الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما تبقى لنا من الأمس

سمير عبد الرحيم أغا

2012 / 1 / 8
الادب والفن


أسراب النخل تمتد بلا حدود ، وعلى مرمى البصر ، تطول حتى تشكل دائرة كبيرة تقع في القرية ،بعض بيوتها مبنية من الطين المفخور ، وبعضها الآخر من الطين ، ولكل بيت قطعة من الأرض أمامه أو حوله ، وان اختلف أنسانا عن غيره ، بالمال و البنين إلا أنها لا تختلف بوجود عريشه العنب في ترتيبها ، تألقت البيوت بما علق بها من أمطار الليلة الماضية ، علا صوت الدجاج ، وصاح البط هناك ، وكان يسمع من بينها صوت مميز صغير لم يقو على مجاراة غيره طويلا فاكتفى بالتخويف على أصحابه
فتح باب خشبي سمع له صريرا مزعجا كأنه لم يستعمل منذ زمن طويل ، أطل منه رجل تجاوز الستين ، يفرك يديه ببعض ثم يرفعها إلى فمه وراح ينفخ فيهما ليبعث الدفء ، عاد إلى الداخل بعد دقائق قليلة ، ولكنه خرج في هذه المرة وعلى ظهره كراس أبيض من الورق الكبير كالتي يستعملها طلاب المدارس وحمل على كتفه الأيسر كيس قماش ، سار بمضض وبخطوات متئدة متثاقلة ، وقد ارتدى معطفا يصعب معرفة لونه . ورفع ياقته حتى خنقت عنقه وأذنيه ، وبعد أن اجتاز الطريق الرئيس بمحاذاة نهر( التحويلة ) ، توقف قليلا ثم أمسك بالكيس جيدا ، مضى في طريقه واضعا يده اليسرى في جيب معطفه إلى أن وصل إلى المدرسة حيث يعمل ، وجد بعض من يعمل مثله قد سبقه ، فأسرع بإنزال كيسه عن كتفه وفرغ ما بها على الأرض فكانت حلويات ونستله وأقلام ودفاتر وأشياء أخرى ومنديل صغير ورغيف خبز ، خلع معطفه ولف به منديل الطعام ثم دفعه إلى الخلف وجلس ،أخذ التلاميذ يتوافدون على المدرسة التي يمتد سياجها إلى مسافة طويلة ، رأى أحدهم ينظر إليه ، ثم يهمس لرفاقه بكلمات لم يسمعها... فنظر الجميع إليه وقد أتسمت عيونهم بالجدية، اقترب آخر رافعا يده بالتحية:
صباح الخير عمي سعيد
ارتعشت شفتاه ، تبحث عن جواب... تردد ، لم يعرف أذا كانت هذه التحية صادقة أم كاذبة ، تظاهر انه لم يسمع شيئا، تشاغل بالنظر.. حوله حيث النخيل يفرش مساحات جديدة من الظل أكثر من المساحات الأولى ، وقعت عيناه على شجرة السدر ، كان قد رآها أخر مرة خضراء قوية يتسابق التلاميذ على تسلقها.. ليأكلوا تمرها اللذيذ ، وهي ألان صفراء متكسرة الأغصان لم يبق منها سوى هيكل ضعيف : كم تفيء تحتها عند ما كان معلما ، دخل سعيد المدرسة لأول مرة منذ عشرين عاما.. و أحلامه تمشي أمامه تؤرخ فرحه .. أمل يستشف الغيب ، استطاع بمساعدة أخيه الكبير وتوسلاته أقناع والده بإرساله إلى المدرسة في المدينة ومازال يذكر يومه الأول، ،عندما لبس حذاءا جديدا له بريق الشمس ، وتساءل كيف يقوى على ملامسة الأرض ؟ اجتاز المرحلة الابتدائية، ودخل دار المعلمين، ليكون ناجحا في نهايته، وحين مات أخوه كان العون لوالده وأمه حتى أمدته الأيام والحياة بأبواب الخير ،
فرح والده بالشهادة التي حصل عليها ، وكأنه فاز بالجنة ، بعد أن تجرع قسوة الأيام ،و أصبح معلما يشار له بالبنان ، حين يتكلم يحس بالدنيا ، كلها تيسرت له ويبدأ يتفاءل ، يأتي كل يوم بهيئة جديدة ، يشتري ما يريد، تعلم ركوب العجلة ، وضع قدمه على الطريق رأى بغداد، ، رمى بهدفه لتطوف حوله هالة مبهمة من القداسة ، أشتري ملابس لعائلته ، كأنه شمس الأحلام ، مضت الأعوام ، ولم يعد يضيق بالحياة ،وما كاد يستعيد الوعي ويعود إلى مدرسته حتى فقد نظرته في هرج ومرج .
ويهجم علينا الحصار من كل مكان.. حتى على نخلة الصحراء منذ أن ولدت في هذا الزحام ، علق السلاح فوق النخلة ، يموت من يموت هناك موتى في غرف الإحياء ، شحبت له الوجوه جميعا كأن شريانا انقطع ، الناس صامتون كأنما ينتظرون يوم القيامة ليتكلموا أو ينتظرون الموت ،نبض القلب يكاد يتوقف ويكف ولا ينبض من جديد ، الهواء يباع .. يتصارع، حتى يموت كل شيء، أصبح راتب سعيد لا يتعدى سعر حذاء في زمن الحصار، وهو الذي خدم المدرسة أكثر من عشرين عاما وأكثر، ماذا يفعل ؟ الأولاد كبروا مع تجاعيد الزمن، عاش الأمل في صدره، يغذيه بالأحلام، خفض صوته حتى استحال إلى همس، و عيونه لا تفارق جبينه، لقد فرط بالتعليم، نفذ ما معه من مال وخابت يده من كل شيء،
لم يجد سعيد حرجا من الاشتغال بائعا للحلويات خلف سياج المدرسة التي كان فيها معلما ، ليعيش وكأنها البداية وعمره فارق الستين ، غيره تركوا المهنة إلى أخرى توقف سعيد قليلا رفع يده إلى جبينه ليمسح العرق الذي أختلط بالتراب ، التفت إلى المدرسة الكبيرة كان عهده بها ضجيج ومرح ، مازالت عربة أبي سلام الذي يبيع الباقلاء في موضعها ،لكن أبو سلام قد شاخ من جراء الحصار ، ابتسم لأيام التعليم ، هذه هو الهلاك ، ساقاه لم تقو على النهوض ،خلايا عقله كانت يوما متدفقة بالحياة ، أين أنت ؟ قتلوا دقات قلبه ، انهمرت دموعه كنهر ، لغة الحزن ترنو بظلالها على بيوت القرية ، بعد أن تكسرت أغصان الأشجار ، علا صوت خفيف على أثره ، كان صوت ناقوس سمعه ألاف المرات من قبل ، وكثيرا ما نادى التلاميذ لقرعه والترنم بألحانه عند نهاية الدرس ، أحس بالصوت يرتفع ويعلو حتى لم يعد يشعر بشي . ترى هل تمسك هذه اليد القلم مرة أخرى لتخط به الكلمة وليقول ما تبقى لنا من الأمس ويحكي كيف مات كل شيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب


.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز




.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم