الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشك

جمال بنورة

2011 / 12 / 25
الادب والفن


ساعات النهار تمضي بطيئة … ثقيلـة … وهي لم ترزق بعد بأبناء تنشغل بهم … ويستأثرون باهتمامها. أثناء غياب زوجها في عملـه، وعمل البيت لا يأخذ من وقتها سوى ساعة أو ساعتين … ثم تبدأ في الاستعداد للقـاء زوجها … وتضيع معظم الوقت في ذلك … وهي تجلس أمام المرآة نهباً للتفكير الصامت الحزين، والانتظار الشاق … الذي يحرق أعصابها … دون أن تجد شيئاً تفعله غير ذلك. لم تكن "هدى" تحتمل بعد زوجها عن البيت … وتكره أن يشغله عنها شيء … وإذا ما تأخر عن موعد قدومه تتأكلها الغيرة وتذهب بها الظنون كل مذهب …فقد سرى في أعماقها هاجس بأن شيئاً ما يجري في الخفـاء … شيئاً ما يتهدد سعادتها … وينذرها بالشقاء. كانت تحس بأن زوجها لا يعيش معها إلا بجسده … فهو دائماً سارح في أفكاره … بعيد عنها بمشاعره.
لا شك أنه أحس أخيراً بشكوكها تحوم حوله … يؤكد ذلك تغيره المفاجئ نحوها … جفاؤه إذ يتصنع الحديث معها … ذلك التعبير القاسي في ملامحـه …صمته … تلك النظرة المطلة من عينيه، والتي لا تدري أي معنى تغلف في طياتها … غيابه الطويل عن البيت، كأنـه يتهرب من رؤيتها … أو يتجنب نظرة الاتهام التي تطالعه بها …
وهي تحس الآن بالندم لأنها لم تستمع لنصيحة زوجها عندما طلب منها أن ينتقلا إلى مسكن آخر … إذا كان في هذا نهاية شكوكها … ولكنها لم تقبل … لم تشأ أن تقر بالهزيمة أمام غريمتها … كما لم تشأ أن تعترف بشكوكها أمام زوجها … وقد حدس "رياض" أن بين زوجته وجارتها حقداً دفيناً شعر به خلال حديث زوجته عنها … كانت إذا ما سمعت اسمها ينطق به أمامها … لا تتمالك نفسها من الانفعال الجامح … فهي تثور فجأة، وتهاجمها بعنف … وتبدأ في نقد تصرفاتها … وتتهمها بما يقفز إلى لسانها من ألفاظ … وعيناها مركزتان على زوجها تقرأ تأثير كلامها على ملامحـه … وتنعتها بالمرأة الصفراء والتافهـة حيناً … واللعوب حيناً آخر … كأنما تحذره منها … أو كأنما تعبر عن سخطها عليها ومخاوفها من أن ينجذب إليها … أو يقع في حبائلهـا …
وكان رياض يعتصم بالصمت … مستهجناً ثورة زوجته دون أن تبدر منه كلمة اعتراض على ما تقول … خشية أن تؤولها كيفما تشاء … رغم أنه لم يكن من رأيها فيما تقـول … فقد كانت تربط بين العائلتين علاقة صداقة وجوار … مذ سكنا هذا الحي، وتعرفا على سامي وزوجته فايدة. وكانت بينهما زيارات مجاملـة أحياناً، عندما يعود سامي من عمله البعيد مرة كل أسبوعين أو ثلاثة. وفي أثناء غيابه، كانت زوجته تعنى بأطفالها ، وتتبادل الزيارات مع جاراتها خلال النهار، وبصفة خاصة مع زوجته التي لم تكن تظهر أمامها شيئاً من مشاعر الحقد والغيرة التي تصبها عليها في غيابها.
وقد يتفق مرة أن يعود إلى البيت فيجدها جالسة مع زوجته … فتتلكأ في الخروج، ويدعوها للجلوس ثانية … فتجلس في تردد وحيـاء على مضض من زوجته التي يعروها الاضطراب والغيظ … ويتبادل معها حديثاً متقطعاً … محرجاً … يسألها عن أخبار سامي فتجيبه في مرارة:
- أخبـاره معه …!
يسألها في تلعثم:
- ألا يبعث رسائل:
تضحك في استهزاء:
- لماذا يبعث رسائل؟ ماذا سيقول في رسائلـه؟
- ألا يوجد لديه ما يريد أن يقوله لك؟
تقول بلهجة ذات مغزى وهي تبتسم:
- لقد قلنا لبعضنا كل شيء …!
يرد مازحاً: - ألم يبق شيء آخر؟
وندم على سؤاله الأخير وشعر أنه يتورط معها في حديث خصوصي لا شأن له به … قالت وهي تهز كتفيها وقد اتسعت ابتسامتها:
- لا …!
قال كأنما يتخلص من الإحراج الذي سببه لنفسه:
- على الأقل لتطمئنوا عليه …!
- نحن هكذا … مطمئنـون …!
وبعد فترة صمت … كأنما لا يجد شيئاً آخر للحديث:
- لقد طالت غيبته هذه المـرة … شهر تقريباً …!
قالت بتحسر: - وأحياناً … أكثر …
وبعد قليل تململت للذهاب، واتخذت أبناءها حجة لانصرافها:
- تركت الأولاد وحدهم في البيت … لا أدري ماذا يفعلون الآن؟
قال في مجاملة:
- ستشربين القهوة أولاً …
وتلفتت هدى إلى الناحية الأخرى متجاهلة طلبـه …ويرميها بنظرة متفحصة متسائلة … فتبادله نظرة ممانعة وتحدٍ … وتستأذن جارتهم وتنصرف وما تكاد تختفي وراء الباب حتى تثور بين الزوجين زوبعـة لا تكاد تهدأ …
- أنا لا أفهم اهتمامك بها على هذا الشكل …؟
قال في استنكار: - أنا لا أهتم بأحد …
- لا أدري كيف تحتمل سخافتها طوال الوقت …!
- هل يجب أن نطردها؟
- لماذا تحشر نفسها بين زوجين؟
- نحن طلبنا منها أن تبقى …!
- ليس نحن … بل أنت!
- حسناً وماذا في ذلك؟
- أنت قل لي ماذا في ذلك! … ما معنى ان تجلس وتتحدث معها في انسجام تام … بينما تتجاهل وجودي؟
- أنت مخطئة …!
- لقد كنت تبتسم لها طول الوقت … وهي تقابلك بالمثل لأنها تريد ذلك … وتتمناه.
- أنت تتصورين أشياء سخيفة وغير معقولة.
- بل إنها الحقيقـة.
قال غاضباً، وهو ينهض:
- لقد اصبح التفاهم معك من الأمور المستحيلة …!
******
الجلوس عند النافذة عصر كل يوم … ربما إلى ما بعد المغيب، عادة تحافظ عليها … فهي تنتظر مجيئه في لهفة ووجل، وتراقب الطريق الذي يمر فيه … وعلى الأخص جارتهم في المنزل المقابل. فهي تخرج في مثل هذا الوقت من البيت … وكأن ذلك يحدث مصادفة … ثم يكون اللقاء في عرض الشارع أثناء عودة زوجها … يتبادلان النظر أو تحيـة هامسة ثم يسير مطأطئ الرأس … وإذا لم يجدها ترتفع أنظاره إلى بيتها كأنما يستفسر عن سبب غيابها … كل هذه الأمور اعتادت أن تطالعها كل يوم. ولم يضعف شكها يوماً واحداً … لم يمر يوم دون مراقبة ومعاتبة بين الزوجين ونقار قد يشتد إلى حد الصراخ … ثم يهدأ تدريجياً … وينصرف كل منهما إلى زاوية من البيت … ينفصلان في الجلوس والأكل والنوم … وطال هذا الحال حتى أصبح غير محتمل. ولم تكن محاولاته لاسترضائها ونفي شكوكها إلا لتزيدها شكاً. كانت تريد أن تقتنع ببراءته ولكنها لا تستطيع، وهو ما زال على صمته وعبوسه، وجفائه. لم يستطع أن يثبت براءته، وإذا ما خفت شكوكها يوماً، وخبت نار غيرتها … فإنها تعود في اليوم التالي أشد مما كانت عليـه.
وفي هذا اليوم تأخر كثيراً عن موعده … وتوجست من تأخره، خشيت أن ينفذ إحدى تهديداته … ولا يعود إلى البيت. شعرت بغصة في حلقها تكاد تخنقها، واغرورقت عيناها بالدمـوع … كانت ثورة جامحة تجيش في صدرها … على نفسها، وعلى حظها التعس … وعليه أيضاً ، هو سبب عذابها … لماذا يجعلها تشك فيه …؟ إنها لا تحتمل فكرة أن تشاركها فيه امرأة ثانية … بل لا تكاد تصدق أن ذلك يمكن أن يحدث … ولكن كل الدلائل تشير عكس ذلك! إنها لا تستطيع أن تتصور أنه يمكن أن يفكر في امرأة غيرها … لماذا؟ هل تملك امرأة غيرها اكثر مما تملك هي؟ هل تستطيع أن توفر له السعادة أكثر منها؟ لقد كانا سعيدين معاً … فما الذي حدث؟ لماذا يجعل من سلوكه مثاراً للشبهة؟ لماذا لا يستطيع أن يثبت براءته أمامها …؟ لماذا لا يأتيها نادماً يطلب منها الصفح … فإنها لم تعد تحتمل هذا الحال؟
وانهمرت دموعها في بكاء صامت … وتمنت من أعماقها أن يعود إليها، ألا يتركها وحيدة بين هذه الجدران الصماء، وسوف تنسى كل شيء … وتبدأ معه من جديد … فليس من المعقول أن تستمر حياتها هكذا …
وأخذت الظلمة تسدل ستارها على الكون … وعبر النافذة رأت شبحاً يتحرك عند طرف الشارع. كان يسير بخطى متثاقلة، خافض الرأس كإنسان مثقل بالهموم، أو كأنه يخجل من مواجهة الناس … لقد عرفته حيياً متردداً … حتى في علاقتهما الخاصة … وكانت تظن ذلك أدباً منه … فما بال نظرته لا تنكسر أمام بحلقة جارته التي تعيش كزوجة مهجورة … والتي تتفنن للإيقاع به، وتود لو تأكله بنظراتها الشرهة كلما وقعت عيناها عليه؟
واتضحت لها صورة زوجها مع اقترابه من البيت بقامته النحيلة … ومشيته المتمهلة … وها هو جارهم الذي قدم من يومين خارج من منزله. وسوف يلتقيان بعد قليل … وها هو زوجها يمد يده لمصافحته … وترتسم ابتسامة ساذجة على شفتيه. إنه طبعاً لا يستعجل لقاءها …! فهو ليس في شوق إليها! وزايلها البكاء الصامت لتحل محله مرارة قاسية، وقهر، ورغبة في الانتقام … إنهما يتحدثان في انسجام … وعدم استعجال للوقت … غير شاعرين بوجودها، وبما يعتمل في صدرها. يتبادلان بعضاً من تلك العبارات السخيفة التي لا بد من قولها في هذه الحالات، والتي تؤكد حرارة المقابلة ولو لم تكن كذلك. وأصاخت السمع لتلتقط بعض حديثهما. كان جارهم الذي يتكلم:
- أين يا رجل …؟ إننا لا نراك … ألا نستحق الزيارة؟
- لم أكن اعرف أنك هنـا …!
قال ذلك زوجها بصوته الهادئ المنخفض.
- إنني هنا منذ يومين … غداً تنتهي الإجازة ( ثم بعد قليل ) وأنت ما هي أخبارك؟
- كما تعهدها … لا جديد …
وبدت لها المقابلة أسخف مما تصورت. اسخف من حديث يدور بين رجلين يفكر أحدهما بزوجة الآخر … بينما يبادله عبارات المجاملة والصداقة … وبدت لها الأشياء غير واقعيـة … وغير قابلة للتصديق … كانت تنتظر بفارغ الصبر أن ينتهي كل شيء … هذه المقابلة السخيفة … عذابها المقيم … وخيانة زوجها … كانت تريد أن تضع حداً لكل هذا … ولكنها لا تعرف كيف … كان زوجها يريد أن يتخلص من إلحاح جاره. وكان هذا يشد على قبضة يده، ويدعوه للدخول.
وانتفض قلبها خوفاً. كان زوجها متردداً … وغريمتها سوف تفرح بقدومه … سيصبغها الحياء أمام زوجها … ستغرس أنظارها في الأرض، بينما تختلس إليه النظر بطرف عينها … سوف تنظر إليه في تواطؤ وتشجيع … وتظهر على شفتيها ابتسامة خفيفة … لا يلحظها إلا هو. وهي لن تحتمل كل هذا … لن تسمح أن يحدث ذلك تحت سمعها وبصرها … وتهيأت للنهوض عندما سمعت زوجها يعتذر إلى جاره ويهم بالمسير. وكان الآخر يتمسك به قائلاً:
- الليلـة … هل ستأتـون؟
- سأحاول …
ويقبل زوجها نحو البيت، بينما أضاءت مصابيح الشارع. ونظرت إليه في إمعان.كانت أساريره منبسطة، وآثار تلك البسمة الساذجة على شفتيه … وكانت تضيق كلما اقترب من البيت … ورأت مقبض الباب يتحرك من الداخل في غير ضجة. ودلف زوجها إلى الغرفة، وأقبل في تمهل إلى حيث تجلس أطال إليها النظر كأنما يتفحصها. كانت تشيح بوجهها إلى الناحية الاخرى، ثم تعود للنظر إليه كأنما لتستكشف في هيئته شيئاً جديداً … تكاد ترتسم على شفتيه تلك الابتسامة الساذجة … لا … ليست ابتسامة بالضبط! وإنما عملية تقلص وانبساط في عضلات الوجه، كابتسامة ممتنعة … إنه يحاول أن يبتسم فلا يستطيع. ونظرت إليه طويلاً لترى أين اختفت تلك الابتسامة … لم يعد يطالعها بها … ويلقي عليها تحية باردة متعبة … فترد بصوت هامس متهدج. ويجلس من غير أن ينظر إليها. يلفها صمت ثقيل … ويتنهد طويلاً وهي تترقب، يختلس إليها النظر … ويتراجع … تنفرج شفتاه في تردد … حتى فهمت أنه يريد أن يقـول شيئاً … وقذف بالكلمات من فمه مرة واحدة … كأنه يريد التخلص من عبء ثقيل:
- جارنا ينتظر أن نزوره الليلـة. هل نذهب؟
وتنهدت. وتفحصته بنظرات محايدة … كان صدره ينبض بالترقب خلال فترة الصمت التي لبثت برهة طويلة. ثم قالت بنبرة مصالحة:
- إذا كنت تحب ذلك؟
سارع يقول: - لا فرق لدي … هل ترغبين أنت؟
قالت بلهجة أوحت بالموافقـة:- كما تشاء …
وعندما كانا يستعدان للخروج، ورأت اهتمامه الزائد في ملبسه وأناقته. قالت بلهجـة تتراوح بين المزح والجد:
- هل تشعر أنه يجب ان نذهب؟
استدار إليها على نحو مفاجئ وأدام فيها النظر بهيئة تفكير. كان يخشى الرد عليها … فهي دائماً تتصيد كلماته … وتدينه بها … قال:
- ما رأيك أنت؟
كانت متحيرة … وبعد صمت، أجابت بلهجة تصطبغ بحياء العذارى:
- أنا؟ … أريد أن تكون هذه الليلـة لنا … لا يشاركنا فيها أحد …
قال بلهجة استغراب:
- ولكننا دائماً معاً؟
عضت على شفتها حانقـة، وقالت:
- يعني أنت تصر على الذهاب؟
قال متهكماً:
- لقد وافقت منذ قليل … فلماذا تغيرين رأيك بهذه السرعـة؟
قالت بغصب:
- وأنت لماذا تتصلب في رأيك؟
وأحست بقبضة ثقيلة تعتصر فؤادها … وعاد سوس الشك ينخر في صدرها … بأظافر طويلـة مدببـة. نظرت إليه في تطلع نهم … ومن خلال شفتين مزمومتين، قذفت بكلماتها كأسـهم حادة تخترق صدره:
- تريد أن تذهب لرؤيتها …؟؟!!
واختلجت شفتاه كمن سيغلبه الضحك … ولكنه كان يشعر بالأسى … وامتقع وجهه فجأة تحت سياط نظراتها … وقالت في شبه صراخ:
- لماذا لا ترد؟ … اعترف … قل الحقيقـة …!
وبسحنة مربدة، ونظرات حادة … أخذ يرنو إليها … وهو يشعر برغبـة في التنفيس عما يجيش في صدره … فأخذ يتكلم بصوت يائس ضعيف محتـد:
- بماذا أرد … بعد كل ما قلت؟ … إنك لا تدعينني أبداً - أتحدث … لأنك لا تريدين أن تسمعي … كل ما يمكن قوله الآن … إنني لم أكن أعرفك … بهذه العقلية … قبل أن نتزوج …
وتوقف إذ رآها تحدق فيه بعينين مشتعلين غضباً … وتصر بأسنانها في عنف … وبدت كمن أصيب بصعقة مفاجئة … ثم قال في برود:
- هل ستذهبين أم لا؟
قالت بصوت يائس:
- لا … لن أذهب … اذهب وحدك … فهذا ما تريده …
ومشى بخطى بطيئة صامتة نحو الباب … ثم توقف قليلاً، ومر بيده على ربطة عنقه. وعندما أراد أن يخرج … تناهى إلى سمعه نشيج مكتوم … توقف ثانية في تردد … ثم قفل راجعاً وهو يقـول:
- لا … لن أذهب … أنا أيضاً …
******
في طريق عودته إلى البيت، كان يسير خافض الرأس واضعاً يديه في جيبي بنطاله. وعلى مقربة من بيته سمع صوت نداء … لم يكن موجهاً إليه … التفت بحركة غريزية تجاه الصوت. كانت جارته واقفة أمام بيتها، وطفلها يلعب بالقرب منها … كانت تناديه بصوت مرتفع، وتختلس النظر إلى الطريق … التقت أنظارهما معاً … رفت على شفتيها ابتسامة غامضـة، ولم يكن أمامه من مهرب … ابتسم لها، وهو يحييها بصوت خفيض كأنما يخشى أن يسمعه أحد، فردت عليه بصوت مرتفع. وأتبعت ذلك بلهجة جريئة معاتبـة:
- نحن لسنا من مقامكم …!؟
توقف عن السير فجأة، كأن شيئاً يشده إلى الخلف … وصوب نظره إليها في هيئة استغراب وتساؤل. كانت عيناها تلتمعان … وتتوالى تعبيرات غامضة تظهر وتختفي على وجهها:
- انتظرناكم في الليلـة الماضيـة …!؟
واشتدت ضربات قلبه وشمله الارتباك والتلعثم وهو ينظر إليها في انجذاب كلي … لم يسعفه لسانه بالرد … كان مأخوذاً بالنظر إليها … كأنما يتعرف عليها لأول مرة بقامتها الممشوقة وجسدها اللدن ونظراتها الناعسة التي تكاد تنزع الأرض من تحت قدميه. وأخيراً تمالك نفسه ليقول دون تفكير:
- والله … لم نتمكن …!
قالت وهي تميل برأسها:
- لا … أنا اعرف … ليس هذا السبب …!
ماذا يعني كل ذلك؟؟ لقد تورط في الحديث معها … ولم يعد يعرف كيف يتصرف أمامها … أحس أنه غارق في الخجل والارتباك حتى أذنيه … وحاول أن ينزع نظره عنها، ويستأنف سيره … ولكنه لم يكن يرى أمامه … وتبعه صوتها ثانية في نبرة عتاب:
- سنتعلم أن نصدقك في مرة ثانية …!
وأحس لأول مرة أن عقله يتفتح، ويستوعب أشياء لم يكن يعرف كي يفسرها. وجعل يتساءل: هل يمكن أن تكون شكوك زوجته في محلها؟ لم يحاول مرة أن يفهم … أن يبصر بأعماقه … كانت زوجته ترى اكثر منه، وتفهم أكثر منه. وكانت تتهمه بما تراه … لم تحاول أن تتلمس له العذر، ولم تستمع إليه عندما طلب منها أن ينتقلا من هذا المكان … وتلبسه حنق شديد على زوجته … وثارت في صدره مراجل الغضب. أحس أنه يكرهها … رغم ما يحمله لها من حب … وعندما وصل البيت، وجد زوجته ترتدي ثياب الخروج … وقف ينظر إليها مبهوتاً … دون أن تلتفت إليه أو تعيره أي اهتمام … ساد بينهما صمت ثقيل لبعض الوقت قطعه بصوت حاد متسائلاً:
- ماذا تفعلين؟
ولكنها لم ترد. عاد يسأل بلهجة غاضبـة وهو يقترب منها:
- إلى أين ستذهبين؟
استدارت نحوه في تحفز شرس. ألقت عليه نظرة يتطاير منها الشرر، وانفجرت قائلـة:
- سأترك لك البيت … لتفعل ما تشاء …!
وأمسك بيدها في عنف قائلاً:
- إذن … فقد كان رأيك في دائماً هكذا …؟
وهي توجه إليه نظرة اتهام:
- لن تستطيع الإنكار بعد اليـوم.
وحاولت أن تسحب يدها من قبضته، ولكنه ظل ممسكاً بها في قـوة. عاد يسألها محاولاً أن يخفف من حدة لهجته:
- ألا تشعرين بالخجل من وساوسك؟
قالت بسخريـة: - من منا يجب أن يخجل؟
وأحس بشيء يغوص بين ضلوعه. وقال:
- أنت مجنونـة … لقد أعمتك الغيرة عن رؤية الحقيقة … يجب أن تكفي عن ذلك.
ثم استطرد قائلاً بعد قليل:
- لن أسمح لك بالذهاب …!
قالت مهتاجة:
- لم يعد البقـاء محتملاً في هذا البيت … لن أبقى … لن أبقى … ابعد عني …!
حاول أن يعترض طريقها فدفعته في صدره، وهي تصرخ:
- لن يمنعني شيء من الذهاب …!
لم يتمالك نفسه من صفعها على وجهها … وأخذت تبكي في حرقة … ثم انسحبت في هدوء من الغرفـة … ما زال صوت بكائها يطن في رأسه … وتهاوى على مقعد قريب. وضع رأسه بين يديه، وأحس أنه يكاد يفقد الوعي … ومضى بعض الوقت دون ان يعلم أهو نائم أم مستيقظ … ثم فتح عينيه فجأة … أحس بالهدوء يخيم فيما حوله. نهض في تثاقل ، وجاس في أنحاء البيت … لم يجد لها أثراً … وقف متحيراً … لم يكن يدري ماذا يفعل … ثم عاد يجلس في صمت، وأشعل سيجارة وأخذ يسحب أنفاسها في عصبيـة.
كان قد بدأ يفكر في جـارته التي كانت السبب فيما جرى بينه وبين زوجته عندما سمع نقراً خفيفاً على الباب، انخلع له قلبـه. وقفزت صورة فايدة إلى مخيلته حتى قبل أن يراها.
- أدخل …!
قالها، وهو يجلس في مكانه كأنما لا يقوى على القيـام.
وتضوعت في الغرفة رائحة عطريـة بدخول جارته عليه … كان يسود ظلام خفيف.اقتربت خطواتها منه وهي تسأل:
- أين هدى؟
قال كأنما إنسان آخر يتكلم: - ليست هنـا.
قالت متجاهلة جـوابه:
- هل تجلس وحدك؟
نهض وهو يقـول: - نعـم.
بدا التردد عليها بين البقـاء والذهاب … ثم قالـت:
- إنني سأذهب …
قال بسرعـة، وقد بدت على وجهه انفعالات غامضـة:
- تفضلي.
قالت بعد لحظـة: - أنت لست طبيعياً … هل حدث بينكما شيء؟
- نعـم …
- كيف تدعها تذهب؟
- هي أرادت ذلك … لم أستطع أن أمنعها …
بدت كأنما تبحث عن شيء تقـوله، لتؤخر خروجها من عنده:
- ربما تكون قد أزعلتها؟
" إنها لا تعرف إنها هي السبب … أو هي تعرف وتتجاهل".
- أبـداً …
- ألن تذهب لتجيء بها؟
- سوف تعود وحدها …!
ثم بعد قليل وهو يكاد يأكلها بعينيه:
- لماذا لا تجلسين؟
- أوه … أنت ذكرتني … لقد نسيت نفسي في الحديث … يجب أن اذهب.
- لماذا أنت مستعجلـة …
قالت في ابتسامة ذات مغزى:
- ماذا يقال … لو رآنا أحد نجلس وحدنا هنـا؟
لم يعد يحتمل دقات قلبه المتسارعة … قال في لهفـة:
- لن يرانا أحد …!
شعر أنه لم يبق عليه سوى أن يتقدم منها ويحتضنها بين ذراعيه … ولم يدر ماذا يؤخره عن عمل ذلك …؟ لماذا يقف متردداً؟
قالت مبتسمة: - لماذا تنظر الي هكذا؟!
- أنا …؟ هل تجدين شيئاً في نظراتي إليك …؟
- أنت تعـرف …!
وإذ لم يقل شيئاً عادت تقـول:
- يجب أن أسرع بالذهاب …لا بد أن الأولاد قد ناموا الآن … لقد تركت البيت مفتوحاً … كنت اعتقد أنني سأجد هدى هنـا … ولكن للأسف …
وقبل أن تخرج عادت تقـول:
- هل أنت في حاجـة إلى شيء أعمله لك قبل أن أذهب؟
قال دون تفكير: - لا … شكراً …
- إذا احتجت إلى شيء … فلا تتردد في المجيء إلينا …
وابتسمت في تشجيع … لتمنع عنـه التردد. قـال:
- سوف آتي …
ودعته بنظرة طويلة والابتسامة ما زالت عالقة على شفتيها وخرجت.
كل شيء واضح في كلامها وحركاتها وإشاراتها الغامضـة … سوف تنتظره الليلـة …سيذهب إليها … إنه لا يستطيع صبراً على ذلك … كان يشعر برغبة جارفة في احتوائها بين ذراعيه … ولكنه شعر أيضاً أنه تأخر عن عمل ذلك … فقد كان يجب أن يحدث ذلك وهي هنا … ولا يدري إذا كان سيستطيع ذلك ثانيـة … ولكنه سيذهب إليها على أية حال … ألم تدعه إليها …؟ إن دعوتها له لا تحمل الا معنى واحداً.
وشعر بالدماء تلتهب في عروقه … وتتصاعد إلى رأسه بعنف. وأشعل سيجارة. ونفث سحابة من دخانها … فأحس بجفاف في حلقـه. انتقل إلى المطبخ، وأفرغ كوباً من الماء البارد في جوفـه. ولكن ذلك لم يزده إلا اشتعالاً … كانت أعصابه مضطربة، وكان لا يزال يحس بوجودها معه … في كيانـه … في أعصابه … كان يراها بعين خياله تتحرك أمامه، وتبتسم في إغراء، وتدعوه إليها.
وطال جلوسه وهو ينتظر أن يسود الظلام ليذهب إليها … كان الوقت يتغذى من أعصابه في انقضائه البطيء المرهق … ومع انتشار الظلام … أحس بالهدوء يعود إليه ثانيـة. استعد للخروج، ونزل إلى الشارع. لم يجد الجرأة للولوج إلى البيت مباشرة. أخذ يتمشى أمام البيت، وأحس بالهواء البارد يرطب حرارتـه المرتفعة. لا شك أنها تنتظر قدومـه الآن وتتهيأ له. سوف تصدق فيه شكوك زوجته … سيكون خائناً بحق … ولكن لماذا التفكير بها في هذا الوقت؟ … هل سيدخل الآن أم يجعلها تنتظر قليلاً؟ وقطع الشارع مرتين أو ثلاثاً وهو يراقب البيوت من حولـه. كان الهدوء يخيم في الشارع … وقد أوى الجميع إلى منازلهم. سيقطع الشارع مرة أخيرة ثم يدلف إلى البيت. وبدأ الاضطراب يعتريه ثانية. أحس بتوترات داخلية لم يقو على كبح جماحها … وأصابه ما يشبه الحمى. ونفخ في قوة كأنما يحاول التنفيس عن مشاعره. كان يقترب من البيت عندما برز في الظلام شبح إنسان يتقدم نحوه. أحس بالخوف - إن أي إنسان يستطيع أن يقرأ أفكاره وتعبيرات وجهه وهو في مثل هذا الاضطراب … وسار مبتعداً إلى طرف الشارع … متجنباً النظر إليه أو التعرف على شخصـه. أحس أنه لن يصمد أكثر من ذلك. إنها تجربـة سوف يصلى بها … ولكنه يخاف منها … يتردد في اجتيازها … مع زوجته تجري الأمور عادية … في بساطة … وفي هدوء … بدون توترات … بدون جموح … بدون خوف. وأحس بمزيج من الفضول والتردد … صاحب ذلك هبوط في درجة انفعاله … وخفوت في شهوته. بدأ يستسلم لنداء خارجي … إنه ليس في حاجة إلى أن يمر بتجربة جديدة. وقبل أن يصل … أخذ يفكر في زوجته … لاشك أنها تتعذب الآن … ربما أحست بالندم على فعلتها وشكوكها فيه … لا بد أنها تحاول الآن أن تطرد الشكوك من رأسها! لماذا لا يثبت لها الآن أن شكوكها ليست في محلها … ليس أنسب من هذا الوقت لإظهار براءته … سوف تنتظر منه أن يذهب إليها … ويصالحها … إذا كان فعلاً يحبها … وشعر بشوق مفاجئ إليها … وقف عند مدخل البيت … ولكنه لم يتردد طويلاً. ألقى نظرة أخيرة على البيت الجاثم وسط السكـون … ثم واصل سيره … يلفحـه هـواء بارد … ويغمـر صـدره إحسـاس بالراحـة والسكينـة …

******








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح