الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمي وأشياء أخرى

علي غشام

2011 / 12 / 18
الادب والفن


أمي.. وأشياءٌ
استدعته ذاكرته للمسافات البعيدة ، أحسَّ بوجع بين ضلوعه ، أعتصره ألم فضيع في معدته ، تراءت له صور قديمة في زوايا عمره المتعب ، من أين يبدأ ؟؟
لا يعرف كيف ترك وراءه تلك السنين بحملها الثقيل ، كانت تمر مسرعة تاركته يتناقض مع موجودات عصره ابتداءاً من الإله وانتهاء بالموت الروتيني الذي يلم أرواح الناس بروتين يومي!!
كأنه ندم على كل أفعاله السابقة التي كان يعتقد بصوابها المطلق ، أخذت تراود تفكيره نوبات أفكار غريبة وبات يفكر بإنهاء حياته والتخلص من هذا الجحيم الرابض عليه منذ زمن ، لكن هناك دائما شيء يربطه بالحياة وجماليتها ووسعها ، اجتاحت حياته أسراب الأحزان والقلق ، لم يكن طيلة الثماني عشر من السنين التي انقضت يشعر بمرور الزمن والوقت الذي توقف بمجرد عبوره الخط الوهمي المسمى بالحدود خارج الوطن حتى وان عاد أخيراً لمدينته التي احتضنها الأسى والخوف والدم والذين ولِدوا من عاهرات الكهنة وسدنةِ القبور..!
تجذّر فيه عشقٌ قديم يلجأ إليه في وحدته وغربته التي اعتادها ، تلك التقاسيم التي تشبه استدارة بقعة ضوء على خشبة مسرح كبير، تلك الابتسامة التي ترتسم على وجهها القمري الذي لم يتمكن الحزن والعمر من أن يترك أثراً عليه، كانت ابتسامتها وكأنها زورق يشق هدوء وجه بحيرة ساعة الغبش.. كيف لم يتمكن الزمن من أنهاك ذلك الوجه ..!
كانت أحلامه غير مجهضة ، أقلقه حلمه الذي لازمه طيلة السنين الماضية فهو يراوده بين الحين والآخر ..تلك التضاريس الوعرة التي يجد نفسه تائهاً فيها محاولاً اجتيازها بفضول للوصول الى نقطة هو أصلاً يجهلها ..وكأنها أمله في الخلاص من كل تداعياته ، شيء ما يجبره أن يعرف تلك النقطة المبهمة ، لم يتحدث لأحد عن ذلك الحلم الذي يراوده بشكل مستمر .. تراءت له ذات مرة في احد رحلاته في اللاشعور قافلة تسير الى جنبه في تلك الأرض التي ألفها داخل الحلم ..لكنها غادرته على عجلة ولم يتعرف على أي وجه فيها رغم مناداته عليهم.!
لم يعد هناك لغزّ في حياته غير هذا الحلم الذي يؤرقه في منامه .. يتذكر أمه دائماً ، كانت تلوح له بأصبعها متوعدته بعقاب إن لم يذعن لأمرها .. كانت أيام جميلة رغم قسوتها ، فبمجرد أن يتذكرها يتجدد له أمل ينتظره من وقت طويل .
ما زال يتذكر تلك الأرض المبتلة برطوبة الصيف الخانقة أيام آب اللاهبة في أزقة حيهم الذي بدأ يزدحم ببيوت القصب والأكواخ المتكئة على بعضها عشوائياً..لكنها لم تخلو من الرغبات والخبز وأشياء أخرى .
لم يتعرف على لذة الحياة بشكل يتمكن من أن يستحلي وجود النصف الآخر .. الفتاة الوحيدة التي عرفها ابنة الجيران التي ما زال عندما يراها يتذكر تضاريس ذلك الجسد الغض الصغير و اكتشافاته الجنسية المبكرة ، واشد ما يشده الى تلك الأيام هو حينما يسمع أغنية فيروز ..
((فايق يا هوى ..فايق لما راحوا أهلينا مشوار تركونا وراحوا أل ولاد زغار ودارت بينا الدار وحنا أولاد زغار ..............))
كانت لذة الأشياء تعلق بذاكرته حتى بعد مرور زمن على أحتراقها ، ولا تغادر رأسه تفاصيل كل تلك الأيام البعيدة ..
رعب سِنِيّ القتل الذي شهده يبعده بحذر شديد من كل المجهول القادم ويبقى السفر والترحال هاجسه الأكبر في معظم الأيام التي يقضيها وحده ..
الحرب تواً بدأت تستعر في لهيب عارم يحرق كل شيء جميل مبتدئة في فصل لم ينتهي الى حد ألان..!!
منظر الجنود العائدين من الجبهة والنساء المتعطشات الى دفء أحضان الحبيب المفارق رغماً عنه ، يثير فضوله عندما يرى تلك الأجساد التي تفيض بالرغبة والشبق ، كانت أيام لا تنسى حين يأتون بأحدهم وقد أكلته نار الحرب الطائشة ، الرغبات والحنين والألم والخوف والقلق والنساء اللواتي تركنَّ وهنَّ شابات لم يكتفينَّ من ذكورهنَّ العائدين ببقايا رجولة منسكبة على حدود السواتر الأمامية لجبهات القتال التي لا تشبع من الدم واللحم المهدور على حساب رغباتهن وأجسادهنَّ ، لقد شهد ذلك الجو المملوء بالعرق والدم والجنود والبساطيل ونعوش البقايا البشرية ، ونساء ثكالى يتسائلنَّ بأستغراب عن سبب سكوت السماء وانقطاع المطر؟؟
من بين كل هذا التشتت أشرق ذلك الوجه بين كل تلك الصور ، أغرقه بشغف طفولي ، تمدُّ له يداها لتحتضنه مختصرة تلك المسافات البعيدة ، خاف من الوصول إليها ، تفهمت خوفه بأبتسامه ناعمة كعادتها ، فقد عرفته جيدا ، رائحة خبزها ترافقه طيلة تلك السنين المحملة بالنكبات والحنين ، قلَّبَ تلك الأيام التي ألتصق بها وهو صغير ، كان يرافقها كظلها !!
أشتبك في عراك صبياني مع أخيه الذي يكبره ويحنو عليه الى الآن .
- صاحت بهم ..
- أهدؤوا؟!
تعلق بثوبها ، اختلطت رائحتها برائحة الخبز والتي بقيت معه الى هذه السنين الخريفية من عمره !!
في حمأة ذلك الصراع انبثقت أغنية من الراديو القديم في أحد زوايا الكوخ العتيق الممتلئ برائحة الموقد الليلي الملتصقة بشقوق قصب الكوخ .
همممممممممم تم تتتك.....
(تعال الحبك انه أشتاك ولشوفتك اتمنه لا طير بجفاك الصاح برياضي ولا غنه)
كلمات مازالت تلح على ذاكرته بالحضور الدائم في خلواته رغماً عنه !!
أمتزجت كلمات تلك الأغنية مع رائحة الخبز المختلط برائحتها التي تحفزه على البكاء المكبوت الممزوج بإنهاك يعمُ جسده .
تتيتم تتيرين ....
(لعيونك يهزني الشوك وأصيحن حيّل وبحركه ويظل طيفك يناغيني وأضوي شموع للملكه)
مفردات حُفِرَت في ذاكرته الحديدية ، يهزه حنين عتيق جدا لها يشعر.. بلمساتها وهي تواسيه من مرضه ، الى الآن لم يفرق بين أمّهِ والملاك ، وأحياناً يأخذه خياله الى ابعد من ذلك ، حيث أنها الوجود كله !!
أنها الحياة..
لم يعرف مفردة يصفها بها أبلغ من كلمة ..أمي .

علي غشام
شتاء 2011








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب