الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحليل النفسي للحالة المصرية الآن

خليل فاضل

2011 / 12 / 31
مواضيع وابحاث سياسية



حين تقرر الثورة على نفسك، تحتاج إلى زمن، وحينما يتعلق الأمر بشعب فمن المؤكد أن الأمر يحتاج إلى زمن أطول ... علاء خالد ـ أخبار الأدب
أتاني أحد مرضاي وقد انتابته نوبة فصامية، قال : كلهم يتآمرون عليّ، أسمعهم من النافذة والشرفة، إنهم يتكلمون عليّ، يخططون لإيذائي، فلما سألته وهل يعني هذا أن كل الناس ضدك. أجاب:نعم، وأكد أن ذلك يصله أيضاً عبر التليفزيون (حيث أن الإعلام شريك أساسي فاعل في ظهور الأعراض المصرية، واستمرارها أو انحسارها بصرف النظر عن ديمومة العلاج من عدمه) .. لكنها إشارات التليفزيون للفصامي تسمى في الطب النفسي بـ (ضلالات الإشارة)، المهم أردفت في حواري مع مريضي مشاكساً سائلاً في خبث لا يخفي على القارئ:
• لكن يا ترى؟ هل المجلس العسكري أيضاً معك أم ضدك؟
دون تردد أو تأني أو تفكير، أجاب الشاب الفصاميّ الأعراض:
• لا.. المجلس العسكري معي ضد كل هؤلاء.
ما الذي بعنيه كل هذا؟ يعني استبصاراً كبيراً بمدى قوة (العسكر)، بحسب تعبير المثقفين وبعض العامة واجتماثه هو بأعراضه هو بهم، وإذا تأملنا الحالة الإنسانية الاجتماعية المُجتمعية لهذا المصري الشاب البالغ من العمر 22 سنة، لوجدنا أنه كان كما كان كثير من المصريين، يعيش يأكل ويشرب وينام ويذاكر ويمتحن وينجح دون أي أعراض، حتى بلغ سن العشرين تفجرت أعراضه (ذُهاناً صريحاً) وأعراضاً مُهددة مقلقة له، لوجوده ولأسرته ولكيانه.
وإذأ جاز التشبيه بالشعب المصري الذي انكفأ على ذاته المطحون منذ لحظة إعدام خميس والبقري على يد العسكر 1952) بعد قيام حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو عام 1952 ظن العمال أن زمن استغلالهم قد ولى وأن الضباط الأحرار قضوا على «مجتمع الخمسة بالمائة«، لكن حكم العسكر كشف عن وجهه الحقيقي بعد أقل من 20يوماً من حركتهم، وبالتحديد في يوم 12 أغسطس عام 1952 حين أوقف عمال كفر الدوار الآلات وأعلنوا الإضراب عن العمل وقاموا بوقفة احتجاجية لإعلان مطالبهم لحركة الجيش منددين بنقل العديد من العمال لفرع « كوم حمادة» وتدني الأجور والحوافز وتدهور سكن العمال، فقامت قوات أمن كفر الدوار بمحاصرة المصنع تحت توجيهات نفس القيادة التي كانت موجودة قبل حركة الجيش وأطلقت النيران علي العمال فسقط عاملا قتيلا، فرد العمال في نفس اليوم بعمل مسيرة لباب المصنع عندمات سمعوا أن «محمد نجيب»، رئيس الجمهورية، سيمر عند باب المصنع، وهتف العمال «يحيا القائد العام ... تحيا حركة الجيش» وعندما تأخر نجيب ـ الذي لم يحضر أبداً ـ خرج العمال لانتظاره عند «مدخل المدينة» وفي طريقهم مرت مسيرة العمال على أحد نقاط الجيش وألقى العمال التحية على «العساكر» هاتفين نفس الهتاف «تحيا حركة الجيش» إلى أن وصلت مسيرة العمال لأحد الكباري وعلى الجانب الآخر منه وقف الجنود المصريين شاهرين بنادقهم في وجه العمال، ومن جانب ثالث لا يعلمه أحد حتى الآن انطلقت رصاصة في اتجاه الجيش فراح ضحيتها أحد العساكر، وكانت معركة بين الجنود المسلحين والعمال العزل حتى من الحجارة ولم تستمر المعركة لأكثر من ساعات فتم القبض على مئات العمال وتشكلت المحاكمة العسكرية برئاسة «عبدالمنعم أمين» أحد الضباط الأحرار ومن كوادر الإخوان المسلمين وأمام آلاف العمال وفي فناء المصنع، في بيت العمال، نصبت المحاكمة العسكرية واتهم مئات العمال بالقيام بأعمال التخريب والشغب وكان من ضمن المتهمين طفل عمره 11 عاما! وتم النطق بحكم الاعدام على العامل «محمد مصطفى خميس» ابن التسعة عشر ربيعا وتم النطق بذات الحكم على العامل « محمد عبد الرحمن البقري» صاحب السبعة عشر سنة، وبحسب طه سعد عثمان في كتابه «خميس والبقري يستحقان إعادة المحاكمة» التقى محمد نجيب «بخميس» وساومه بأن يخفف الحكم إلى السجن المؤبد في مقابل قيامه بالاعتراف على رفاقه العمال وإدانة حركتهم ولكن خميس رفض، وتم تنفيذ حكم الإعدام على الشهيدين «محمد مصطفى خميس» و «محمد عبد الرحمن البقري» في يوم 7 سبتمبر من نفس العام بسجن الحضرة بالاسكندرية تحت حراسة مشددة وسط أصوات «خميس» و«البقري» اللذان صرخا قبل الإعدام «حنموت وإحنا مظلومين».(موقع مركز الدراسات الاشتراكية ـ مصر).
، لوجدنا أنها نفس تلك اللحظة هي التي كمن فيها المرض وتكوّم واستفحل وانتشر وظهرت أعراضه في الوحدة مع سوريا والانفصال، حروب 56، 67 و73 بكل ما لها وما عليها، انتفاضات مارس 68 وحركة الطلاب 72، 73، انتفاضة 18، 19 يناير 77 انتفاضة وتمرد الأمن المركزي 1986، اغتيال السادات، المدّ الإرهابي، السقطات المالية وغياب التخطيط والإنتاج والسقوط في هاوية العوز والدين، ثم حركة عمال المحلة واسمنت السويس بدءاً من 2004 وحركة كفاية وما بعدها من اعتصامات، إلى أن حانت لحظة إفاقة المريض من مرضه لتكون لحظة الثورة التلقائية الفجائية التي يعيب عليها الكثيرون عدم وجود قائد لها، هي لحظة الوعي بأن حالة التدهور الحضاري الخدْمي الإنساني والحط من الأخلاق والكرامة قد وصلت إلى مداها مما ينبئ بالانهيار التام على الرغم من تماسك شكل النظام، ونمثله هنا بنموذج الجبن السويسري أو (الجبن الرومي) (من برّه ملصّمة ومن جوه مخرّمة) .. ظهر هذا جلياً في لحظة انهيار الجهاز الأمني ممثلاً في (الداخلية)، كذلك ظهرجلياًً قوة بناء وتماسك هذا الشعب، رغم شدة مرضه، بالحفاظ على بلده من خلال اللجان الشعبية وغيرها، والذي إن حدث في بلدان أخرى شديدة القوة كأمريكا وبريطانيا (عندما انقطع التيار الكهربي وعند انفجار حوادث الشعب)؛ لقامت الدنيا ولم تقعد، الفصائل والقوى الراقدة على حشية مجموع الناس في مصر هي: التيار الديني بكل ما يحمله من تجربة سياسية مختلفة (الإخوان تحديداً) وقدرته على التنظيم وارتباطه بمفهوم الأمان الديني، ولعمق عذاباته وإقصائه ومعاناته لطيلة 80 سنة وأكثر على أرض مصر، والتيار الليبرالي اليساري بكل رؤاه وأحلامه وتقاطعاته مع القوى الليبرالية والتعلم منها في كافة أنحاء العالم، وأيضاً بعصبيته وتشدده وتمسكه بثوابته وعدم سماحه لأي تسويف (هكذا يراه)، وهو صاحب فائدة لأن الضغط على العسكر المحافظين يؤتي بثماره دائماً، في حين أن (حيادية) التيار الديني الذي يأبى عدم النزول لا إلى التحرير ولا إلى العباسية (محافظاً على تكوينه وعلى تلك المسافة بينه وبين كل الأطراف) .. محتفظاً بطاقته فلا يهدرها إلا وقت الجدّ وعند اللزوم، ثم تأتي مجموعات المهددّين من النظام السابق (الفلول وأصحاب الامتيازات وبعض رجال الأعمال) أو المحافظين الجدد وهم كثر وتعودوا على نمط في الحياة وفي الحكم، يستفز الثوار (الليبراليين واليسارين)، بل ويغتالهم فيما يمكن أن يكون اتحاداً لهم مع قوى حقيقية متأخرة تأبى أن تكون لمصر ثورة أو هامة شامخة أو اقتصاد قوي. إذن فالانفجار في 25 يناير 2011 وما بعده من فورات (بحسب تعبير يوسف زيدان) ما هي إلاّ موجات وتمددات للثورة نفسها، كالغليان الماء الملوث بالدم والصديد في المرجل، وكالرغبة في التخلص من كل هذا (هنا والآن.... كيف؟!) وإما الموضوع يِخلْص كله ويتحل كله، إما لا عليّ وعلى اعدائي يارب.
إن رجال الأعمال في مصانعهم التي تربو على الألفين في مدينة 6 أكتوبر الصناعية بحسب تقرير صحفي في جريدة الأهرام آبدو الفرنسية يعملون بضعف طاقتهم، وينتجون على الرغم من عرقلة أجهزة الدولة (التكنوقراط) لهم، التكنوقراط الذي يكره الثورة ويكره نفسه ولا يتمكن من التقدم قيد أنملة. وسط ذلك يدور الحديث عن عجلة الإنتاج وعن الخط الأحمر للاحتياطي، وأمام كل ذلك يعجز القائمون على أمر البلاد من العسكر، أو علّهم يتقاعسون عن إطفاء الحرائق (المَجْمع العلمي) مثالاً، وكأنهم لا يحتاجون ألاّ لمبارك يأمرهم؛ فيحركون طائراتهم الهليوكوبتر بأجهزة ومواد إطفاء الحريق المتطورة، كما حدث سابقاً في واقعة احتراق مجلس الشورى، أو كما تبين لاحقاً أن السادة أعضاء المجلس العسكري لا يعرفون مكان المجمع العلمي.
ولا أود هنا أن أزيد في تصويري لهم في بؤس قاتم ومقيت فهم يحمون حدود مصر من جهات السودان والبحر الأحمر وإسرائيل والبحر الأبيض والصحراء الغربية (ليبيا) ولهم كل الشرف على أداء واجبهم الوطني بكل شرف ونزاهة وكفاءة.
لكن! العيّان نص نص (مستقرين لكن مسروقين مش مهم) يأبى تطوره الأيديولوجي والحركي وتقاطعاته مع التكنولوجيا الفائقة التواصل عالمياً أن يظل هكذا فتظهر في لحظة فارقة كل أعراض مرضه وينزعج الناس ويهاجرون أو يبكون أو يخرجون للشارع أو يتغطون وينامون كأهل الكهف.
ولعل كل ما كان وما يكون وما سيكون يمثل دفاعاً صد التفسخ والتفكك والانهيار أي دفاع ضد (المرض) كما ترى سوزان سونتاج فى مقالتها الرائعة (المرض) كاستعارة. أو بالأحرى وأكثر دقة (ميتافور)Metaphor ناقشت فيها تأثير المرض كميتافور فى ثقافتنا، واستخدمت السرطان والسل ككلاسيكيات، بالطبع فى (مجتمعنا العربي) يعشعش المرض كميتافور قوي، ليس فقط كالسل والبلهارسيا والتهاب الكبد الوبائى، لكن كالذبحة الصدرية والسكر وارتفاع ضغط الدم ومؤخراً إنفلونزا الطيور وبالطبع الاكتئاب، وهى كلها نماذج تاريخية، لكن مَنّ يعُطى (المرض) معناه ومفهومه كفعل عقابى ومن وجهة نظر ميننجرMenninger (1963) المحلل النفسى وأحد الفرويديين الجدد، والذي رأى المرض شيئاً مختلفا فلم يره كمصيبة من مصائب الدنيا، لكنه رأى أن المريض الضحية مسئول إلى درجة كبيرة عما فعل هو بحياته وبنفسه من (إهمال، استسلام، عبث..)

إن الوضع الحالي في مصر يعصى على الوصف الدقيق والتنبؤ القريب إلى الصحة نظراً لتعقده، ولكونه مركباً من تراكم سنوات القهر والظلم والذل والفساد، الذي تغطى بالصوت العالي وبالوطنية في عهد ناصر وبالعبور ونصر أكتوبر في عهد السادات ولم يتغطى بشئ سوى أنشودة الاستقرار وأغنية الضربة الجوية في عهد مبارك.
إن عمق التجريف الذي كاد يؤدي إلى الإخصاء كان جلياً وعاتباً وعاصفاً بجيلين على الأكثر.
وإذ أراد العسكر أو المدنيين أو هؤلاء المنظرين اللذين يملأون الإعلام جعجعة وفجاجة وفظاظة (باستثناء بعض المحاولات النادرة والشريفة).. رؤية الحالة المصرية في عمق تواجدها، ربما لأحسوا بخطورة وحماقة عدم القدرة على الفهم؛ فنجد أن الحكام الجدد خليط، شرف، الجنزوري، المجلس العسكري بمستشاريه من بقايا مبارك، لا يستوعبون كل أطراف اللعبة على أرض مصر الطيبة، لأن لحظة اكتشاف المرض لا تعني لحظة الشفاء لأن العلاج لنا يكون دواءاً يتجرعه الوطن، لا استفتاءاً ولا بيانات ولا إنذارات ولا شظايا رخام ولا تبول جنوني من سطح مجلس الوزراء ولا سحل للنساء ولا حرق المجمع العلمي، ولا هو أيضاً المجلس الاستشاري، ولا هو الاستخدام القذر للإعلام المنمط المجهز المهندَس لسنوات.
وسط كل هذا، يخاف القائمون على حكم الدولة على الدولة من شعار "إسقاط الدولة وليس النظام" فقط والمسألة هنا تتعدى حدود اضطرابات الإدراك والاستقبال والتحدي، إلى الاضطرابات الانفعالية في ماسبيرو وإمبابة ومجلس الوزراء ومحمد محمود والقصر العيني، لهذا فعلينا جميعاً أن تمكنا – وقبل فوات الأوان – عدم التجزئ في النظرة والرؤية ولا حتى التجزئ المفاهيمي للأمور، لابد من الإحاطة بعمق كل الأطراف والاتجاهات القوى وأيضاً أصحاب اللهو الخفي (سواء كان من إسرائيل أو من أمريكا أو الناتو أو إيران مثلاً).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية
المصطفى المغربي ( 2011 / 12 / 31 - 01:13 )
تحية لبعد نظرك و تحية لشعب مصر الثائر


2 - التشخيص نصف العلاج
رانيا سليمان ( 2011 / 12 / 31 - 11:59 )
مراجعة جميلة ونادرة ولكنها كالعادة اغفلت الاشارة الى حلول نفسية واجتماعية لامراض الشخصية المصرية أو العربية عموما
والموضوع كذلك اشارة إلى عقدة الخوف والعسكر في السلطة اما الغرض فبقي لغزا
تحية للدكتور في انتظار الحلول


3 - تصورات الحلول النفسية والاجتماعية
خليل فاضل ( 2011 / 12 / 31 - 12:38 )
ستأتي في الأجزاء التالية من الدراسة
تصورات الحلول النفسية والاجتماعية

اخر الافلام

.. فرنسا: القيادي اليميني المتطرف إريك زمور يتعرض للرشق بالبيض


.. وفد أمني إسرائيلي يزور واشنطن قريبا لبحث العملية العسكرية ال




.. شبكة الجزيرة تندد بقرار إسرائيل إغلاق مكاتبها وتصفه بأنه - ف


.. وزير الدفاع الإسرائيلي: حركة حماس لا تنوي التوصل إلى اتفاق م




.. حماس تعلن مسؤوليتها عن هجوم قرب معبر -كرم أبو سالم- وتقول إن