الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الحرية بين العلمانيين والمحافظين

أحمد عصيد

2012 / 1 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


ثمة تناقض ملموس بين بعض ما يقوله أعضاء قياديون من حزب العدالة والتنمية المغربي وبين المواقف المعلنة للحزب وتلميحاته الإيجابية، مما يقتضي المزيد من النقاش الدقيق الذي يبتّ في بعض التفاصيل، وهو نقاش هدفه لفت الإنتباه إلى بعض مواطن الخلل في استعمال بعض المفاهيم، الشيء الذي يخلق تشويشا كبيرا على النقاش الدائر حول قضايا الحريات، لما في بعض الآراء المعبر عنها من تعارض مع مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها، وكما هي متضمنة في الدستور المغربي.
ذلك أنه ليست للإسلاميين مشكلة فقط مع مفهوم الديمقراطية كما أوضحنا ذلك في أكثر من مناسبة، بل إن كل مشتقات هذا المفهوم تصبح موضوع التباس كبير في فكرهم ومواقفهم، ومرجع ذلك إلى أن اعتماد مرجعية دينية بقراءة سلفية، لا تسمح أبدا بالإنخراط في العصر وقيمه، مما يفسر اتجاه هذا التيار بمختلف تلاوينه إلى استعمال مفاهيم حقوق الإنسان بغرض الإلتفاف عليها وإعطائها دلالات أخرى تنسجم مع توجهاته اللاديمقراطية، التي تقوم أساسا على عدم احترام الحق في الإختلاف، والتي تظلّ تشكل تهديدا لمكاسب المواطنين التي تحققت بعد جهد جهيد ونضال مستميت ضدّ الإستبداد دام لأزيد من نصف قرن، وسيظل مستمرا إلى أن يتم الترسيخ المطلوب لآليات الديمقراطية وأسُسها الحقة، سواء في ظل حكومة الإسلاميين أو غيرهم.
من بين المواقف التي تعكس هذا الإضطراب المفاهيمي وهذا الغموض في الأهداف والمرامي بسبب كثرة التناقضات، ما عبر عنه السيد محمد يتيم في بعض تصريحاته وكتاباته مؤخرا.
ففي الوقت الذي حاول فيه يتيم أن يظهر بمظهر الإسلامي المنفتح الذي يحترم الحريات الفردية، وتطمينه للمجتمع بأن حزبه لن يمس بحريات الناس ولا بمكاسبهم السابقة في هذا المجال، تقدم في جريدة المساء بفكرة عجيبة غير مسبوقة في مجال حقوق الإنسان، وهي "حرية" المحافظين في عدم تعرضهم "لاستفزاز مشاعرهم" من طرف غيرهم من المواطنين المتحررين المخالفين لهم في نمط العيش، أي أن المانع من التمتع ببعض الحريات في المأكل والمشرب واللباس والإبداع الفني عند السيد يتيم هو أنّ أغلبية المواطنين المحافظين يتأذون من ممارسة هؤلاء لحرياتهم تلك مما يستوجب عليهم الإختفاء من الفضاء العام والتمتع بحرياتهم الفردية في بيوتهم، كما أن عليهم في الأماكن العامة الإلتزام بالسلوكات التي يقرّها المحافظون واعتماد مظاهر نمطهم في العيش، وذلك احتراما لـ"حريات" هؤلاء المحافظين التي يسميها السيد يتيم "حق الجماعة" الذي ينبغي أن يفرض نفسه في المجال العام على حساب حقوق الأفراد. ولنا وقوف عند هذا التعريف الغريب للحرية، والذي نتج عن قراءة فاسدة للمبدإ العلماني القائل: كل واحد حرّ في حدود عدم المساس بحرية غيره.
إن الحريات الفردية ليست حريات مطلقة، إذ هي كما يعلم الجميع حريات مدنية مقننة داخل تنظيم اجتماعي، وتقنينها آت من ضرورة التعايش المشترك للجماعة المنظمة التي يخضع جميع أفرادها للقانون الذي يحميهم من بعضهم البعض، غير أن هذه الحقيقة ترتبط أيضا بحقيقتين اثنتين يتجاهلها الإسلاميون المتشدّدون منهم والمعتدلون، الأولى هي أن القوانين ينبغي أن تكون ضامنة للكرامة والمساواة والعدل وليس كل قانون يُحترم ويحقق مبدأ التعايش المذكور، ولهذا نجد معظم نضال الحقوقيين في المنتديات الدولية عبر العالم يتمّ ضدّ قوانين تكرّس الظلم والتفاوت بين الناس في هذا البلد أو ذاك.
والحقيقة الثانية هي أن الجماعة البشرية المنظمة التي ذكرنا ليست ولا يمكن أن تكون ثابتة جامدة بل هي عرضة للتغيرات والتحولات التي ترمي إلى الترقي بالوضعية الإنسانية نحو الأفضل، ولا يمكن تصور جماعة بشرية تعيش منظومة قيم مطلقة وثابتة بشكل نهائي، وسواء كانت مرجعية هذه الجماعة دينية أو بشرية دنيوية فهي محكومة خارج إرادة أفرادها وعواطفهم وميولاتهم بالتغير التدريجي واللامحدود، لأنها جماعة تتواجد على الأرض وفي التاريخ، وكل ما هو أرضي وتاريخي هو عرضة حتما للتغيّر والتفاعل والتلاقح، ولهذا لا توجد هوية ثابتة، بل هي صيرورة وبناء، يدلّ على ذلك تجاوز الواقع الإنساني للكثير من الطقوس والتعاليم الدينية التي جاءت بها الديانات في نصوص واضحة وصريحة، بسبب عدم إمكان العمل بها في غياب البنيات الإجتماعية الحاضنة لها والسياق التاريخي الذي ارتبطت به، والأدلة على ذلك كثيرة جدا من كل الديانات.
انطلاقا من هاتين الحقيقتين نفهم المشكلة التي وقع فيها الأستاذ يتيم، الذي خلط بين معنى الحريات، والتي تتضمن القبول بالإختلاف كمبدإ أساسي من صميم هذا المفهوم، وبين تقاليد المجتمع وضوابط الجماعة المحافظة، والتي لا تقبل بهذا المبدإ إما بسبب انغلاقها أو بسبب نمط الحكم الإستبدادي الذي يشيع عن عمد قيم المحافظة خوفا من أي تغيير.
فمشكلة السيد يتيم ليست في كونه يضع "حق الجماعة" قبل حريات الأفراد الأساسية، بل في كونه يعتبر واقع التخلف واللاتسامح أمرا طبيعيا ومقبولا وحجّة على ضرورة الحجر على الحريات، ودفع الأفراد الراغبين في ممارسة نمط عيشهم المخالف الذي اختاروه نحو العزلة والخلوة في بيوتهم، لكي يبقى الفضاء العام للمحافظين والمتدينين، وهو أمر مخالف كليا لمبادئ حقوق الإنسان، ويفضي تماما إلى تكريس واقع الأنظمة القائمة على الرقابة الدينية المتشددة للمجتمع، وعلى مناخ محاكم التفتيش التي تجاوزتها البلدان الديمقراطية منذ قرون.
إن مشكلة الحريات ليست بتاتا مشكلة المواطنين العلمانيين، الذين لا تزعجهم مطلقا مظاهر التديّن في مجتمعهم، والتي يعتبرونها من الحريات الفردية والجماعية الأساسية، فالذهاب إلى المسجد للصلاة، بل والصلاة على قارعة الطريق أحيانا، وإطالة اللحى وتنقيب النساء أو تحجيبهن، ورفع الصّوت بالآذان في المساجد أو في أي مكان، وتفضيل ارتياد الحدائق والغابات والإمتناع عن الذهاب إلى الشواطئ أو التبضّع من المتاجر الكبرى التي تباع فيها الخمور، وتجنب التجمعات الإحتفالية التي تعرف "الإختلاط" والرقص والغناء، وحضور مجالس الوعظ والإرشاد الديني وممارسة "الدعوة" بمناسبة أو بدونها، وصيام رمضان والإمتناع عن الأكل طوال اليوم، كل هذه السلوكات تدخل عند العلمانيين في باب الحريات الفردية التي يجب أن تحترم، أي ألا تعرقل أو تمسّ أثناء القيام بها، غير أن الإسلاميين المتشدّدين لا يقبلون في مقابل ذلك كل السلوكات المخالفة لما هم عليه، والتي هي أيضا شئنا أم أبينا حريات فردية صميمة، ويظهر ها هنا بوضوح الخلل الموجود في معنى "الديمقراطية" و"الحرية" لدى المتشدّدين، إنها بالنسبة لهم ما يمنحهم الحرية في فعل ما هم مقتنعون به، ولكنها لا ينبغي أن تمتد لتشمل حريات غيرهم التي ينبغي الحجر عليها.
أنت إذن أيها المواطن العلماني حرّ تماما، لكن شرط أن تقبع في بيتك، لكي لا تمسّ بـ"حرية" المتدينين في أن يستعرضوا إيمانهم في الشوارع دون أن تستفزهم باختلافك عنهم . إلى أين يمكن أن يقود رأي مثل هذا ؟
لنلق نظرة عما حدث للمسيحيين في نيجيريا ولبنان والعراق ومصر هذه السنة، لقد اضطروا في بعض البلدان إلى عدم التجمهر وإلى التخلي عن حقهم في الإحتفال في الشارع خوفا من المذابح التي ينظمها الإرهاب الوهابي المتوحش ضدّ مظاهر التديّن المسيحية، بل إن يد الإرهاب طالت الكنائس نفسها، والدرس الذي يراد تمريره يقول: على هؤلاء أن يكتفوا بالتعبد في بيوتهم وإغلاق الأبواب والنوافذ، لأن الكنائس والشوارع أماكن عمومية، تؤذي مظاهرها المسلمين المؤمنين المحافظين وتستفز مشاعرهم، من كان يظنّ أن الأمر سيصل إلى هذا الحد من الهذيان ؟
إن "نظرية" السيد يتيم في الحرية هي من الغرابة بحيث قد لا تستحق منا أي تعقيب، لكن السرعة التي أصبحت تنتشر بها الأفكار المتطرفة يبعث على الكثير من الحذر، فإذا كانت حرية المبدع السينمائي والمسرحي في إنجاز عمله بالطريقة التي يجدها ملائمة لرؤيته الفنية تمسّ بـ"حرية" الإسلامي المتديّن وبحق الجماعة في ألا تستفز مشاعرها المحافظة، وإذا كانت حرية اللباس العصري للنساء تمس بـ"حرية" المحجبات لأنه يؤذي مشاعرهن الدينية ويثير شهوات الرجال المهيّجين، وإذا كانت حرية اليهودي والمسيحي المغربي في ممارسة شعائره الدينية كما يضمنها الدستور تمسّ بـ"حرية" المؤمنين المسلمين الذين لا يقبلون المختلف عنهم في العقيدة، فسيكون علينا أن نعيد النظر جميعا في معنى الحرية.
إن حدود الحرية الفردية لكل مواطن ليست في التخلي عن الحرية والإنسحاب من الفضاء العام، بل هي في عدم المسّ بحرية الآخرين في أن يعملوا ما يشاؤون بدورهم في اختيار نمط عيشهم في إطار الإحترام المتبادل، فحرية المتديّن ليست في أن يمنع غيره من الأكل في رمضان، وإنما حريته هي أن يصوم ولا يأكل، وحرية الإسلامي ليست في منع غيره من شرب الكحول، بل هي في الإمتناع عن شربه، وحرية المحافظ ليست في المطالبة بمنع مسرحية أو فيلم، بل هي في عدم الذهاب لرؤية تلك الأعمال واختيار العروض المناسبة لنزعته المحافظة، لأن المسرح والسينما ملك للجميع. إن حرية المتديّن إذن لا يمكن أن تكون في فرض نمط عيشه وذوقه وميوله الدينية على الآخرين وإلزامهم بالإنسحاب من أمامه لكي لا تمسّ مشاعره. إن المؤمن الذي تستفزه مظاهر الإختلاف هو ضحية مفهوم منحرف للتديّن، كما يعاني من نقص في الإلمام بدينه من منظور منفتح، ومن انعدام التربية على حقوق الإنسان وعلى احترام الغير كما هو، لا كما يريده المؤمن أن يكون.
لن يكون للسيد يتيم أجران لأنه أخطأ القصد والتعبير، ولكن سيكون له أجر واحد لأنه سمح لنا بتناول هذه التفاصيل التي تقبع فيها عفاريت سوء التفاهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حقوق الانسان??!!-عفوا تعني حقوق الله.
tarik berdai ( 2012 / 1 / 2 - 17:06 )
في الواقع ما حدث للسيد يتيم ليس زلة لسان و إنما تعبير صريح عن ما يضمره الإسلاميون للمجتمع
فهم غير معنيون ألبثة بوثيقة حقوق الفرد و المواطن وان حدث و اضطروا إلى قردنة- من قرد- خطاب حول الحريات و الحقوق ألإنسانية فهو من قبل التقية أي تدويخ الناس إلى حين تسمح فيه الظروف بنزع اللثام عن محياهم القبيح
مكمن البرنامج الإسلامي هو القرآن و السنة النبوية و الثابت من الفقه الذي اجمع حوله أأمة الأمة منذ 1400 عام و في هذه الرؤية ليس هناك من مكان لحقوق الإنسان فقط هناك حقوق للله و الإنسان ما هو إلا عبد مجرد من كل حق فحتى القيم الاجتماعية نفسها تأتي جاهزة من عند العلي القدير و كل ما يؤطرها من قوانين و أحكام و ليس للعبد في تبديلها أو تغييرها أو نسخها سواءا بانتخابات أو استفتاءات أو مؤسسات برلمانية فالحاكمية الإلهية هو مبدا كل الخوانجية حيثما كانوا و معنى هذا بالضبط هو ضرب الإنسان في xlog1بتاريخه و علومه و رغباته الانساتية شكرا


2 - اوليس المسلم انسانا
عبد الله اغونان ( 2012 / 1 / 2 - 20:47 )
السيد عصيد ما زال يستعمل مصطلحات اليسارويقصر حقوق الانسان على المفاهيم الغربية.ويتناسى الخصوصيات من دين ولغة وهوية وتاريخ.المسلم انسان خاص له تربته
الحرية حمالة اوجه تتطور وليست جامدة هل من الحرية والعلمانية ايديولوجيته المتاجرة بالامازيغيةالعنصرية


3 - تهديد اخر
رشيد ولد الهادي ( 2012 / 1 / 2 - 20:55 )
الامية و الفقر يساهمان حتما في الاستسلام و التطرف . و بتوفير الارضية من هذا الحزب اخشى من ازدياد مظاهر التشدد حتى في بعض المناطق الاكثر تسامحا من المغرب.


4 - حدود الحرية
ناديه احمد ( 2012 / 1 / 3 - 08:25 )
اولا احييك على هذا المقال الرائع , ثم اقول لك ان الحريه سلاح خطير ويجب ان نأخذه بالتدريج اى ان تبدأ مع الطفل الصغير لينشأ عليها ويعيشها ويعرف اهميه الحفاظ عليها ولكن ان تعطى فجأة الحريه لانسان عاش مكبوتا مظلوما مقهورا حتى قبل ان يفهم حدود الحريه فهذه مخاطره وسيتم تحميل اول جريمه تحدث فى الشارع على شماعة الحريه لتشويه صورتها التى يرتعب منها اصلا كثير من الرجال . لذلك ينبغى ان نبدأ بتعريف ان الحريه التى ننشدها ليست حرية التعرى ولكن الحريه التى تجعل الانسان صلبا قويا يقاوم اى مغريات أنسان يخاف الله ولا يخاف العصا , لان التقدم المذهل سيجعل ـ خلال سنوات قليلة ـ كل شىء يصل الى داخل بيتك مهما حاولت منعه لذلك فمن الافضل البدء من اليوم فى تقوية انفسنا وبناء الشخصيه القويه التى لا ترتعب من الحريه و لاتتحجج بحجة الحفاظ على الشعور والتى تعطى انطباع بضعف الشخصيه وضعف الايمان


5 - جهله بجهله
الحسن مرزاق ( 2012 / 3 / 7 - 14:24 )
يبدو عصيد هنا وكانه المالك الوحيد للحقيقة المطلقة والمنطق المحكم والوحيد الذي بيده حل ازمات العصر.كيف يتسنى لعصيد ان يجعل الاستثناء قاعدة بتحويله للشعب المغربي الى مجتمع لاديني؟ان عصيد يرنو الى هتك الاعراض وسرقة اموال الشعب باسم الحرية الديموقراطية.وما زال يجتر ما اكل عليه الدهر وشرب من قمامات الاغريق الذين يتخبطون اليوم في ازمات اقتصادية خانقة لا يكادون يجدون لها مخرجا.هل ما تتجرعه اليونان اليوم والدول الديموقراطية من هسباب التدين لديهم؟كيف يمكن لك ان تتجرا على تعاليم الدين الحنيف الذي يمتلك حلولا للبشرية جميعا؟اذا كنت ترضى التبرج والسفور والكفر لبناتك واخواتك وزوجتك باسم الحرية الفردية فلا تفرض ذلك على المغاربة ان يقبلوه وانا متاكد ان المغاربة غيورين على انفسهم ولن يقبلوا تراهاتك وهذيانك يا حماد.

اخر الافلام

.. سيدة محجبة تحرق علما فرنسيا. ما حقيقة هذه الصورة؟


.. المحكمة العليا الإسرائيلية تقضي بتجنيد الطلاب -الحريديم- | #




.. غالانت يقول إنه آن الأوان لتفي واشنطن بالتزامها بمد إسرائيل


.. رائد مستقيل من الاستخبارات الدفاعية الأمريكية: الحرب لم تكن




.. فقد بصره وجزءا من أعضائه الداخلية.. الجزيرة ترصد حالة أسير ف