشل عمل الحكومة ويعطل برامجها في البناء وتقديم الخدمات للمواطن ويمكن أن يقود البلد الى الكارثة ، ولعل التوترات الأخيرة التي برزت الى السطح بسبب الدعوات لتشكيل الأقاليم والتي كانت هي الأخرى مسييسة تمثل أحدى وسائل تسييس الأختلاف بين الفرقاء.
الملفات التي أشرنا أليها ومن بينها صلاحيات المحافظات أو الأدارات المحلية وغيرها كان يمكن أن تعالج بطريقة مهنية أذا ما خلصت النيات للوطن ، كان من المفروض على دولة يجيز دستورها تشكيل أقاليم أن تبدأ مبكرا بنشر ثقافة اللامركزية في الأدارة مصحوبة بخطوات حقيقية على طريق منح مزيد من الصلاحيات الأدارية الى المحافظات والأقضية والنواحي والمجالس البلدية في مجالات الصحة والتربية والنعليم والبلديات والأسكان والأمن الداخلي وغيرها من الملفات ذات الصبغة المحلية.
لكن الغريب أن الدولة العراقية الجديدة التي ينص دستورها على أنها (فدرالية أتحادية) بدأت تسير على طريق الدولة المركزية وحصل تداخل واضح في الصلاحيات بين الحكومة والأدارات المحلية في المحافظات.
تضع العديد من المحافظات تجربة كوردستان نصب عينيها عند المطالبة بتشكيل أقاليم لها وفي هذا الأمر لبس كبير ، حيث ان كوردستان من الناحية العملية ليست أقليما فدراليا ، أنما هي دولة مستقلة ترتبط بعلاقة كونفدرالية أتحادية مع العراق ، لها دستورها وقوانينها الخاصة بها وليس لسلطة الحكومة الأتحادية أي حضور في المحافظات التابعة لكوردستان ، بل أن هذا الحضور يبدو شاحبا حتى في مايسمى المناطق المتنازع عليها مثل محافظة كركوك، وأن كانت حكومة كوردستان تحاول أن تتماشى مع الدستور العراقي فأن ذلك يكون بقدر ما تنسجم مصالحها معه ، وفي كثير من الأحيان لا تمتثل لقرارات الحكومة الأتحادية.
أن الزعماء الكرد يؤكدون دائما على قضية مهمة بالنسبة لهم وهي العلاقة الأتحادية الطوعية بين كوردستان والعراق مع الأحتفاظ بحق تقرير المصير وأعلان دولتهم المستقلة في الوقت الذي يرونه مناسبا ، وهذا يؤكد ماذهبنا أليه عن طبيعة الرابطة الكونفدرالية الأتحادية الرجراجة التي أنبثقت بعد عام 2003 بين دولتي العراق وكوردستان.
ما أردنا أن نقوله ، أنه ليس للمحافظات العراقية أ ن تضع تجربة كوردستان مثالا لها ، أذ لا يوجد مجالا لمقارنة بين الحالتين ، كوردستان كانت تتمتع بوضع دولة مستقلة منفصلة عن العراق من الناحية العملية قبل عام 2003 ، وأن كانت تتلقى حصتها من قبل الأمم المتحدة ، طبقا لبرنامج الغذاء والدواء مقابل النفط ، ثم أرتبطت مع العراق (أؤكد من الناحية العملية) بما يمكن وصفه علاقة أتحادية بين دولتين (علاقة كونفدرالية) وان كانت علاقة علاقة مأزومة على الدوام.
المحافظات العراقية كانت ولازالت حتى الآن تمثل وحدات أدارية ضمن دولة واحدة موحدة لها حكومة مركزية تدير وزاراتها بصورة مباشرة الخدمات والمشاريع في أنحاء العراق (عدا كوردستان) من خلال فروعها وأداراتها ، وتخضع المحافظات لسلطة وقرارات الحكومة المركزية في المجالات كافة وهي حالة تختلف كليا عن الوضع في كوردستان.
ومن هنا فأن المحافظات العراقية ـ أذا ما أختارت النظام الفدرالي ـ فهي في الواقع تتوجه نحو نوع من نظام اللامركزية في الأدارة وهو النظام الأداري المتبع في ألمانيا الأتحادية ، على سبيل المثال ، الدولة التي كانت خاضعة لنظام دكتاتوري مركزي صارم كما كان الحال في العراق ثم أختارت النظام الفدرالي وتوزعت الى ستة عشر أقليما ، وحكومات هذه الاقاليم تطبق أسلوب الأدارة اللامركزية في العلاقة مع المدن الكبيرة والصغيرة التابعة لها علما أن الدستور الألماني يمنع اية نزعات أنفصالية لدى الأقاليم الستة عشر ـ التي أن ظهرت على سبيل الأفتراض ـ فأن ذلك يعد خرقا للدستور تترتب عليه عواقب وخيمة ضد الأقليم المتمرد.
أذكر مثال هنا على طبيعة العلاقة بين الحكومة الأتحادية الألمانية وحكومة الأقليم (المقاطعة او الولاية) في مجال أعتقال المطلوبين في قضايا الأمن والأرهاب ، لا تحتاج الأجهزة الأمنية الأتحادية الى موافقة حكومة الأقليم ، حيث تستطيع هذه الأجهزة الأتحادية ألقاء القبض على المطلوبين في اية بقعة أرض ألمانية ولاسيما في قضايا حساسة مثل الأرهاب التي تتطلب سرية خاصة ، ولهذه الأجهزة الأتحادية أن تقدر مدى حاجتها للدعم أو من عدمه من قبل أجهزة الأمن والشرطة المحلية التابعة لوزارة داخلية الأقليم في تنفيذ المهمات.
وبالتالي ليس لحكومة المحافظة أو حتى الأقليم أن تطالب أجهزة الأمنية الأتحادية بتسليمها قوائم المطلوبين في قضايا مثل الأرهاب لتقوم أجهزتها المحلية بجلب أولئك المطلوبين ، التعاون والتنسيق هنا أمر تقرره الأجهزة الأمنية الأتحادية وفقا لما تملية المصلحة العامة للبلاد ، وذلك لا ينطبق بالطبع على القضايا الجنائية العادية التي تقع ضمن أختصاصات الأجهزة المختصة ضمن حكومة المحافظة أو الأقليم لاحقا.
هذه القضية ينبغي أن تعالج بعيدا عن السياسة ، هي مسألة حكم محلي وأدارة ذاتية وتوزيع أمثل للسطات والهدف من كل ذلك تقديم أفضل الخدمات الى المواطن ، وذلك لن يحصل عن طريق الأنقلابات والقرارات الفوقية المتسرعة ، أنما يجب التأسيس والتثقيف لهذا النظام الأداري اللامركزي الفدرالي بدءا من القرية والناحية ثم القضاء ، أذ لا معنى لوجود أقليم يزعم في دستوره أنه لامركزي فدرالي في علاقته مع الحكومة الأتحادية ، لكنه يمارس المركزية الصارمة في علاقته مع الأقضية والنواحي والقرى التابعة له وهو ما يحصل في كوردستان مثلا.
اللامركزية ثقافة وأسلوب حياة وأدارة تبدأ من الوحدة الأدارية البسيطة وصولا الى قمة الهرم الأداري في الدولة وهو مناخ غير متاح حاليا في العراق ولا تتوفر نوايا حقيقة من أجل ذلك ، الكورد حصلوا على حقوق قومية سياسية ، حصلوا على دولة قومية مستقلة من الناحية العملية ثم أرتبطت هذه الدولة مع العراق بعلاقة كونفدرالية أتحادية طوعية ، وذلك لايعني ان كوردستان تطبق النظام الأداري اللامركزي بل العكس تماما حيث أنها لا زالت تتبع نظاما مركزيا صارما في الأدارة المحلية في المدن والأقضية والقصبات التابعه لها.
أذا مانجحت على سبيل المثال محافظة مثل صلاح الدين في تطبيق نظام الحكم اللامركزي في العلاقة بيت الحكومة المحلية في تكريت وبين الأقضية والنواحي والقرى التابعة لها مثل سامراء وبلد والدجيل ، نكون عند ذلك فهمنا المعنى الحقيقي لقضية الفدرالية والأقاليم ، لكن للأسف نحن في عموم البلاد بما ذلك كوردستان في واد ونظام الحكم الفدرالي اللامركزي في واد آخر، وأذا ما أتيح لحكومة صلاح الدين أو غيرها أعلان تفسها أقليما ، فأنها سوف تواصل تطبيق نظام حكم مركزي صارم في علاقتها مع الأقضية والنواحي.
أعتقد أن الدعوات التي تطالب اليوم بتطبيق نظام الأقاليم تنطلق من طموحات سياسية لدى البعض وغير جادة بتبنيها للمنهج اللامركزي في أدارة الدولة بدليل أن المحافظات العراقية وكذلك حكومة كوردستان لازالت تواصل أتباع مركزية متشددة في العلاقة مع الأقضية والنواحي والدوائر الحكومية التابعة لها.
فضلا عن ذلك فأن تأسيس أقاليم بعدد المحافظات العراقية هو أمر سيرهق ميزانية الدولة كثيرا ، حيث سوف يكون لدينا ست عشرة حكومة أقليمية بضمنها حكومة كوردستان ، وذلك يعني رئيس وأعضاء برلمان ورئيس أقليم ورئيس وزراء ووزراء ومزيد من الحلقات الأدارية التي سوف تصنع فضاءا حكوميا فضفاضا متسربلا وسوف يزيد ويعقد ظاهرة البطالة المقنعة بين المسؤولين الحكوميين ويضيف أعباءا جديدة على كاهل المواطن.
الحل الأمثل قي رأينا المتواضع هو وضع خارطة طريق أمام الأدارات الحكومية للتنمية والتطور بأتجاه تطبيق نظام اللامركزية في عموم العراق بدءأ من أصغر وحدة أدارية في الناحية والقضاء وحتى قمة هرم السلطة ، وأذا ما قطعنا شوطا على هذا الطريق وتكونت خبرات لدى مسؤولي وموظفي الحكومة وشاعت ثقافة اللامركزية الأدارية بين المواطنيين ، ستكون حلقات التطور أنسيابية وسلسة ومفتوحة نحو تشكيل الأقاليم في البلاد لاحقا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سودانيون يقتاتون أوراق الشجر في ظل انتشار الجوع وتفشي الملار


.. شمال إسرائيل.. منطقة خالية من سكانها • فرانس 24 / FRANCE 24




.. جامعة أمريكية ستراجع علاقاتها مع شركات مرتبطة بإسرائيل بعد ا


.. تهديد بعدم السماح برفع العلم التونسي خلال الألعاب الأولمبية




.. استمرار جهود التوصل لاتفاق للهدنة في غزة وسط أجواء إيجابية|