الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كون آينشتاين

هشام غصيب

2011 / 12 / 19
الطب , والعلوم


في المقالة السابقة، خلصنا إلى نتيجة في غاية الأهمية مفادها أن الفضاءات الثلاثية الأبعاد (كالمكان) والأخرى الرباعية الأبعاد (كالمتصل الزمكاني الذي ذكرناه في المقالة الثالثة من هذه السلسلة) لا تطيع بالضرورة هندسة إقليدس، وإنما تتعدد هندساتها تعدد السطوح الثنائية البعد المنغرسة في الفضاء الثلاثي البعد. ويمكن توحيد وصف هذه الهندسات وتغيراتها من نقطة إلى أخرى في الفضاء ذاته بدلالة ما يسمى التنسور القياسي، وهو مجموعة اقترانات للإحداثيات تربط مربع طول اقصر خط يصل نقطتين قريبتين من بعضهما بإحدثيات هاتين النقطتين. ويحدد التنسور القياسي الخصائص الهندسية للفضاء المعني كليا، وبغض النظر عن عدد أبعاد هذا الفضاء. إنه يمثل انحناء الفضاء المعني وتغير هذا الانحناء من نقطة إلى أخرى.



وهنا يبرز سؤال فيزيائي مهم سبق وأن طرحه ريمان والرياضي الإنجليزي كليفورد والرياضي الفرنسي بوانكاريه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: ما هو نمط الهندسات الذي يطيعه المكان المادي الذي نعيش فيه؟ وما الذي يحدد أن يسود هذا النمط أو ذاك؟ وهل هناك علاقة بين المادة وقوى الطبيعة من جهة وبين هندسة المكان؟ وبصورة خاصة، هل هناك علاقة بين المادة وقواها وبين التنسور القياسي، وكيف نحددها؟ ثم ما هي علاقة المكان بالزمان؟ وبالتحديد، هل يتغير التنسور القياسي، ومن ثم هندسة المكان، مع الزمن؟ فمن الواضح أنه ليس هناك ما يحتم أن يكون المكان إقليديا، كما كان الظن السائد قبل غاوس ولوباتشفسكي وبلياي، وإن كان كذلك على الصعيد الموضعي، أي على صعيد الأبعاد المألوفة غير الشاسعة. بل إن احتمال أن يكون كذلك على صعيد الأبعاد الشاسعة هو ضعيف بالنظر إلى تعدد الهندسات الممكنة. لذلك، فالذي سيكون مدهشا بالفعل هو اكتشاف أن المكان إقليدي. وتفيد الدلائل اليوم على أن الكون على نطاق الأبعاد الشاسعة قريب جداً من الحالة الإقليدية، وإن لم يكن كذلك قرب تجمعات المادة الكثيفة. وقد أثار ذلك دهشة علماء عصرنا بالنظر إلى إدراكهم ضعف احتمال أن يكون كذلك. لكنهم وجدوا مؤخراً تفسيراً مقنعاً لذلك على أساس ما يسمى نظرية التضخم في الكون، والتي سنعالجها في مقالات لاحقة.



ولنتصور ماذا سيكون عليه الحال لو كان الكون يطيع هندسة لاإقليدية كروية، أي هندسة ريمانية. أي، ماذا لو كانت هندسة المكان تعميماً ثلاثيا للهندسة السائدة على سطح كرة ثنائي البعد؟ وبتعبير أدق، ماذا لو اعتبرنا المكان سطحاً كرويا ثلاثي الأبعاد مغروساً في فضاء رباعي الأبعاد؟ في هذه الحال، سنجد أن المكان سيطيع علاقات وقواعد هندسية شبيهة جداً بالعلاقات والقواعد السائدة على سطح كرة عادية ثنائي البعد. وعلى سبيل المثال، فإذا شكلنا مثلثا تقع في أحد رؤوسه مجرتنا وتقع في الرأسين الآخرين مجرّتان بعيدتان عن بعضهما وعن مجرتنا، لوجدنا أن مجموع زوايا هذا المثلث ينوف على مائة وثمانين درجة. وإذا اخترنا مجرّات أبعد بحيث كانت مساحة المثلث أكبر، وجدنا هذا المجموع يزداد. كذلك، إذا شكلنا محيط دائرة من عدد كبير من المجرات البعيدة جداً والتي تقع جميعاً على البعد ذاته من مجرّتنا، بحيث شكلت مجرتنا مركز الدائرة، لوجدنا أن نسبة محيط الدائرة إلى قطرها أقل من الرقم “باي”، ولوجدنا أيضاً أن المحيط يقل كلما زاد بعد المجرات التي تشكل المحيط عنا حتى يقترب من الصفر. وهي بالفعل ظاهرة غريبة تناقض تجربتنا الأرضية كليا. والأغرب من ذلك كله هو أنه إذا انطلقت مركبة من مجرتنا في كون كروي، وتحركت في خط مستقيم، أي في اتجاه ثابت، واستمرت في حركتها لفترة طويلة، لوجدت نفسها في النهاية تقترب من مجرتنا، أي نقطة انطلاقها، وتعود إليها. وبالطبع، فإننا لا نستغرب هذا السلوك عندما تتحرك نملة على سطح كرة عادية. فإذا تحركت النملة على دائرة كبرى على السطح، أي في “خط مستقيم” واتجاه ثابت، لعادت بعد فترة إلى النقطة التي انطلقت منها. وهذا ما يحصل أيضا في المكان الكروي الثلاثي الأبعاد، بالنظر إلى كونه مجرد صورة معممة لسطح الكرة العادية. فهندسته هي من نوع هندسة الأخير، ومن ثم فإن سلوك مركبة تتحرك فيه لا يختلف من حيث الجوهر عن سلوك نملة تتحرك على سطح كرة عادية. لذلك، فإن حجم المكان الثلاثي الكروي محدود، بعكس حجم المكان الثلاثي الإقليدي مثلاً. ومع ذلك، فليس له حدود. ومعنى ذلك أنه مهما تحركنا فيه، فلن نصل إلى حد معين أو نهاية معينة. لكن، سنعود أدراجنا إلى حيث انطلقنا، وسنجد أيضاً أن حجمه محدود. إن الكون الكروي، إذاً، كون محدود لكن من دون حدود ونهايات. إنه كون محدود الحجم لكن عديم الحدود. وبالطبع، فإن هذه الحالة تبدو لامعقولة من منظور الهندسة الإقليدية المألوفة. لكن، إذا حررنا أنفسنا من قيود هذه الهندسة، وفهمنا جيداً منطق الهندسة اللاإقليدية، وجدناها معقولة تماماً. ويسمى هذه النمط من النماذج الكونية أو المكانية كون آينشتاين، لأن آينشتاين كان أول من اقترحه أنموذجاً للكون، وذلك في بحثه الذي نشره عام 1917 وأرسى فيه دعائم علم الكون الحديث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية للاستاذ هشام على هذه المواضيع
وليد مهدي ( 2011 / 12 / 19 - 10:15 )
اعتقد بانها رصيد ثري في ارشيف حوارنا المتمدن المعرفي

يمكن لكل الاخوة القراء اعتمادها كمراجع - موثوقة - ورصينة


تحية كبيرة للبروفسور هشام


2 - لا أدري ماذا أقول
الباشت ( 2011 / 12 / 20 - 16:12 )
أحزن فعلاً عندما أقرأ مثل هذه المقالات القيّمه ولا أجد فيها تفاعلاً يذكر بينما نتراكض خلف مقالات أخرى تنبش في الماضي وتحفر فيه حفراً حتى صار الماضي جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا..بئس القوم نحن..فعلاً ما أحوجنا لمثل هذا العلم المستقبلي فقد مملنا العباءة الماضوية السوداء المقيته..صرت أكرهها فعلاً ولا أدري هل سنتخلص منها أم مصيرنا مستقبلنا مثلها
لن اقول لك شكراً فقد شكرتك بقلبي منذ بدأت قراءتك رغم صعوبة ما تكتب لقارئ مبتدئ مثلي

اخر الافلام

.. ميزة جديدة غير متوقعة.. غوغل تطلق -الهمهمة- لتذكر الأغاني


.. وزارة الصحة بغزة تحاول إعادة تشغيل بعض مراكز غسيل الكلى وتعا




.. أسماء الأسد تعلن إصابتها بالسرطان على غرار إعلان الأميرة كيت


.. تستعد الولايات المتحدة الأمريكية لحرب الفضاء.. ما القصة؟




.. ميتا تنافس مالكة غوغل لعقد شراكات مع استوديوهات هوليود