الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكاييل الحرّية

صبحي حديدي

2004 / 12 / 28
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


يتعرّض مبدأ حرية التعبير إلى انتكاسات خطيرة هذه الأيام، ليس داخل أنظمة الإستبداد والقمع التي اعتادت، واعتمدت واستمرأت، شطب هذا الحقّ الأساسي الجوهري فحسب، بل في الديمقراطيات الغربية العريقة أيضاً. وهذه الأخيرة أنظمة رفعت المبدأ إلى مصافّ قداسية، إنْ لم يكن بسبب جاذبيته العالية ضمن المعمار النظري للفلسفات الليبرالية حول الديمقراطية، فعلى الأقلّ لأنّ المجتمعات الغربية كانت وتظلّ تُعلي شأنّ المبدأ وتدافع عنه وتراقب مؤشرات ارتقائه أو انحطاطه.
ومن مظاهر الإنحطاط الصريح أن تلجأ السلطات الفرنسية، وأعني السلطات الحكومية إسوة بالسلطات في المؤسسات المستقلّة المعنيّة بشؤون وسائل الإعلام السمعية والبصرية، إلى حجب محطة "المنار" اللبنانية، بذريعة العداء للسامية. وأيّاً كانت التحفظات حول هذا أو ذاك من برامج المحطة، فإنّ القرار تعسّف صريح ضدّ الرأي الآخر، وقمع لحرّية التعبير، في بلد الأنوار وحقوق الإنسان والثورة الفرنسية. وأمّا الجانب الآخر من الواقعة فهو الحقيقة البسيطة التي تقول إنّ "المنار" تتوجّه إلى جمهور عربي، بل إلى شرائح منه ذات مزاج إسلامي حصراً، وبالتالي فإنّ الإتكاء على حكاية العداء للسامية لا يبدو مضحكاً فحسب، بل هو فضّاح للأسباب السياسية والثقافية التي كانت الدافع الحقيقي وراء قرار الإغلاق.
مظهر آخر لانحطاط حرّية التعبير جري في بريطانيا مؤخراً، حين اقتحم مئات من المتظاهرين السيخ مسرح الـ Rep في برمنغهام، وتمكنوا من إيقاف مسرحية "الخزي" لأنها في رأيهم تسيء إلى مشاعر السيخ وتشوّه معابدهم. ولم يشفع للكاتبة غوربريت كاور بارتي أنها من السيخ، وأنها في بروشور المسرحية تمتدح ما تنطوي عليه ديانة السيخ من قِيَم التراحم والمساواة. جنايتها هي القول إنّ هذه القيم السامية ذاتها يمكن أن تتعرض للتشويه على يد الأفراد، وبسبب الجشع إلى المال والسلطة، وهذا هو المستنكَر الأكبر في ناظر رؤوس التعصّب. وكما نحضّ عادة على تنزيه الغالبية الساحقة من المسلمين عن أعمال العنف والتعصّب والتطرّف التي تقوم بها قلّة قليلة من المسلمين، كذلك ينبغي أن ننزّه جموع السيخ في بريطانيا عن عمل غوغائي متعصّب غير قانوني ارتكبه أربعمئة من أصل أربعمئة ألف.
وفي تقديري أننا إزاء وقائع مثل هذه يجب أن نبدأ من التمسك التامّ بالحقّ في حرّية التعبير، خصوصاً حين يتصل الأمر بالأعمال الإبداعية، وأياً كانت المظانّ والطعون ضدّ العمل. وبالطبع الحقّ في حرية التعبير يشمل أيضاً حقّ المرء في ممارسة مختلف أشكال الاحتجاج القانوني على هذا أو ذاك من الأعمال الفنّية، كأن يخرج المرء في تظاهرة سلمية أو حتى أن يرفع دعوى أمام القضاء... طبعاً في البلدان التي يكون القضاء فيها سيّداً ومستقلاً!
الجانب الثاني، والجدليّ، من المسألة هو أنّ تنظيم حرّية التعبير في الغرب المعاصر يخضع غالباً لمعايير الكيل بمكيالين. بمعنى أنّ عملاً يطال الإسلام مثلاً قد يُعامل معاملة مختلفة عن عمل آخر يطال المسيحية أو اليهودية، سواء من حيث حجم ونطاق الضجة الإعلامية، أو الإجراءات القانونية التي تتخذها الدولة. وعلى سبيل المثال، السابقة الأبرز لقمع الأعمال الفنية في التاريخ البريطاني المعاصر كانت توقيف مسرحية "الهلاك" Perdition، للمسرحي وكاتب السيناريو البريطاني المعروف جيم ألن، الذي يعدّ الشريك الإبداعي الأوّل للمخرج السينمائي الكبير كين لوش. والتوقيف جرى في لندن، ثمّ في دبلن، سنة 1987 لأنّ المسرحية تتناول التواطؤ بين الشخصية الصهيونية البارزة رودولف كاشتنر والضابط النازي الأشهر أدولف إيخمان. وكانت الصفقة تنطوي على تسهيل النازيين هجرة 2000 من اليهود الهنغار إلى فلسطين، مقابل سكوت المؤسسة الصهيونية عن سوق قرابة نصف مليون يهودي إلى معسكرات الاعتقال!
كذلك نتذكّر أنّ القوانين المعمول بها في بريطانيا اليوم حول قضايا التشهير ضدّ العقائد والأديان، وهي إجمالاً التشريع المعروف باسم قانون التجديف Blasphemy Law، تؤمّن الحماية للديانة المسيحية، وبالأحرى للمذهب الأنغليكاني وحده تقريباً. ولأنّّ بريطانيا تستعدّ اليوم لتعديل ذلك القانون وسنّ تشريعات جديدة تتيح للأقليات الدينية الأخرى ضمانات أفضل أمام القانون، فإننا استطراداً نشهد ما يشبه "حروب تحسين المواقع"، إذا جاز القول، تخوضها بعض الأقليات الدينية النافذة لإسماع صوتها والتشديد على حقوقها، ولكي يخرج القانون ملبيّاً على نحو أفضل لهواجسها.
ولا بدّ أيضاً من وضع مختلف وقائع انحطاط حرّية التعبير في سياق تراجع الحرّيات العامّة في الغرب جرّاء القوانين التي صدرت بعد 11/9، والتي تتذرّع بمكافحة الإرهاب وحماية أمن الأوطان والمواطنين، ولكنها في الواقع تنتهك حرّية التعبير على نحو صارخ ومباشر، وتعيد إنتاج مكارثية جديدة في صلب الهيكلية القانونية في معظم الديمقراطيات الغربية. وبالطبع، تذكّرنا واقعة إغلاق مسرحية "الخزي" في برمنغهام، أنّ مشكلة الغرب ليست منحصرة في أصولية إسلامية قائمة أو قادمة، بل في أصوليات أخرى من مشارب ومذاهب قد لا تخطر على البال.
ولا مناص للغرب، والحال هذه، من ابتكار مكاييل جديدة فوق ما يتوفّر من مكاييل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ