الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل بطعم البرتقال

سمير عبد الرحيم أغا

2012 / 1 / 1
الادب والفن




دخلت القرية وأنا أرنوا إليها مبتسما، ليس من باب البرتقال أو باب الجسر.. ولكن من باب ذاكرتي ، رأيت طفلة في الطريق تنظر إلي نظرة جعلتني اشعر بالحنين ،و من عيون الطفلة التي لا تستطيع شرح نظراتها أدركت أنها تعرفني ، لم أخف دهشتي من معرفتها لي ، قلت ا من أين جاءت هذه الطفلة بالذاكرة ؟ على بعد خطوات جلست قريتي على النهر تتأمل بين التذكر والذكرى ، وفي هذه اللحظة تلتقي الدموع ، قالت : لن تجد الفرح خارج هذا الألم ، فهي ..السحابة البيضاء، و مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، تتوقف إمام أنواع شتى من الزهور. من الأشجار تقترب من الأغصان النحيلة الحاملة لأوراق خضراء رقيقة كالحرير، استنشق رحيقها من بعيد وأشم طعم البرتقال، وأنفاسها في خلايا جسمي، وحمى صدرها العاصف،
بيوت الطين الواطئة تطالعك ، كوجه قديم ، بيوت باقية من الخارج كما تركها أصحابها ، يستقر صاحبها في ذاكرتك فأنت تعرفه ، وشجرة الصفصاف وذكر النخل ومئذنة الجامع ، الجدران تآكلت من طول ما استكنت بها الرطوبة ، وأطلت بجمال بنيانها على الطريق الترابي بموازاة نهر ( التحويلة ) ، يجلل جنابته النخيل وأشجار البرتقال ، ثم يمتد حتى طرف قصي ، حيث تكثر في المواسم بنادق الصيد ، النساء ينجبن ويخبزن ويتحدثن ويتشاجرن بسب الأطفال ثم يتصالحن بسرعة .
ها أنا ارجع إليك أخيرا يا قريتي.. كم أحب أن أناديك.. جدتي.. سيدتي، تفتح باب قريتي.. تستقبلك أشجار النخيل، وأشجار البرتقال أوراقها الخضر هي ينابيع الخضرة في قريتنا وثمارها مثار الأشواق في قلوبنا الغضة ، ثمة رائحة ما أعرفها لعلي أفتقتها منذ زمان، وقفنا نتبادل النظر، طويلة رشيقة، والصحة لا بأس بها ، اليد المعروفة ، .. وتجاعيد الوجوه تشي بالعجز، سيدتي... أنها في الخامسة والتسعين بعد المائتين، رغم إن الروعة لم تسحب منها جميع أذيالها.أنظر باهتمام إليها وأدقق النظر، هل هي تتذكر وها أنا استرد وجودها،
أوه .. أنت سمير
تصافحنا في حرارة ، غلب عليها الانفعال كنساء الريف .....
نعم سمير ..
جلست على سرير النخيل تحت شجرة التوت العملاقة مقابل بيت ياس السبع ، نظرت فيما حولي وقلت
مدخل القرية هو .هو . لم يتغير
قالت محتجة .. ملوحة بيدها
بل تجدد .. وعندك أشياء جديدة مثل أعمدة الكهرباء
انني سعيد بك ، الشكر لله إنك في صحة جيدة
كلا ... شريان كبير مات
وماهو ..
(نهر التحويلة )
مابه
لقد مات ولم يبق سوى نهر صغير
في الأيام الباردة من كل عام يذهب الأطفال إلى المدارس وتسمع بين الحين والآخر صوت الجرس ، تشاهد التلاميذ حاملين كتبهم يتناقشون في الصباح البارد ، وتهاجر الطيور ، تهجر أعشاشها نحو الجنوب باحثة عن الدفء مخلفة وراءها الحقول والمنازل والأشجار خالية من كل شيء ،تحدثني نفسي بأن أذهب إلى أم محمد لأحظى بشيء من الحلوى وأعبر الجسر الصغير وقت الظهيرة حيث ينام سليمان على ظهره في العراء وهو يلعب .. وحين يجيء الليل يمني نفسه بليال باردة مترعة بالشوق، تسرح عيناه في الحقول المترامية الإطراف
قلت باهتمام
جئت للإقامة هنا ..
حقا تقول.. يا سمير
متى تلاقينا آخر مرة ؟
نعم يا عزيزتي .. رأيتك آخر مرة منذ حوالي خمسين سنة
أين اختفيت طيلة ذلك العمر ..؟
العمل والهموم
هل زرت المدرسة ؟
هي على حالها منذ عام 1943 ؟
نعم بنيت من جديد (بالطابوق ) وما زالت تتوسط بستان أبي ،
ماذا تعلمت في المدرسة ؟
النشيد القديم ..
عليك مني السلام
يا أرض أجدادي
ففيك طاب المقام
وطاب إنشادي
قالت : ربما ألغوه
شجعتني بحركة من شجرها فواصلت قائلا
جميل أن يجد الإنسان صديقا يقاسمه وحدته
أتذكرين أيام زمان ؟
قالت بصوت حزين
ذهب بكل جميل
ولكن علينا أن نعيش
ردت بحزن، تأملت بستان الحاج جبار، ربما أزورها في فصل الصيف، تستطيع في الوقت المناسب أن تستنفذ الذكريات.. زرت سليمان في بيته، قال لي بصوت متهدج: أين الأيام..؟
قريتي تروي لي النوادر وانأ اصدق كل ما قاله ( بوصي ) كلما طالعه وجه الهلال ....وماذا عن البيوت المطلة على ( التحويلة ) ؟ أهي مستوفية لحاجتها من المقاعد المريحة ذات الطابع العثماني ، ولتبق أشجار النارنج في محيطها ، لا يعبها شيء ، جوها يسبح في شروق دائم ، تطل عل بيوت الشيخ عبد الغفور ، زرت بيت الشيخ مصطفى المطل على النهر وكان خاليا من الشيخ ، في كل مكان أقمت صيفا أو أكثر من زمن مضى ، قفزت من مكاني لكي أرى الروضة في بيت ( الحاج خالد) من كان يظن إن (روضة الأطفال ) ذات الحدائق المعلقة بالبنفسج والجوري .. ستموت وتبقى مجرد ذكرى كان من المستحيل إن اصدق، ربما القي عليها السلام.
قالت وهي تتنهد
عد إلي سالما ..
قلت مواسيا
سبحان من له الدوام ... أكثر قريتي غرباء اليوم
وبعد أن أفقت من غفوتي قلت
وأين أشجار البرتقال .. هل لا زال يضيء برتقالها كالنجوم ؟
ماتت ... ولم يبق إلا القليل
ومقهى فاضل.. أين ذهبت .. ؟
ماتت أيضا .. ذهب الأصدقاء وذهب زمانهم، أنني اعرفهم واحدا.. واحد ، سليمان ، يعقوب ،عنبر ، مهدي ، مكي ، جبار ، أحسان ، كنت انا ومكي من مدمني المقهى
جلست على ضفة النهر ، استقبلت العصافير من صف أغصان الصفصاف ، وددت أن اسمع لونا آخر من غنائها ولكنني تجنبت إزعاجها ، ، حركت رأسها في طرب أيام زمان ،كنا ومازلنا أصدقاء قلت: ودعك الأمس، وعدت وحدي مفكرا ببوحك الأخير،
ما الذي بقى من حكاياتك القديمة ؟
هل تذكرين ؟ الجسر الأسمنتي الصغير، سامية الغجرية، المشاية على النهر، المركز الصحي، أستاذ أيوب، ضحكت طويلا وقالت :
نعم اذكرها ..
تهلل وجهها بسعادة شاملة، المهم إن يمتد بي العمر،
قلت وأنا أرنو إليها من تحت شجرة النارنج
.. كنت أجلس وحدي، انتظر قوافل الغجر
اين اذهب لقد ولدت هنا ؟ عمت البلاد أوقات عصيبة
آه ... يا سمير: تقول إنني ليس كمثلها شيء، كلا لم تعد كما كانت أيامنا، الزبالة ترى على الطرقات والنهر واقف لا يجري،
قلت بإشفاق :
لا بد أن أعود إلى أهلي. عنوان منزلنا المغمس بالسحاب ما زال على حاله ، ماذا سيحدث لو رآني جدي صالح ؟ ما أجمل أن نوضع في متحف جنبا إلى جنب ، ولكن عديني بالا تموتي قبلي ، ولكنها لم تخبرني ... لم يعذب الناس بعضهم بعض ؟ ولماذا يتقدم بنا العمر ؟ أجلت البصر في بيوت الطين المنقوش عليها تاريخها .. هنا صورة الملك، صورة الزعيم، في الضفة الأخرى بيت أم محمد ، المركز الصحي الذي فتح عام 1958، راحت تدلك وجهها بليمونة وهي تقول
كنت سيدة الدنيا .. أحب الحياة
ما زلت سيدة الدنيا ..
ذلك البيت الكبير الذي تحول مع الأيام إلى أطلال يراه السائر كموطن اللقلق وحوشه القديم الذي شق منه طريق إلى بغداد، ثم جاورت في بعقوبة زمنا، وعلى بعد خمس دقائق يخرج شارع جديد إلى بعقوبة ، هذا الشارع بالنسبة لي ليس طريقا ولكنه حدود ارض مدرستي ، ترمي السلام على الجالسين مساء على المصاطب،
والأصدقاء القدامى.. ماذا حل بهم ؟
حل بهم ... المكتوب عليهم
غناء العصافير لا ينقطع، أقسى حكم للزمان علي.. أن يعلو صوت الراديو على صوت العصافير ، لا تستغرب أبدا إذا أبصرت أوراقي معلقة على الإزهار الصناعية ، ولا تبكي علي أذا غيروا خارطتي ،ومنذ مات النهر والبرتقال والحب .. تحدث الناس عن حزنها المكتوم ثم قالوا أنه استسلام وترقب لموت حزين ولما طال مرور الأيام بلا أمل في عودة الزمن، أزداد صمتها، فقالوا أنها لا تعيش معهم .
سيدي الأستاذ .. استودعك الله
رمقتني في ضجر وهو يضيق بي كلما رآني
آن لي إن أعتزل
حين قالت ذلك كان الحاضر يصرخ بالماضي، في الحال أخرست الخاطر إذ أتى... اعرف ذلك الهاتف المتشائم أبدا الرابض خلف كل قرية، سأمدك بالذكريات وحكايات الأصدقاء، لقد أرهقني السفر، طويت في صدري الخطاب، ثم قلت لها:
لقد قررت البقاء في حضنك.
وسأحكي لكم الحكاية.... لكم يا أهل قريتي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في