الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللحن المتصاعد في الحالة دايت

هويدا صالح

2011 / 12 / 29
الادب والفن


دأب الكثير من النقاد الذي حاولوا التنظير للكتابة الجديدة على إطلاق مقولات من قبيل أن الرواية الجديدة لا تحتفي بالقيمة ، ولا تراهن على القضايا الكبرى والتساؤلات الكلية ، لكن في الحقيقة هناك من الأعمال الروائية التي اتسمت بالجدة من حيث التقينات السردية ، وحفلت بالملامح التقنية التي تعتبر خصيصة من خصائص الكتابة الجديدة ومع ذلك هي تراهن على القضايا الكبرى وتساءل العالم ، وتطرح الأسئلة الكبرى ومن هذه الروايات التي صدرت مؤخرا رواية : " الحالة دايت .. سيرة الموت والكتابة " للروائي والناقد سيد الوكيل .
منذ البداية ، راهن سيد الوكيل في مشروعه السردي على التمايز عما هو سائد، فحتى عندما أصدر مجموعته القصصية الأولى ( أيام هند ـ 1990) جاءت مخالفة للمزاج القصصي وقتها، الذي استسلم لغواية اللغة وتهويماتها على حساب المعنى فيما عرف ـ وقتها ـ بالقصة القصيدة،وحاول أن يجد لنفسه لغة خاصة لا تنتحل نفسها عبر المجازات والتراكيب مستهدفة صدمة القارىء بقدر ما تدعوه إلى الإدراك الدقيق لعلاقات الخيوط السردية التى ينسجها بمهارة، وكان صدور روايته الأولى : " فوق الحياة قليلا " في نهايات عقد التسعينيات . انطلاقة حقيقية لمشروعه السردي، فقد حرص على أن يقدم خطابا سرديا يتجاوز مفهوم النوع، وهو تجاوز لايقوم على اللغة بقدر ما يقوم على الخطاب، عندما يجمع بين خطابات جمالية تأتى من حقول معرفية أخرى غير السرد، تأتى من النقد والفلسفة، والسيرة الذاتية والوثائقية والتحليل الثقافي. لنجد أنفسنا أمام حالة كرنفالية تصطخب في فضاء المتخيل السردي.
ربما هذا هو التوصيف الأدق كمدخل لقراءة إصداره الأخير : ( الحالة دايت )، الذي لم يحرص على تصنيفه داخل منظومة الأنواع المعتمدة، وترك للقارىء هذه المهمة الشائكة، التى نحاول تلمس مفاتيحها هنا.
وقبل الحديث عن " الحالة دايت " يجب أن نتوقف قليلاً عند ( فوق الحياة قليلا ) بوصفها المحطة الأولى في مشروعه الروائي الذي مازال يتكشف على مهل، وهذا التوقف ضرورة تفرضها علينا الوشائج القوية بين العملين، ليس فقط على مستوى الخطاب، بل على مستوى الموضوع ذاته، فإذا كانت " فوق الحياة قليلا " تتناول حيوات المثقفين، فإن " الحالة دايت " تتحدث عن ميتاتهم، لهذا سنجد في الحالة دايت ، كثيرا من الإحالات ـ التى يقصدها الكاتب ـ إلى فوق الحياة قليلا، بل وإلى كثير من أعماله السردية السابقة، وهو أسلوب دأب عليه سيد الوكيل في مجمل أعماله، بما يلقى على القارىء بمهة صعبة، تستدعى أن يكون ملما بكل كتابات سيد الوكيل، ليقف على ملامح مشروعه، وربما لا نكون مغالين إذا قلنا، أن المشروع السردى عنده، لا ينفصل ـ أيضا ـ عن مشروعه النقدى، الذي يحاتج إلى وقفة خاصة.

في رواية ( فوق الحيا قليلا ) قدمّ سيد الوكيل خطابا معرفيا ونقديا محلالا للأنساق الثقافية السائدة إلى جانب التخييل السردي، و نوّع في مستويات السرد ، كما نوّع في استخدام الرواة ما بين الراوي العليم ، والذات الساردة ، والمؤلف الضمني والمؤلف الحقيقي للعمل . جعل الوكيل في " فوق الحياة قليلا "المؤلف في أكثر من موضع شخصية في الرواية مروي عنها فنجد الراوي في فصل : " كان محتاجا لمن يسكب قهوته ، يواجه المؤلف ( سيد الوكيل نفسه) ويتمكن من احتوائه ويحوله هو ذاته إلى شخصية ورقية مروي عنها، وهى حيلة مبتكرة، على نحو ما يشير الباحث مهدي صلاح في بحثه عن حضور المؤلف داخل الأعمال السردية تمكن سيد الوكيل من طرح ذاته وحياته الشخصية من غير ان ينغمس في طابع السيرة الذاتية ومسائلاتها، حيث يظل كل شىء معلقا في فضاء المتخيل الروائي وملتبسا به.
كذلك اعتمد الوكيل على تحليل الخطاب النقدي والثقافي ، وطرح القضايا الخلافية مثل علاقتنا بالغرب ، والمثقف الغربي ، وهذا الجدل والنقاش وإثارة القضايا الثقافية هو أحد رهانات الرواية ، كما يبرز صوت المؤلف المثقف الذي يحلل وينتقد ويتهكم على أحوال الثقافة والمثقف .
وفي تماهي بين المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني يقدم لنا نص : " فوق الحياة قليلا " نماذج للمثقفين وعلاقتهم بالواقع الثقافي مثل أحداث بعينها وشخصيات معروفة لقارئ الأدب لا يخطئها ، فيستعير أحداثا من الواقع الحقيقي ، ويفتح فيها كوة للمتخيل، فتصبح علامة نصية داخل النص ، ويقدمها لنا بشكل مجازي عن طريق إعادة إنتاجها ، فحتما فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل واقعة حقيقية ، ومجيئ الكاتب الفرنسي كلود سيمون لمعرض الكتاب ومشاركته في الاحتفاء بنجيب محفوظ أيضا واقعة حقيقية ، لكن كيف رآها مؤلف وسارد فوق الحياة قليلا اللذان يتماهيان حتى أن القارئ لن يفرق بين الصوتين إلا بصعوبة؟ وهذا هو المختلف والجديد في هذا النص.
وربما هذا ما سُمي بالوثائقية الجديدة، فالفهم التقليدي للوثائقية أن الكاتب يُدخل إلى عالمه السردي وثائق أو تواريخ أو وقائع يوظفها في أحداث الرواية مثلما فعل صنع الله إبراهيم في روايتيه " اللجنة " و " بيروت بيروت " حيث استخدم قصاصات الجرائد كنوع من التوثيق للأحداث في حين أن سيد الوكيل يستخدم الوثائقية الجديدة أو التسجيلية الجديدة حسبما أطلق عليها الناقد مصطفى الضبع بأن يدخل أحداثا أو شخوصا من الواقع لتتماهى في الفضاء التخييلي كعلامة نصية، وليس كواقعة مستقلة بذاتها تمتلك رصيدامن الحقيقة القاطعة.
كذلك عمد الوكيل في " فوق الحياة قليلا " إلى تحليل بعض الخطابات النقدية مثل تحليله لخطاب ما بعد الحداثة ومقولاته يقول : " ثم أسهب طويلا في الكلام عن قصيدة ما بعد الحداثة ، واعتمادها على مفردات الحياة اليومية ، والهموم الشخصانية لانسحاق الإنسان تحت هيمنة الأشياء ، ودعم كلامه بمقولات ميشيل فوكو وهابرماس ، فصفق له الجميع " .
تعوّد سيد الوكيل ألا يفارق مشروعه الإبداعي ، فهو دائم الإقامة فيه ، فهناك شخصيات تلح على الكاتب ، وتقيم داخله ، تعاوده من عمل لآخر ، وفي كل مرة يضيف إليها تفاصيل تدهش القارئ ، وكأنه لحن متصاعد يعزفه لنا سيد الوكيل عبر مشروعه السردي ، فشخصيات مثل إبراهيم فهمي ومحمد مستجاب تعيد كتابة نفسها وتواصل الإقامة داخل النسق الجمالي للوكيل ، فقد ناقش سيد الوكيل علاقته بهما أو لنقل علاقته بإبداعهما كناقد وكمبدع في رواية " فوق الحياة قليلا " وها هو يكمل مشهد البازل الذي بدأه فيها في كتابه الجديد : " الحالة دايت " فقد زاوج فيه بين الخطاب السردي الإبداعي والخطاب الثقافي المعرفي .
لحن متصاعد لم يكن فقط على مستوى الشخصيات التي عاود طرحها من عمل روائي لآخر ، بل تجلّى هذا اللحن المتصاعد على مستوى البناء الفني لرواية " الحالة دايت " فمنذ البداية يصدرها بمقطوعة جنائزية ، عدودة مصرية قديمة كمفتتح لكتاب " الموت " ، ثم يتحدث في القسم الأخير عن رؤية الموت في الثقافة العربية من خلال تحليله لشعر الرثاء لدى العرب ، وكأن الثقافتين المصرية القديمة التي تمثلت في عدودة المفتتح والعربية الثقافية التي تمثلت في تحليله لشعر الرثاء هما الإطار الذي يحكم ضفتي الحالة دايت . قسّم الوكيل الرواية إلى ثلاثة أقسام ، الأول هو كتاب الموت ، والثاني كتاب الموتى ، والأخير كتاب " الكتابة " . في الفصل الأول يمثل سردا خالصا ، يسرد فيه الموت كما لمسه واقعا حيا مؤلما حينما مرض الأب ومات ، فالإعداد لدفن الأب والرجوع بالفلاش باك لحياته وتفاصيل مرضه وعناية زوجة السارد به شغلت مساحات السرد في القسم الأول ، وجاء إيقاع السرد فيه كابيا مأساويا ، ممتلئا بشحنات نفسية من الحزن النبيل لفراق الأب الذي أعطاهم فرصا كثيرة لموته ، ورغم ذلك لم يعدوا له مقبرة تليق به وبالعائلة ، فاضطروا إلى دفنه في مدافن الصدقة .
يتصاعد اللحن عبر البناء السردي ، فنرى الكاتب في القسم الثاني ( كتاب الموتى ) يحاول أن يخفف حدة اللحن الجنائزي ، فيضفي على السرد جرعات من الإنعاش النفسي عبر روح الدعابة والفكاهة ، وفيه يمتزج السرد بالتحليل النقدي لبعض الأعمال الأدبية مثل رواية " يوميات امرأة مشعة " لنعمات البحيري ، ويساعد على تخفيف جرعة الحزن والألم التي توفرت بشدة في الفصل الأول قصيدة شعر لمحمود الحلواني كتبها في الراحل مجدي الجابري .
ثم يخلص إلى القسم الثالث فيقدم لنا لغة محايدة حرص على أن تقف على مسافة واحدة من اللغة الجنائزية في الفصل الأول واللغة المرحة المداعبة لروح الفكاهية في الفصل الثاني ، جاء الفصل الثالث ليحلل الأعمال الأدبية التي احتفت بالموت ، ثم يفاجئنا في نهايته بنعطافة مفاجأة نحو مأساة قد تكون هي الأكثر ألما في حياته ، رغم أنه حاول أن يتجنبها ، ويتجنب الحديث عنها طوال الرواية وأقصد موت الأم وطقوس دفنها ، الأم التي أهدى لها الرواية ، ولم نرها إلا عبر جمل قليلة وصغيرة فهو قد هرب من مواجهة موتها ومن وداعها . إذن يتصاعد اللحن في الحالة دايت عبر تصاعد الإيقاع النفسي للسرد عبر الأقسام الثلاثة .


يقف كتاب : " الحالة دايت " على تخوم السيرة الذاتية من ناحية والسيرة الغيرية من ناحية ثانية مما يذكرنا بمقولة شهيرة للناقد الفرنسي فيليب لوجون حيث يقول : " لم يُخْلَق الأدبُ فقط للكتاب الذين تنشر أعمالهم في سلسلة "لابلياد" (الشهيرة)، إنه للآلاف من الناس الذين يودون تبادل تأملاتهم وقراءة بعضهم البعض. إنها ممارسة جماهيرية". هذه هي المقولة التي صدّر بها لوجون كتابه : " العقد الأوتوبيوغرافي " وفيه حاول وضع تعريف دقيق لما سُمي بالسيرة الذاتية محاولا التفريق بينها وبين السرد السيرذاتي التخييلي . إذن كل منا يستطيع أن يكتب سيرته الذاتية ، متأملا حياته وحيوات الآخرين الذين مروا بها وتركوا بصمتهم عليها .
ومع ذلك ظلت السيرة الذاتية كجنس أدبي منزاحة دائما في أدبنا العربي إلى الهامش ، من هامش الكتاب والقراء معا ، وربما يعود ذلك إلى أن السيرة الذاتية الخالصة تحتاج قدرا من الصراحة وعدم الانتقائية ، وتعرية الذات أمام القارئ وهذا ما لم نتحمل ثمنه في أدبنا العربي. ولكي يهرب بعض كتاب السرذاتية من تطابق المؤلف والسارد والكائن السيري (الشخصية) يستخدمون ضمير الغائب، مثلما فعل طه حسين في أيامه ، وهذا يسبب خللاً سردياً يبتعد فيه السارد عن الشخصية ، والمؤلف عنهما معاً بالضرورة ، وقد يلجأ الكاتب إلى هذا التخفي حتى لا يصبح مسؤولا أمام قرائه عن أفعاله بشكل واضح ، ولكي يغالب الكتاب العرب ذلك الخوف من قوة الموانع السياسية والاجتماعية التي تدفع الكاتب إلى كتابة "سيرته الذاتية" تحت مسميات إجناسية أخرى، فقليل هي الأعمال التي كتب فيها الكاتب العربي سيرته الذاتية بشكل واضح ومحدد،بل يلجأون إلى حيل سردية ،فيهربون سيرتهم أو بعضا منها داخل الفضاء الحكائي .
وتلك القصدية من المؤلف تدفع القارئ إلى اعتبار النص السيرذاتي نصا روائيا ، حتى في حال اعتقاده بوجود التطابق بين شخصية الكاتب والسارد والبطل ، ولن يدخل القارئ على العمل بقصدية أخرى هي البحث عن ذات المؤلف داخل المتن السيري ، وأعتقد أن تعامله مع النص سوف يحدده التجنيس المقصود من قبل الكاتب وهل نصه سرد سيرذاتي أم سيرة ذاتية واضحة وصريحة .
ذلك ما فعله سيد الوكيل في كتابه " الحالة دايت " فهو يكتب حياته ، ويكتب حيوات من مروا بها ، لكنها ليست سيرة حياته أو حيوات الآخرين في المطلق ، بل هي سيرة الموت والكتابة ، سيرة الموت وليس الموتى ، إنه الموت يتملس خطواته ، بل ويطارده في مناماته وفي صحوه ليكتبه . لم تكن الحالة دايت كتابة عن الموتى ، بل عن الموت بيده الخشنة المتعرقة التي تغتال ضحايها بقسوة، كأن الكاتب أراد أن يفقأ عين الموت ويقترب منه ليس حزنا على أحبة اغتالهم ، بقدر ما هو مواجهة صارخة للموت الذي ظل يخشاه طوال عمره ، بل يخشى أن يموت بعيدا عن هويته ، لذا يحاول أن يصنع للموتى الذين يختارونه ـ وأقول يختارونه لا يختارهم ليكتبهم ـ يصنع لهم هوية خاصة ربما تكون مغايرة عن هويتهم الحقيقية، هوية يراها هو بشكل خاص ، فالسرد قادر على أن يقتل والسرد قادر على أن يحيي ، فمثلما قتل سرد نجيب محفوظ سفاح مغارة حلوان في روايته " اللص والكلاب " يحاول سيد الوكيل أن يُعيد الحياة عبر السرد أيضا لكثيرين ممن فجعه موتهم ، يحاول أن يحيي والده و مجدي الجابري وسيد عبد الخالق وإبراهيم فهمي ومحمد مستجاب ونعمات البحيري وعلي شوك ومحمد عبد المعطي وخيري عبد الجواد وغيرهم يقول في بداية قسم : " كتاب الموتى "على لسان حبيبة إبراهيم فهمى : " يعرف أنك تعد كتابا عن الموت ويريدك ألا تنساه " إذن إبراهيم فهمي اختار الوكيل ثانية ليكتب عنه ، وكذلك كل شخصية كتبها هناك علامة ما تدفع الكاتب إلى أن يكتبها ، علامة نصية ورمزية في آن ، قد تكون صورة ظهر فيها سيد عبد الخالق وهو يغادر الكادر ، أو تكون يدا معروقة امتدت إليه في النوم ، أو رسالة تحملها امرأة ما من إبراهيم فهمي ليطلب منه أن يكتبه ، أو ربما يكون الشخص ذاته يلتقيه في مؤتمر ما في الواقع ليطالبه بكتابة سيرة حياته وإعطائه هوية جديدة .
الحالة دايت مليئ بالعلامات التي يتبعها الكاتب ليقرأ عن قرب حيوات هؤلاء الموتى . ترى هل اختاره الموتى أم الموت ؟! من الذي طرق باب سيد الوكيل بشكل هامس وترك كل هذه العلامات التي نتبعها خلفه ؟
وهل السرد قادر على أن يعيد الحياة لموتى رحلوا عنا في صمت دون صخب كبير ؟ يدرك سيد الوكيل أنه قادر بالسرد على أن يعيد إليهم الحياة يقول في موضع آخر : " نجيب محفوظ هو من قتل السفاح ، قتله في رواية .. هل تذكرون " اللص والكلاب " .. لماذا أحلامنا مسكونة بحكايات الخيانة والموت ؟ اطمئن يا أبي فلن أقتلك في رواياتي " هو لم يقتله ، بل أعاده ثانية للحياة عبر السرد .
هذا التداخل بين السيرة والرواية يصير وفق وعي التناص الإبداعي المنطقي المشروع إلى بنية سردية روائية عميقة من منظور أنّ الحياة نفسها مع واقعيتها قد تغدو أكثر خيالاً أو ثراءً إبداعياً من الخيال نفسه... !!
من هنا لا قيمة أدبية فنية أو جمالية لأية سيرة ذاتية مهما كانت درجة مصداقيتها وجرأتها وواقعيتها ووثائقيتها، إن لم تعتمد على البنية الأدبية السردية في صميمها الجمالي ؛ خاصة أنّ كل إنسان واعٍ في الحياة يمتلك تجربة حقيقية لسيرة ذاتية شخصية ومعيشية ؛ بإمكانها أن تُكتب وتُنشر في كتاب أو عدة كتب؛ لكن أمر جماليات الكتابة مختلف بين سارد وآخر
إن الكتابة التي تتمثل السيرة الذاتية مولودة من الوهم والتخييل ، بحيث لا تتحقق أدبية السيرة الذاتية إلا من خلال روائيتها، كما أن روائية الرواية لا يمكن أن تتحقق على المستوى النفسي العميق وآلية الكشف والفضح للتابوهات إلا من خلال الحفر في سيرية مبدعها المعيشية والثقافية والفكرية والجمالية كما أن بعض الكتاب قد يكون معنياً بتفعيل الانتقائية خلال كتابة سيرته، أو أنه يسعى عن قصدية واضحة إلى لعبة الإيحاء بأن هناك إمكانية لتحويل السيرة - على مستوى التلقي- إلى رواية مسكونة بالخيال ؛ خاصة أن التمويه في كتابة السيرة الذاتية غدا لعبا يمارسه الكتاب عن قصد ، بل يتعمده الكاتب حتى ينأى عن فكرة التفتيش في النوايا والإدانة المحتملة ممن حوله في حال أن يكسر التابوهات ، انطلاقاً من أن كتابة السيرة الذاتية تعتمد على قدر من البوح والصدق في وسط اجتماعي يحتفي كثيراً بالعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية الصارمة تجاه المجاهرة بالفضائح أو التعرية المخجلة أو ما إلى ذلك ، من هنا أرى أن الوكيل قد أفلح في القسم الأول الذي أعطاه عنوان " كتاب الموت " أن يقدم لنا سردا بضمير الأنا مما يحيل على البعد السيري لينسج لنا بلغة مشهدية مشغولة بطاقات شعرية علاقة الذات الساردة برحيل الأب ، ولو انفصل هذا الجزء عن بقية الكتاب لتلمسنا التخييل السردي الكامل ، ولاعتبرنا أن هذه السردية رواية قصيرة وأن مؤلفها سيد الوكيل ، فلحظات قليلة التي نشعر أن ذلك السارد هو عينه سيد الوكيل المؤلف، وما عدا ذلك ينثال السرد بلغة متخمة بطاقات شعرية هائلة . في حين أنه في القسم الأخير يكسر أفق التخييل عند تحليله للخطابات السردية التي تعاملت مع الموت كمعنى ، وتحليله لنصوص بعينها مثل رواية شجرة أمي لسيد البحراوي ورواية كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد لسعيد نوح ، ونصوص المجموعة القصصية لمحمد أبو الدهب ، هنا يقترب أكثر من السيرة الذاتية وليس السردي السيري كما في النصف الأول .
كما أنها ( السيرة) لا بدّ من أن تغدو منفتحة بصفتها خطاباً إبداعياً قابلاً للتعددية وتداخل الأجناس الشعرية والنثرية ؛ ولا يمنع هذا في الوقت نفسه أن تكون ذاتية، وغيرية، وتاريخية، وروائية، وشعرية، ودرامية، وتخييلية، وواقعية، فالسيرة الغيرية التي ناقش فيها سيد الوكيل خطابات نقدية نجد قصائد شعر ربما مثل قصيدة الشاعر محمود الحلواني التي كتبها في الشاعر الراحل مجدي الجابري ، ومثل قصيدة محمد عبد المعطي التي كتبها قبل رحيله المفاجئ والمفجع لجماعة المثقفين ، كذلك نجد مناقشة عالم رواية " كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد " لسعيد نوح ورواية " شجرة أمي لسيد البحراوي" أو مناقشة عالم الموت في مجموعة القاص محمد أبو الدهب ، وهكذا تتداخل الخطابات النقدية مع الجمالية في الكتاب .
وتراوح السرد بين الخطابين :الإبداعى، والتحليل النقدى، في " الحالة دايت "، ومن قبلها " فوق الحياة قليلا " يكشف لنا عن عمق أنفاق التواصل بين مشروعيه الإبداعى والنقدي، وأن كل منهما كان يغذى الآخر ويطوره، بما يدعونا لمرجعة تصوراتنا عن الخصومة بين النقد والإبداع التى تشير إليها المقولة الشائعة : ( الناقد مبدع فاشل )، بل ويدعونا لمراجعة مفهومنا للنقد، فهو ليس إجراءاً معياريا مجردا من الحضور الإبداعى للناقد نفسه بوصفه منتجا للنص، وعليما باسرار الكتابة وحيلها وفنونها، أوعلى نحو ما يقول الوكيل نفسه، أنهما وجهى عملة واحدة : " كثير من الناس يعتقد أن الموت والحياة وجهان لعملة واحدة ، وقليل جدا من الناس من ينظر إلى وجهي العملة في لحظة واحدة .. وقد حدث أني رأيت وجهي العملة الواحدة في وقت واحد ، الموت والحياة، والنقد والإبداع ما أروع أن ترى الوجهين معا " هذه درجة من البصيرة الاستثنائية تشبه الكشف عند المتصوفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - النقد عندما يضئ النصوص !0
جابر حسين ( 2011 / 12 / 30 - 19:19 )
أثار انتباهي العنوان فقرأت المقالة ، أثارت أعجابي هي الأخري ، فقد تناولت بأفق ثقافي شامل موضوعها ثم جعلت إليه نورا في جوانبه كلها بموضوعية وسمو جميل ... هكذا ، إذن ، نريد للنقد أن يكون ! سلمت سيدتي وقلمك في المبدعين فقد أمتعتني جدا بهذه الكتابة الفارهة الأنيقة ، سلمت و ... بوركت !0

اخر الافلام

.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24


.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع




.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح




.. عوام في بحر الكلام - إلهام أحمد رامي: أم كلثوم غنت في فرح با