الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللحظات الأخيرة- قصة قصيرة

جمال القواسمي

2011 / 12 / 14
الادب والفن


انه يذكر تماماً كيف وصل إلى ما اعتقد انها النهاية: شرايين شبه مسدودة بنسبة 65 بالمئة، وشريان الأورطي مغلق بنسبة ثلاثين بالمئة، صمام فرعي معطوب بنسبة 70 بالمئة، الشريان التاجي تالف بنسبة 30 بالمئة، وعرق فجائي يزخُّ من رأسه وظهره، وركبتان هشتان تكادان توقعانه بين الفينة والأخرى، وذلك التعب، اوووووف؛ ابتسم، ودَّ لو قهقه لكنه لم يستطع، لأن الضحك يتطلب جهداً قد يسبب له أزمة قلبية؛ ابتسم وهو يحادث الأطباء المجللين بمعاطف بيض وتساءل فيما إذا كانوا محاسبين ومعلمي رياضيات ملولين لأنه شعر انهم قساة القلوب لصراحتهم القاتلة معه ومع مرضه، فتضاحكوا ونصحوه بعدم إجراء العملية لأن نسبة نجاحها واحد بالمئة، قال لهم انه على استعداد أن يوقّع على مستندات لا تحمِّل أي طبيب يتجرأ بإجراء العملية أية مسؤولية، اذا مات أثناء العملية أو بعدها إثر خطأ ما يحدث في متغير ما، لكن الأطباء رفضوا الفكرة ونصحوه بعدم اجرائها وقضاء أوقاتاً طيبة مع عائلته؛ وبعد أن ألحَّ عليهم بترشيح اسم طبيب جسور لا يمانع من القيام بالعمليات الجراحية المتعددة، ضحكوا وذكروا طبيباً جراحاً يُدعى دكتور ملاك، قالوا انه أحسن جراح قلب، لكنهم شكوا بقيامه بالعملية، وربتوا على كتفه وساعديه، وغادروا الغرفة واحداً واحداً، فبقي وحده لدقائق وهو محتقن لمشاعره ودموعه ويحلم بما سيفعل لو عاش مع أطفاله، أصدقائه وعائلته؛ ثم انتبه لدخول طبيب بزي أصفر وكأنه للإحرام إلى الغرفة، أغلق الباب فبقيا وحدهما.  
تنشق بنظرة متأملة الطبيبَ على مهل وسأله فيما إذا هو الدكتور ملاك، فطمأنه الطبيب القصير وطلب منه ألا يقلق، لكن عليه أن يغيِّر عاداته الغذائية والاجتماعية، ويوقف شرب الدخان وسأله كم سنة يريد، فقال له انه على الأقل يريد لحسابه عشرين سنة، لكن الطبيب المُحْرِم صمت لبرهة وهو يحملق فيه وكأنه يتهمه بالطمع، وبعد دقيقة أو نحوها، تمتم شيئاً وأخذ يبحث عن شيء في المكتب حتى عثر في احد الجرارات على آلة حاسبة؛ ثم ضغط على الأزرار وقال له أنه لا يضمن له أن يعيش عشرين سنة، ربما أقلّ وربما أكثر، لأن ذلك ليس بيده. وقال له وهو يضحك: انتَ تعرف!!
لأول مرة منذ فترة طويلة ضحك الرجل المريض بصخب وفجور، لم يعد يشعر بأنه عاجز عن الضحك. وحين سأل الطبيب عن موعد العملية الجراحية، ابتسم الطبيب صاحب زي الاحرام وطمأنه بأنه لا يحتاج إلى أية عملية، فنسبة نجاحها يبلغ واحد ونصف بالمئة..
- لكن لجنة الأطباء قبل قليل قالوا ان النسبة واحد بالمئة..
- إنهم لا يفقهون شيئاً، أنسَهم، ما عليك، خُذْ، قال له وقد أخرج من معطفه الأصفر دفتر شيكات، وحرَّر له شيكاً، ووقعه، وأضاف قائلاً: هاك، هاك شيك بعشرين سنة، وتذكَّر: حاول أن تكون نباتياً ما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً، تنفَّس بعمق، ديونك للناس أعدها، عش حياتك وأنثر محبتك في الأرض للطير والدود والإنس والبحر.
وحين خرج من غرفة الأطباء، بكل الطرق النفسية السلسلة والمهذبة، طمأن زوجته وأولاده وأخواته وأخوته وانسباءه وهم يخرجون من المستشفى وأروقته الأفعوانية وصناديق مصاعده الخانقة ومبانيه المنسوجة بعضها ببعض، حتى وصلوا إلى مواقف السيارات، قائلاً مراراً وتكراراً أن كل شيء على ما يُرام. قالوا له ان الأطباء رفضوا أن يجروا العملية وان نسبة نجاح العملية الجراحية لا تتعدى الواحد بالمئة. فأكد لهم ليطمئنهم انه لا يهمه النسبة لأنها فعلياً أكبر من الواحد بالمئة فهي تبلغ واحد ونصف بالمئة ولكنه قال لهم انه يشعر بأنه لا يحتاج إلى عملية وانه غدا مُعافى ولا يشعر بأي وجع.
خافت زوجته المسكينة وكذلك أخوته وأخواته عليه وشعروا أنه عائد الى البيت ليموت في أية لحظة، وانه يكذب عليهم بترهات فهم يعلمون انه ليس بوسع الطب أن يفعل له شيئاً. وحين ضحك عليهم وهو يرى وجلهم في عيونهم وتباطؤ مشيتهم وتثاقل زفيرهم، ترجوه بكلمات مختلفة ألا يضحك لئلا يحدث مكروه ما ولئلا ولئلا، الأمر الذي جعله يقهقه قهقهات فاجرة معربدة وهم بدورهم يشفقون على انفسهم وعليه ويترحمون عليه وعلى أنفسهم، ويرجونه ألا يتطرف بمشاعره ويذكرونه بأنه ما يزال مريضاً فلديه شرايين شبه مسدودة بنسبة 65 بالمئة، وشريان الأورطي مغلق بنسبة ثلاثين بالمئة، وصمامات تالفة بنسبة منخفضة، فعاد وأكد لهم وهو يصرخ من قاع بطنه انه شُفِيَ تماماً.
- أنظروا، أنظروا.. هاكم الشيك.. عشرين سنة!!
- شيك ماذا!؟
- أعطاني الشيك دكتور ملاك..
تبادل الجميع النظرات، محتارين، وقرأ بعضهم الشيك وهم واجمين..
قرأ احدهم الشيك وضحك على نحو هازئ وساخر: هه، شيك ظريف، أعطوا لحامله حوالي 7300... وانفجر ضاحكاً.. 
- ما الذي يضحكك!؟
- لم أقرأ في حياتي شيكاً يحوي كلمة حوالي، انتبهوا الى كلمة حوالي.. قهقهقه.. 7300... يا إلهي!!
- ما بك، أحمد!؟ 7300 هي حوالي عشرين سنة... ما بك!؟
- لكن هنا مكتوب حوالي 7300 عام!؟
- عام!؟ غير ممكن!! ماذا تقول؟
- خذ واقرأ، خذْ، اقرأْ..
- اللعنة!!!؟ اين هو!؟ أين هو!؟
وأخذ يجري، وزوجته واخواته واخوته يركضون وراءه، بين السيارات، عبر الأبواب المزدحمة بالناس، عبر الأروقة المليئة بالزوار والأطباء وأسرة المرضى الفارغة حيناً والأسرة عليها مرضى، صاعداً الدرجات، نازلاً الدرجات، ووراءه زوجته وأخواته وإخوته مقطوعي الأنفاس، لاهثين، ارتمى بعضهم هنا وهناك أرضاً من فرط صحتهم وقوتهم، وهو يسأل بكل جبروت عن طبيب مرتدٍ زياً أصفر وكأنه زي الأحرام، قيل له في ذاك المكتب، بل خرج قبيل دقائق إلى الكافيتيريا، بل ما زال في غرفة الأطباء، قد يكون عند الإدارة لاجتماع طارئ، او في العمليات، او يدخن سيجارته قبل دخوله الى غرفة العمليات.. وهناك وقف ثابتاً وقدماه قد حطمت بلاط الأرضية التي مشى عليها، وقف أمام باب زجاجي ممنوع أن يعبره غير الأطباء وممرضي غرفة العمليات، وخرج له الطبيب من غرفة العمليات وهو مقنّٓع ومبرقع بزيه الأبيض المُصفرّ وغاضب ومعه طبيبان كانا مقنعين واحدهما أنثى بانت من شعرها، وكانا يضحكان وهم يحاولان السيطرة على طبيبه الغاضب الذي صرخ والرضاب يتطاير من فمه: ورائي مريض نسبة نجاح عمليته 50 بالمئة يتأرجح بين العالمين، ماذا تريد!؟ ماذا تريد ايها المجنون: أعطيتك عشرين عاماً، ماذا تريد أكثر!؟ سأله صارخاً من وراء الباب الزجاجي..
- أنظر، اقرأ، شوف...
- ماذا!؟ ما هذا!؟
- هذا الشيك الذي أعطيتني اياه..
- أعرف، أعرف بالطبع انه شيكي، اللعنة، إذن ما تريد!؟
- أنظر حوالي 7300 عاماً... ربما قصدت ان تكتب 7300 يوماً..
- هل تريد ان تعيش 7300 يوماً أم 7300 عاما!؟
وحين تردَّد في الإجابة، هجم الطبيب على الباب الزجاجي الذي يفصلهما كأنَّه يريد تهشيمه، وراح يصرخ: ماذا تريد يا رجل!؟ ماذا تريد!؟ وهو يطرق براحتيه على الزجاج..
- قلت لك يكفيني عشرون عاماً زفتاً..
- الشيك كتبته ووقعته وانتهى الأمر يا غبي..
- اللعنة، هل تريدني أن أعمِّر في الأرض لكي أنسى أولادي وبيوتي وحبيباتي وأصدقائي.. اللعنة، كل ما طلبتُه منك كان...
- لا تضِع وقتي، ورائي مريض نسبة نجاح...
- يا دكتور ملاك، أرجوك، دعني اعيش عشرين عاماً، كي يدفنني ابني، هذا كل ما أريد..
- أيها الغبي، هذا ليس بيدي، والله ليس بيدي يا حمار!!
قوقف الرجل حائراً، عندئذ اندفع من باب الدرج أحد إخوته ثم بعد ثوانٍ أخ آخر، وهما يلهثان؛ فنظر إليهما ورآهما ورأى عائلته وجيرانه وجيل بأكمله سوف يودِّعه ويشارك في جنازاتهم ويدفنهم ويبقى وحيداً، ويعيش أكثر منهم جميعاً، لم يحاول أن يحسب عدد الأجيال التي سيكون شاهداً على مرورها في هذا العالم الجميل. ونظر إلى الطبيب الغاضب: ماذا عليَّ أن أفعل!؟ أين أصرف الشيك!؟
- أنقع الشيك وأشرب ميته.. أنقعه بمية طاسة الرجفة وأشرب ميته، سامعني؟ أنقعه وأشربه، كيف حاسس الآن!؟ 
- مثل الحصان..
- إذن، ارمح، خبّ، يللا حِلْ عني، حِلْ عن سمواتي، حِلْ.. ورائي مريض نسبة نجاح عمليته خمسين خرا بالمئة!!!
وصل بقية عائلته، زوجته وابنه البكر الصبي وأخواته العجائز وترأى له أمام عينيه توابيت تتراقص فوق لجة من الأيادي، وحتى جنازة ابنه البكر، ولم يدرك ماذا عليه أن يفعل: أيبكي أم يضحك!!؟؟ لكنه كان مصدوماً، ووجد نفسه يغادر بناية المستشفى، قدماه تعزفان إيقاعاً صاخباً ورئتاه توقِّعان بزفيره الساخن لوحة حياته الجديدة، ولم يستطع أن يتجاهل انه نسي أحياناً انه يماشيهم، فسبقهم بوتيره مشيه السريعة، ما عدا إبنه الصبي الذي استطاع أن يجاري أباه أحياناً. لم ينس ان ابنه سرعان ما سيهرم ولن يكون بوسع ابنه خلال اربعين او خمسين عاماً ان يسبقه أو حتى أن يلحق به، فابطأ من سرعة سيره، ليتيح لإبنه البكر الغلام أن يسبقه، فتظاهر بالتعب وتراخى قليلاً وسعل سعلة او سعلتين، وتوقف عن الركض، الأمر الذي جعل أخوته وزوجته يلحقون به ويعاتبونه برفق ويرجونه بألا يلقي نفسه في التهلكة، وهكذا فعلاً سبقه إبنه ورفع يديه إلى الأعلى مُعلناً فوزه على أبيه، وحين استدار في اللحظات الأخيرة من احتفال يديه بالنصر، لمح أباه واقفاً وقد أحنى ظهره وهو يلهث بينما أمه وأقرباؤه يقرعون أباه فشعر بذنب غامر، فعاد وعانق أباه وهو ينتحب برفق، لكن أباه هنأه بفوزه وصفق له بحرارة وداعب شعره وعانقه وراح يشمشم جسده وهو مغمض العينين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم


.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في




.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش