الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هكذا قضيت ليلة الميلاد في الناصرية

محمد نوري قادر

2012 / 1 / 6
الادب والفن




هي ليلة كسواها بلا أقراط تتدلى ولا أزهار نتراشق فيها بموّدة ولا إشارة لرحيلها , ولا ما يميزها عن الأخرى , المقاهي كرهت مبكرا حضورها ,تتدثر بغفوة ثكلى وتهاني خَجلة وتصفع يومها القادم بالشك , وكما هي الليالي الأخرى التي مضت تنتحب خطانا وتنقرض بصمت وسكون مثلما انقرضت أحلامنا وتركت خلفها العويل , لم يوجد فيها ما يدعو إلى الفرح ويبعث الدفء , الدفء الذي هجرنا معظم الفصول , لا شيء أبدا من هذا القبيل , كأنها تعيش بمعزل عن محيطها , وكأنها أيضا نسيت ثيابها وما تتكئ عليه , تأكل شهوتها وتقف عند مفترق صاخب للطريق , تتلفت من يطاردها وخلفها البهاء وهي بحق تمسك المفاتيح . كم أنا مولع بها مثل أصحابي وأبنائها الطيبين , وكم أنا لا أقوى على فراق دفئها وان أصبحت كأنها من مدن الجحيم تزفر الآهات من جوفها كأنها حمم تقذف ونتلظى بها , ولا أحدا يرى ويعرف كم تدثرت بالوهم . كم أحببتها تعزف ما اشتهيه من النغم , وكما هي , رغم إنها الآن تجهش بالبكاء وهذا الهذيان اللامجدي , ورغم نسيانها لي وخطواتي التي أفنيت عمري لأجلها وما انشد , لأنها مسكونة في ظلي ومسكونة أيضا بالوعي , لأنها قلادة كتبت عليها اسمي , لأنها كل شيء تطرب أذني رغم التجني , لذلك كتمت هواجسي وقررت أن اخرج من عزلتي وأودع بصمت ليلة أخرى تمضي ويوم أخير من عام تلظت كل جوانبه وشجونه , وبي رغبة مجنونة أن أرى نهر الفرات واخبره ما يجري وما جرى , واني لم أزل عاشقا له وكما كنت فيما مضى وأشاركه همومه في مدينة منسية في قاع الكون تعثرت الطرب وزادت من صخبها وجع .
لم يوجد فيها ما يوحي إنها تستقبل عام آخر ,إنها شاحبة وتسكب دموعها وتترنح من الظمأ , كئيبة حد الثمالة من القدر والتوبيخ ومن القلوب المدماة , ترتعش رمادها والذكريات , تقرع الأجراس ولا أحدا يسمع , تلهث من الضجر , تبكي عشاقها الذين غادروها من الوجل , تتسول البسمة وتتعكز أحلامها في سماء غائمة ولم تعرف ألوان قوس قزح , غبارها طمر الحقول المترامية , وعكر دهشة القمر , هكذا هي , وهكذا تمطر شوارعها أسئلة وأنا أتجول فيها , كأن لا احد يهتم لأمرها , كما هي أحلامنا .
كم شعرت بالأسى على صمتي وعلى حالها وعلى انخفاض الأمل وانحراف شمسها ومن يطعن بلا هوادة خصرها , كأني أتجول في مدينة تسكنها الأشباح , معبأة بالصمت ,أبوابها موصدة بعلامات الاستفهام .
عند الجسر , في الضفة الأخرى , حيث كنت قادما من محلة الإسكان , وبعد أن ألقيت تحيتي على النهر , وقع نظري على بستان زامل الذي لم يبق منه سوى بعض شجيرات وبعض من أشجار النخيل تذكرت صديقي الراحل علوان الدسم فجأة لأنه كان يعشق البلابل التي سميت باسم البستان والتي لا يجني سواها لأنها عذبة كالفرات وشدوها يبهر الأنفاس وتنطق هياج الأرواح وسكونها , ومضيت أتعثر الذكرى وازفر غياب من رحلوا من اجل صباح بلا فخاخ وأغاني تملأ هذا الفراغ الشاسع الذي امتدت به أطراف الخريف طويلا , وسلكت طريقا بعيدا عن شارع ألحبوبي ,هو زقاق بالأحرى قرب المحكمة ونادي الجزائر سابقا لاني اكره رؤية المستشفى منذ طفولتي ومن رائحتها الكريهة التي تصيبني دائما بالدوار , أدمدم بكلمات لم افهمها ولم اعرف كيف خرجت من فمي , ربما شعرت بضيق ما لمسته وما يفزع المرء حين يرى ما لا يطيق أن يراه . كيف أصبح الأمر هكذا , وما جدوى من لا يعرف المرح ,ومم كل هذا الفزع ؟ وهل حقا من يعيش هنا يطربه الصباح ؟! وكيف يُختم على الأيام .. هذا اليوم لن يعود مرة أخرى , فوقفت ارثي من أحبها وأحبهم , ومن الخداع الذي طال أيامنا وأنا أتعكز الفرح واقبل المرآة التي يلفح هوائها وجهي , لم ينقصها شيء , الوهج ما يتعلل به البعض , وهو في عمقها يجري , حزنت لمن يدري ومن لا يدري ومن يفتعل العري ومضرجا بالحماقة ينشد للخاتمة , حزنت لاني لم أجد من يصغي ومن لا يود مصافحتي , ومن لا يعشق التنزه مثلي , ومضيت أحث الخطى أودع الأرصفة وظلي , ولم أر ما أحب رؤيته ولم أجد متسكعا يريد التحدث معي , بل لم يوجد في الشارع غيري حتى وقفت عند محل النافذة لصديقي حسون الشنون وهو يرتب قفص لببغاء اشتراه على ما يبدو حديثا فهو أيضا يعشق الطيور كما الألوان والغزل ,والخفق يلبسني ثوبه , ويعصف على العشب مرآته على عام آت يصرخ توتره ويشل تفكيري ,ولم يحرك في المدينة جناح . شعرت بالضجر الذي يلاحقني دائما وعدت مسرعا إلى كهفي كأن السأم قط يخدش بأظافره روحي ,هكذا قضيت ليلة الميلاد في الناصرية انتحب ظلها وظلي , والورم ارتفع أعلى من المفاصل ويأبى أن يفارق قدمي .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا