الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استقراء الصامت والصائت في مسرحية ياسر مدخلي (عزف اليمام)

صباح الانباري

2011 / 12 / 18
الادب والفن


انطلاقا من العنونة (عزف اليمام) وقبل الدخول الى عالم النص نشير أولاً الى أن (اليمام) هو ما يعرف بالحمام البري مؤنثه (يمامة)، وغناؤه هديل وقد قرن المؤلف العزف به لكونه رمزا بديلا لشخصية تتشابه معه رمزيا فيحل بديلا عنها. احداث النص تبدو مرتبطة مع ما حدث أو يحدث حول المؤلف، وادراكه لها، ومن ثم كتابتها كما جاء ذلك في المقدمة المقتضبة التي وضعها ياسر مدخلي لنصه مذكّّراً أن الوقائع امتزجت في خياله فرأى ان من الضرورة بمكان البوح بها أو تدوينها على الورق، ومن ثم تقديمها من على خشبة المسرح.
إذا استبعدنا شخصية (الكاتب) داخل النص، والذي كان دوره شكليا حسب، فان المسرحية اشتغلت على شخصيتين رئيستين (الأول والثاني) اتصفتا بالضعف ـ كما جاء في ملاحظة المؤلف ـ على الرغم من مظاهر القوة التي اتصفت بها شخصية الثاني. وان الصراع بينهما أخذ ـ استنادا عليه ـ شكلا هو اقرب الى الهدوء منه الى العنف الدرامي. أما المكان فلم يكن له محددات دقيقة. وما ذكره المؤلف في أول النص (جوار انقاض..ربما لميدان وسط العاصمة) لم نتلمس آثاره في سياق الدراما إلا ـ وهذا استثناء افتراضي ـ في الرقصة الافتتاحية فالمشاهد التي ظهر فيها (الكاتب) جرت كلها في مكتبه. كما جرى المشهد الصامت الاول في مقهى شعبي. وجرت المشاهد الأخرى داخل غرف التحقيق في زمن هو (زمن الحرب على الآخر).
وبعيدا عن الشخوص ومحددات الزمان والمكان فان النص ابتدأ بتمهيد هو في حقيقة الأمر ملاحظة استباقية لفعل دراماتيكي راقص صورت رموزه التعبيرية مدى التراجع، والخذلان العربي الذي وصلنا اليه بعد زوال ايام العز، والكرامة، والكبرياء محددا إياه بمرحلتين تاريخيتين هما (ما قبل) و(ما بعد) في إشارة الى الماضي وانهياراته، والحاضر وتداعياته مقطوعا باصوات انفجارات، وهدير طائرات، وزعيق اذاعات ومتبوعا باعلان (الثاني) عن نواياه واغراضه التي تبدو من خلال قهقهته حقيقتها الديماغوغية.
المسرحية تضمنت ثلاثة مشاهد صامتة كتبت باختصار شديد وتركت مهمة الدخول في تفاصيلها الى من يتصدى لاخراجها على الرغم من رغبة المؤلف الملحة في نشرها سواء من اجل قراءتها رقمياً من على صفحات المواقع الالكترونية أو ورقياً من على صفحات المجلات أو الكتب. لقد تحول المشهد المسرحي الصامت ـ جراء الاختصار، وعدم الدخول في التفاصيل الحركية والايمائية المهمة ـ الى مجرد ملاحظة تكميلية سبقت المشهد الصائت، وانابت عن بعض احداثه الاستباقية. لنقرأ هذا المشهد أولاً:
"مشهد صامت
مؤثرموسيقي يصعد مع ظهور الاضاءة على زاوية في مقهى شعبي يحتسي فيه الاول كوبا من القهوة يدخل الثاني الى وسط المسرح حيث الاضاءة الحمراء ينظر للأول يقوم باعتقاله يتحول الجو العام الى الأحمر لاختفاء الأخضر تدريجيا."
من المشهد نستنتج ما يأتي:
اولاً. تضمنه على حركتين دراماتيكيتين: الأولى احتساء القهوة في المقهى، والثانية دخول الشخصية الثانية، واعتقالها للشخصية الأولى.
ثانياً. استخدامه للمؤثر الصوتي المتزامن مع المؤثر الضوئي بطريقة رمزية ايحائية معبرة عن جوهر الحركتين المشار اليهما في أولاً.
ثالثا. ليس في المشهد ما يكفي من الحركات والايماءات التي تساعد القاريء على استقراء أبعاد الشخصيتين، واختلاف غرضيما.
رابعا. لم تكتمل عناصر المشهد الدراماتيكي الصامت باشتغاله على التركيز والاختزال لان ثمة ما هو ضروري قد اختفى من المشهد تماما.
أما المشهد الثاني فجاء اكثر اختصارا واشد اختزالا من سابقه فقد ورد بالشكل الآتي:
"مشهد صامت
التحقيق مع المعتقل بطريقة غير انسانية"
ومنه نستنتج الآتي:
أولاً. لم تكن شخصية الأول محددة بصفة تشي بجوانيته، أو طبيعته، أو سلوكه الاجتماعي، وكذلك شخصية الثاني.
ثانيا. لم يتضح سبب التحقيق، ولا لماذا انصب (بطريقة غير انسانية) على هذه الشخصية دون سواها من رواد المقهى.
ثالثاً. احتساء القهوة في المقهى يحدد بشكل ما هوية المقهى الوطنية فثمة مقاه لا تقدم غير الشاي الاسود كما هو الحال في مقاهي العراق على سبيل المثال لا الحصر.
رابعا. القطع بالاظلام جاء معبرا عن تجزئة وتشظي الحدث، والانتقال السريع من مشهد الى آخر، والى شيوع الظلام بين اجواء المسرحية، والى اختتام المشهد والبدء بما بعده.
عليه يكوِّن الحدث ما بعد المشهد الصامت الثاني مشهداً صائتاً مستقلاً مقتضباً هو الآخر، وداعماً للمشهد السابق الصامت وفيه تعلن الشخصية عن مللها من انتظار ما ستصرح أو تعترف به الشخصية الأخرى (المعتقل).
لقد استثمرت المسرحية صمت الرجل المعتقل ولكنها لم تركزعليه بما يكفي لجر الانتباه الى قوة فعل الصمت، ومداه الأنساني، وجوانية معناه. ولعل من الأهمية بمكان الاشارة الى مسرحية الكاتب المسرحي الراحل محي الدين زنكنه (تكلم يا حجر) وكيف استثمرت الصمت لصالح شخصية المعتقل من بدء المسرحية وحتى نهايتها. ان ما يؤاخذ على صمت الشخصية في مسرحية ياسر مدخلي هو كسرها حاجز الصمت بالنطق ولكن ليس في الموقف المطلوب، والملائم لقضية المعتقل. لنقرأ هذا الحوار، ونتبين حقيقة ذلك الموقف:
"الثاني : لماذا تبكي؟؟ عجبي صمت وبكاء انك تذكرني بايام غابرة عصور قد اندثرت تحمل ذكريات مؤلمة، برد وعري، حر وجوع، قهر واذلال ودموع، يكفي يا هذا انني اكرهك أيها التمثال أكرهك.. اكرهك.(يرفع عن وجه الاول الغطاء) انك تؤسر نفسك في زمن الحرية.. وهذه تعد جريمة فانت تقمع نفسك وتتجاهلها.. لقد عشت حرا منذ صغري آكل وانام أخرج مع اصدقائي فتيانا كانو أو .."
الأول : او ماذا؟؟
الثاني : اخيرا نطقت"
لقد جاء القطع مؤكدا على هيمنة فكرة الجنس الآخر الغائب (الفتيات) على الشخصية حد انها اخرجته من الصمت الى النطق ولا نعرف لماذا ايضاً ولكن السياق يؤكد وجود ضعف ما في تركيبة الشخصية، وان القطع لم يعزز حالتها الفكرية في مثل هذا الموقف الانعطافي الكبير. المشهد يسترسل بسرد قصة الثاني، والاجواء التي احاطته ـ بالجور، والظلم، والاستبداد، والاستعباد، والاضطهاد، والترهيب، والتعذيب، والنطح والذبح والموت الزؤام وكل ما هو محرم عليه وممنوع منه ـ وينتهي كالعادة باظلام تام ليأتي الحدث اللاحق صامتا ولكن من دون أن يشير المؤلف الى ذلك. الحدث الجديد جاء مختصرا أيضا وعلى الشكل الآتي:
"مشهد بطيء لسقوط تمثال في وسط المسرح يضيء بعهده مشهد الكاتب مرة أخرى كومضة سريعة توضح انفعالاته"
ان الدمج بين حالتي سقوط التمثال، وانفعالات (الكاتب) لم تمنح المتلقي التوضيح المطلوب. اراد ياسر مدخلي ايهامنا بان ما يجري من الاحداث في هذه المسرحية انما يجري في ذهن (الكاتب) من دون ان يقدم لنا بعض التفاصيل المهمة أو الحركات الدرامية التي تعزز هذه الصورة بما يجعلها أكثر وضوحا لمتلقي النص في حالة القراءة، والعرض في حالة التمثيل، وتوكيل هذه المهمة الى من يتصدى لاخراج المسرحية.
في المشهد الحواري الصائت الذي جاء بعد اظلام تام حدد ياسر مدخلي مفهوم الشخصيتين للحرية انطلاقا من بيئة، وثقافة كل منهما. فالثاني يرى ان الحرية رهن بسقوط التمثال، وان سقوطه يعني استعادة الناس لحرياتهم على الرغم من اننا لا نعرف ما علاقة التمثال بالحرية، او ما علاقة التمثال بالناس الذين يمثلهم (الأول) فنحن نفترض اننا لا نعرف بقصة التمثال وسقوطه، أو اننا نطلع عليها الان من خلال هذا النص وهذا افتراض مقبول. أما الثاني فليس له ما يحدد شكل الحرية لانها لم ترد في مفردات حياته السابقة كالأكل، والشرب، والبيع، والشراء وهذه اشارة ذكية الى الكيفية التي على وفقها شيّأت الحرية من قبل قوى ظلامية جائرة عملت على جعل الناس في منأى عن مطاليبهم الجوهرية.
وبعد اظلام آخر يقدم لنا مدخلي مشهدا صامتا على هيئة ملاحظة تقول:
"تعذيب المعتقل وكسر ساقيه ووجهه مغطى."
ليشير بعدها وعبر حوار صائت الى ما أصاب الأول الذي بدأ المشهد بتأوهه، وشعوره المتفاقم بالألم. في هذا المشهد ثمة استنتاج مهم يرد على لسان (الأول) في الجملةالأخيرة حيث يقول:
"الأول : هل تفكر بالرحيل؟؟ جدير بك ان تفعل فالحياة هنا لا تطاق لمن يعشق المكان.. فكيف بمن احتله..
الثاني : اصمت."
هكذا وللمرة الأولى تتضح لنا حالة الاحتلال التي جاءت متأخرة في النص لتلقي الأضواء على ما سبق من مطبات وخفايا ظلت غامضة بشكل مقصود أوربما بشكل غير مقصود.
في المشهدالأخير يظهر (الكاتب) ثالثة ليقول جملته الختامية:
"لليمام منزل يضيق به ولكن حبه له يشعره وكأن السماء جزء منه..الحياة الكريمة شعور لا نملك حاسته.."
ومن خلال هذا الظهور الأخير يتأكد لنا أن اللعبة المسرحية انما بنيت على عرض ما جادت به ذهنية (الكاتب) الذي تماهى مع ما ادخرته الذهنية الفعالة، والمتقدة لكاتب النص المسرحي ياسر مدخلي.
واذا كان لا بد من قول أخير بحق النص فانه من دواعي الفخر أن نقول إنه نص استقرأ الظرف العربي بوجه عام، والعراقي بوجه خاص، واجترح ما ستؤول اليه الأمور في قادم الأيام فضلا عن اشتغاله على التجريبية كمرتكز اساسي من مرتكزات النص المسرحي المحدث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة