الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهر يعد الى السماء

سمير عبد الرحيم أغا

2011 / 12 / 14
الادب والفن


يمر من هنا من أمام بيتنا كل صباح ومساء ، مثل أضواء المصابيح ، له ذكريات ولدت كما يولد الناس ، له أسرة و أخ وبيت كثير النوافذ والأبواب ، سواعد أجدادي تعصر من نبعه ، وآبائي يرثون مياهه ، يمر على أكف الهموم .. يلقي السلام سريعا، أنا لا أراه حين ينظر خلسة هو هادى وأنا كذلك. هو طفل يمشي في الأسواق يرتدي قميصا واسعا ومخططا ، وربما كانت له لمسة حساسة للحب الذي يسبق المطر ، والقمر يخوض بين ضفتيه ، جذوره قبل ميلاد الزمان وقبل السرو والزيتون وقبل ترعرع العشب ، في بيتنا صورته ترنو إلي كل يوم ولا تكف عن السؤال ، يقضي أوقات الظهر بكاملها وهو يتأمل المطر ، على ضفته اليمنى بالتحديد ، تقع قريتنا كقصيدة حلم .. مقابل أشجار الصفصاف ، يجري من الشمال إلى الجنوب...كجسد من البلور ، تصافح عيناه كل الطرقات والجرار( والغروب في الشجر ) ، كل شيء حوله يؤكد معاني الحياة ، هذا كله وأشياء أكثر ، صدقته في ذلك اليوم الذي أدركت أنه يغض النظر عن عالم هدوئه وغضبه ، كائن أنساني بالكامل ، أعرفه كما أعرف أخوتي ...كانوا معه يلعبون ويغلبون .
كما لو أن عصفورا ضمد النسيان ، يكتم فيضان ألمه، ينادي كل واحد في القرية باسمه ، أبي ، جبار الكارخ , حجي سلمان . يوسف ، وعاشور ، وغيرهم. كلهم ماتوا على أكتافه، يتحدث اليوم من خلال الدموع، حين نجلس على ضفته الموازية لبيوتنا، نغنى كما لو أنه أمامنا، شيد حياته من ممر طويل، لا أصدق أنه كان نهرا جميلا له طفولة.. يحملني وأحمله، وأساطير خضراء تحت الغيم، بدا كما لو أن ألمه يسعى إلى كل القرى، يتعثر.. يدور حول نفسه، يتنفس يتحسس طريقه.. معتمدا على مائه الدافق، يجلس الساعات أمام بيوتنا، فيغطي وجهه بالمطر. يرسم خارطة الربيع للناس ، هو جدول الأحزان في أعماقنا تنمو كروم حوله وغلال ، وهو من أغلى وأوفى الأصدقاء وهو الذي يبكي على صدري إذا بكت السماء ، شاغل الدنيا .. وحبيب كل غابات النخيل،
يتمتم بصوت كالرعد
أين طفولتي ؟
نلعب أطفالا وسط الدار دون أن نتكلم، نغسل وجوهنا بالندى، طفولتنا تحمل عمرا واحدا، هو أكبر منا عمرا وطفولة، يجب أن نتكلم معه. كأنه يرغب أن يظل وحيدا في مكانه، ينظف ضفتيه من الإعشاب، ربما يبدو انه الشيء الأخير الذي سيبقى من تحوله الجديد إلى كتلة أسمنتية ضيقة. في العصر بينما نحن نلعب عقب الدرس ، نفكر في النهر ، وكيف سيلغى ’ ويتحول إلى نهير صغير أسمنتي ، نفكر في حاله كل يوم ، ألان الأمر مختلف ، فقد أنقلب رأسا على عقب ، سيكون قطرة صغرى ببستاننا ،
قال بألم وحسرة :
لن أعود كما كنت نهرا
سوف لن نعرفه... أنه الموت الذي يصرخ به، تمعنت الخبر، كنا نتخيله هنا في منامنا... يسمع سرعة الريح، يسمع ( صليل ألاف العصافير على الشجر) وهو عاجز عن سماع الحلول التي لا حصر لها، وهي تقيس إيقاع أنينه وهو يذوب يوما بعد آخر ، إيقاع تحوله إلى كتلة اسمنت ، قلنا معا : اليوم حين يطبق الموت عليك، لا نرغب في سماع ذاك، لو كنت أعرف ما أريد.. ما جئت ملتجئا إليكم كهرة مذعورة ، ، نتأمل فيما تساقط من عمرنا، الحمامة تبحث عنه في النهار ثم تعبر صف النخيل... و في آخر الليل تنوح :
.. وين نهري.. وين أختي
في زمن مضى لم أدرك منه إلا آخره , كان أكبر حقيقة في القرية , في هذا اليوم بالذات كان جالسا معنا , يرى ما يرى , هروب العصافير عند الغروب ، يضيء خضرة المياه والشجر ، يتنهد ... فتلتف يداه حولي ، صدقت ما قاله ( جبار الكارخ ) قبل سنين : كان نهرا صديقا طيب القلب ، خجولا، ، يشعر بالبرد ، والأبواب التي يفتحها جبار الكارخ في آخر الليل حول الحقول والبساتين ، كل شيء ظل على حاله .. فالمكان يبدل أحلامنا
يريد أن يكون سيد الأنهار , لو سرى الماء في كيانه مثل ما كان , ما أوسع الأرض يقول : كل البساتين من صنع كفي ، كنا أطفالا على حافة النهر نلعب ، ما زلت ألعب والنهر ينام على ساعدي وصياد السمك نائم قرب أولاده ، عرفت ذلك عنه منذ سنوات ، لم نفاجأ لأن مشروع الإرواء الجديد في القرية غير هويته ،حتى أسرته استقرت في السرير دون إن تنام ، ربما صارت ابنته أرملة ، عندئذ بكى وعاد ينظر إلي ، قلت له : ضقت ذرعا بالأساطير التي تعبدها ، ذات مرة تصلب بغضبه حين جف في آخر الأسبوع ، فعرفت بعد ذلك أن الشيء الوحيد الذي احتفظ به هو الخوف من الجفاف ، خوف طبيعي في مواجهة الموت ، كابدنا من اجل أن لا يفصل من العمل ، أن لا تسلب هويته ، كان يتباهى بمدى الشوق الذي يحمله ، تبادلنا النظرة تلو النظرة وقلت له : ليت أمتد كالشمس وكالرمل على جسمك ، اعرف إن ميزانك نصفه نهر ونصفه الآخر زهر البرتقال ، ذكرياتك تسير معي من زمن إلى زمن ، عيونه ساهرة مع نواطير الحقول ، ترسبات الطين لسنين لم يعد يذكرها أحد ، العشق يتسلط على إرادته بعنف ، خيوط الشمس تنعكس على الشجيرات الثلاث الوحيدات إلى جانب الجسر الحديدي الصغير ، قالت لي وانأ أنادي عليه :
(يا نهري الحزين كالمطر) ،
لابد أن يسلم إغراضه إلى الصرح الجديد، كنت أريد إن أقول له أشياء كثيرة جدا ، ولكني لم أكن اعرف كيف أقولها ، وربما لأني ليس لدى كلمته هذه. بدأت افقد الحماس الدافق الذي أشاعه حزنه في صدري ، لا زال مبتسما ابتسامة كالضوء الباهت ، جريانه يمتص هدوء الليالي الريفية وأصوات النهار المعتادة ، قال: انه لم يعرف كيف وصل إلى الفناء ؟ كيف شعر بالجفاف وانه يتمنى أن يسمع صوت الحصى في القرار، يوشك أن تنهار ضفتاه، هل ستأتي إليه النساء تملا الجرار ؟ فهو لم يخالف نصيحة آبيه الذي كان يوصيه على الدوام بان لا يصعد إلى منابع المياه ، وان يمشي على الضفة المحاذية للطريق من الحقول الزراعية ، يتكسر الموت على ضفتيه ولا يرى الاسمنت تحته ، إنا اعرف أنه غير قادر على تذكر أبي ، لأني لو مشيت على طريقه ... لقالوا: لقد خان الطريق ، تذكرت انه فقد كل مفهوم للمطر ، قال لي بعد حين : إن ماءه العذب يذوب في أنين ، وهو يمسك الصفصاف من الداخل ، العصافير كانت نائمة ندما ، أمسكها من أكتافها ، وأبعدها جانبا ، ووسد وجهها نحو الشمس ، في ذلك اليوم .. في الطريق الترابي لضفة النهر .. يعرف أنه لن يعود إلى الجريان كما يشتهي ، وليس كما تشتهي الفراشة أخته الصغرى ، ربما يحزننا صوته الخالي من أي تعبير ، لا أثر لدم.. ربما سال في الليل ، قيل هو قوي كالموت ، يؤلمنا موته بعمق .. أمس رأيته يمشي كئيبا في الأسواق،
نظر إلى كفه التي امتلأت بالتراب .. لم نستطع تصديقه في البدء ، طوال سنين ينتقل بين الحقول والبساتين يطل على أصابعنا ، يصغي لصوت حكاياته وأنين أوجاعه ، دون تعب ، كنت اسمع في الليل أنينه الجسدي ، وهو يتحرك لاستعادة هويته ، صارت ابنتك ألان أرملة ، وقد تظل إلى أوقات متأخرة مستيقظة في الفراش ، تصغي إلى مشيته المحتملة عبر البيوت ، أيظن أنه رأى العصافير على الصفصاف غارقة في زقزقتها ، وانه هز أغصانها لتطير إلى منحدرات التلال ،أم هي عيونه مبللة بالدموع ، وددت يا صديقي أن تأخذ مكاني .. وأن تعاني نصف ما أعاني ، لم أحاول تفسير ذلك ، فقررت مع أصدقائي أن أطرد الكلاب السود وتحطيم الأشياء السوداء كي يغرق في الضحك ، وأن أنظف له الضفاف والنباتات الصغيرة ، فكان ذلك مثل أغنية تدندن وتحكي ، لكنني لم اعد اسمعه يمشي ، ولم اعد اسمعه يتكلم عن العصافير ، حتى بعد هطول المطر ، ينظر إلي ويقول : سأموت هنا ولن أكون نهرا صغيرا من الاسمنت ، ماذا تفعل يا ترى لو كنت مكاني ، أين أمشي ؟ العدو الخفي .. لم يزل يقتفي خطواتي
مضى زمن وهو يردد: أنني أحلى لؤلؤة.. وهنا نما غرسي، جذوري في عروق الشجر، هنا عمري.. سأبكي على باب الجداول، حتى أرى جدائل القمح تمشطها الريح، أيقنت انه لن يعود أبدا.. لأنه قال بقناعة وبنفس الثقة التي قالها ذات مرة: انه الخراب يشعل الموت، ليقول في ما بعد: أين الرجال... تبعثروا ... ربما لن أعود ، لماذا تغيرون هندسة حياتي ؟ .. ضاع الصوت: ناديت : ليس من مجيب ، امشي كأني واحد غيري ، ويداي حمامتان على السطوح تحلق ، أين من كانوا معي ؟ نعم أنت تذكر أنه كان لك قبل أعوام صرح من الزهور وعربات واقفة وخيول وجمال، كان قبل أن تعمر القرية ، ومنذ كانت قريتنا كنت أنت ، ولا أحد يعرف عمرك ،
قلت له بحسرة وألم
ليس لدينا ما ندفعه ثمنا لحياتك
شرعت في ألقاء حواسي الواحدة بعد الأخرى،ثم قال : ستجدني يوما متكئا إلى الصفصاف كما لو إنني أنام أول مرة , ربما لا يزال هناك وقت طويل ، لكنني إنا وأصدقائي كنا نتمنى , ونحن جالسون على الطريق نسمع أنينه الحاد ، .( أود لو غرقت في دمي إلى القرار ) .. وحين طافت حوله حمى الموت...قلت له: حين ترحل عنا وأنت لا شك راحل بدون نعش فلا تلعننا.. بل ظن بنا خيرا، تلعثم وأجبر مرغما على السكوت ووجد نفسه ينهار على الأرض. شعرت بأنفاسه تتردد على وجهي ، تخيلت النعش وأشجان المطر وعهد الصبا، أراقب بذهول.. الحشائش و الأوراق تبكي، الفراشة الملونة ترفض أن تطير.. وأنا كأشجار الصفصاف واقف على قدمي ثم قال :
إن الكلاب السود سوف تنبح حول جثتي وتموء القطط ، وسوف يحضر أخي (جبار الكارخ) ليغمض عيني .ثم أصعد إلى السماء
...........................................................................................
ملاحظة :الكلمات التي بين الأقواس مقاطع من قصيدة " النهر والموت " للشاعر بدر شاكر السياب









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب