الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كنت مع السيد حراز

سمير عبد الرحيم أغا

2012 / 1 / 1
الادب والفن


تمنى اللقاء به يوم أمس وكل يوم، تمنى أن يناديه، أن يضع رأسه على صدره ويبكي، ليكسر واجهة الحزن... جدي مات، مع أنه يعلم أن الموت نهاية كل حي، ترك القلب لديه وأنتظر الرد: من الزائر ؟ في آخر النهار بلغ غانم الصالح بروحه الصغيرة ، مدخل ضريح السيد حراز المنتصب على تله صغيرة ، محاطة بالنخيل وأشجار السدر والتوت ،غرب القرية نزل عن حصانه ، وعند النخلات الثلاث تركه ، الباب الخشبي العتيق يتوسط الجدران العالية الرطبة ، القبة الخضراء تبدو كأنها صرح ممرد يلوح في ضوء الشمس ، كأنه سقي بدفء الخشوع ، لا يعرف قيمة اللون الأخضر إلا من فاض بحبه ، يؤكد غانم الصالح أن جده مازال باقيا هنا يرعى الضريح حتى في موته ، كما كان قائما على الأحياء ، بل لازال قائما عليهم ، ولم ينفض مجلسه ، جاء ليسلم عليه كعادته كل يوم قبل أن يعود داره ، حين فتح غانم عينيه امتلأ فمه وذراعاه برائحة جده ولم تفارقه ، ... ليس الضريح إلا قرية أخرى ، زاهدة بعشق نور الأتقياء ، يباركه الآن بضريحه ويباركها الجد بروحه ، تجسد غانم في إلهام من خطى سلالة الضريح .. إلهام مفاجئ ، وذات الإلهام الذي كان جده ينتقل إليه ، أن ما يفعله الآن سر ، ربما الأوهام تغفو ، ولكن اللحظة يتجسد الجد فيه ، تعلم من جده أن يرى الحمام في الظهيرة ، يشدو للسيد حراز أناشيد الروح وأناشيد العصافير ، الآن يحرسه أيضا بعد موته ، فكر أنه أكثر وفاء من أخوته السبعة ، تمنوا لو يكونوا مكانه ، حدث نفسه أن جده ينحدر من قبائل تعشق السيد حراز الذي ينحدر من سلالة آل البيت الكرام ، يؤكد غانم دائما أن مكانه ليس هنا ، بل بجوار جده ، لو نهض لقال له ذلك ، ليته يقول : قال لكل الشيوخ والقائمين على الضريح وأولهم الحاج سالم الفزع :
غانم خليفتي من بعدي .
لم يكن غانم بحاجة للرد ، عرف أنه ينتظر ذلك ، حتى قبل رحيله ، فتح غانم الباب الخشبي ، سار بالممشى في ضوء الشمس المشتت ، أشار إلى الضريح الراقد وسط البناء ، مشى بخشوع ووقور ، أجتاز الضريح من مكان آخر ، كم مر من الوقت وكل ما حولنا بشيء بالموت والتوبة ، يا غانم كم تبقى من عمرك ؟ نصفه قد نسيته هنا حول قبري ، كيف يحسب جدي كل شيء ؟ حتى عمره ، حتى المقام ، توقف أمام واجهة الضريح على بعد خطوات ، انثنت يده نحو صدره تحمل الصرة المحملة بالتمر والخبز ، ، طأطأ رأسه تحية : السلام عليكم يا جدي ، توقع أن يرد عليه بصوته المعروف : السلام عليكم... يا ولدي ، تشير إليه العيون المنكسرة ، والفم المفتوح بالأنفاس الملتهبة ، تعال هنا في ملكوتي ، نسي أنه الآن لا يجيب ولا ينظر ولا يومي ، أوشك أن ينصرف ، خشي أن ينهض ، أن تطالعه ذات الهمسة الدافئة ، يعرف هذه النظرة ، تطارده كل مساء ، ثم قال بإلحاح : سرك هنا .. ينبعث كقمر الليل ، أنى يصبح لمجلسك الحب حتى تقدر أن تسعدهم ، لكي يبتسموا كما كانوا في حياتك ،تذكر غانم مسبحة جده صالح الكبيرة بطول الجدار ، مقيمة بين أولاده في غرفة الضيوف ، يذكر تسبيحه في الصباح والمساء .. سبحان الله .. سبحان الله ، تدفق الحاضر في ذاكرته فجأة كما جده ، وظل صامتا كالقدر ، هم بالاعتذار لمجيئه ولم يرفع رأسه لنداء الأولياء والصالحين ، لو يقول لجده شيئا ، هنا ولدت الأيام تحت هذه النخلات الثلاث ، جذوع الأشجار تحتوي الأزمنة ، تحفظ حكايات عديدة ، وعندها قدرة على وصف ملامح الوجوه ، كم من باسقات أعاينها وأغفو تحتها وأستظل بنعومتها ، الليل يعانق بسمة الأفق الحزينة واليدين المعقودتين على الصدر والعيون النائمة ، في كل زيارة للضريح .. نجد شجرة السرو وورد الحائط الأحمر .. والدمع المخبأ وطريق يؤدي إلى البيت ، قد تمجده وقد يغضب ، بأي فم ستقول في خلافات القرية ، كل طرف يتصارع مع ألآخر ، في شؤون الري وحسد العيشة والتسابق على النساء ، وفي خلافات القرى مع بعضها البعض ، ذلك أشقى ما عانياه في حياته ، صارت لقريته سمعة تستجير بالدنيا من تلقاء نفسها وكلمة لا ترد ومكانة لا تجاري بين القرى ، على تواضع أهلها ومكانة شيوخها ، كلهم ينظرون لحكمة جدي ، وعشرات الأيدي تمتد إلى الخالق لتحفظ القرية ، لاحظ غانم من الضوء المسلط عليه من أقصى القرية أن له على الأرض أكثر من عش ، مابين قيد الكرامة والحب بنى أعشاشا عديدة مختلفة من الخير ، مدهشة لا تزال غير مدركة ما ترى كأنه يراها ، ولأول مرة فزع لما تراه عيناه ، هل هي ظلاله بين الآخرين ، لجده صالح نفحة الطيب ، بين يدي جده ، ظل له وحده وببركته يحلق حوله كل المستمعين لصوته ، هم جميعا صاروا أسرابا تلتمس أثره ، ذلك ما قاله جدي ، جدي يختفي ويظهر ، دائما في ملتقى منابع الضوء ومصادره ، يكره أن يكون وراءه ويرى عيونا تمشي أمامه تمد بساطا على مسالك الأفق ، لحظة يحس فيها أنه قادر على الاتصال بكل إنسان وبكل شيء بل قادر على الاتصال بنفسه، هتف في سره ... الله حي ، هتاف يشدو في الفؤاد ، هنا تدق أبواب المحبة في هذه القرية بانتظار المطر ، رفع غانم رأسه قليلا تجاه الضريح وقال لجده : أولادك بخير يا جدي لقد طويت الجرح ، ابتلع غانم ريقه وأضاف بقوة : الكل بخير ، ونحن حزانى من بعدك ، لكنني أجعلهم يشعرون أنك ما تزال باقيا نخلة عالية ، كأنه يحدث نفسه ، أنه غير موجود أمامه يروح ويجيء بين الجدران ، يتأمل مفكرا بصوت مرتفع ، الاستراحة في مرقدك لا تكتمل إلا بوجودك ، شعر غانم بروح جده تحل فيه الآن ، بركاته تغمره مناجاة السؤال على الضريح ، أرمي رؤاي على ظلمة الخلود ، رفع غانم رأسه وهتف : الشكر لك جدي .. ’هتاف يهتف كحزن الأيام ، يعود الصوت .. ( لا أحد يرد .. صرخة الوحدة ترعى في حقول الصالح، أشاع غانم وجهه عنه، كيف يلقاه ومن أي باب ؟ لم ينطق بما لا يستعان به ، ولم ابك بلا سبب ولم أطحن عجين الجوع بالتقوى ’ إن جده يراه الآن ويسمعه ويعرف أكثر مما كان ، أغنية أشعلت شموع الضريح وغابات التاريخ ، حكمة الضريح تبكي كل أغصان الطرق ، أنه شك في معرفته المطلقة ، همس : السلام يا جدي ، وأضاف بتودد ،: أمرك مطاع يا جدي ثم قال في نفسه : سأقصد بيتنا لأرى ما هم في حاجة إليه ، سأسليهم وأقول : لا أحد يبني بيتنا غير جدي ، أنت جدنا فما كان عليك شيء أبدا وإنما كان علينا ، كنت تعطي ما تحب لمن تشاء ولا تسال عما تفعل ، لك يا جدي ... يظل كل شيء كما كان: السلام عليك يا جدي ، ابتعد خطوات ثم استدار ، هبطت يده على صدره ، شد قامته ليرى الحاج سالم الفزع قادما من بعيد مرفوع الهامة ، ألقى غانم الصالح نظره أمامه باحثا عن جده , قال : الحاج سالم : إنا اعرف صمت المحبين ، حب الصلوات من حب جدي صالح ، اجتاحته في تلك اللحظة أمنية قد تخلد إلى الأبد: أن أحرك الزمن المتوقف عند ناصية السيد حراز ، ثم أعود إلى الدار لأحكي لأخوتي السبعة ما تبقى من صورة الضريح . والحكاية كلها أنهم يعرفون أنني كنت مع السيد حراز .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق