الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
وكل عاشق قلبي معاه (ليس رثاء لإبراهيم أصلان)
شريف صالح
2012 / 1 / 9الادب والفن
رحل أصلان ابن الحياة، الذي تحرر من سطوة اللغة، وسطوة الضوء، وسطوة السلطة. ابن الحارة الشعبية بملابسه البسيطة وشاربه المميز وعينيه شبه الغافيتين، اللتين تلتقطان ما لا يراه الآخرون.
بسيطاً، وعميقاً، ودقيقاً.
هكذا هو نص إبراهيم أصلان، المعاكس تماماً لنص خيري شلبي. كلاهما مؤرخ للروح المصرية الشعبية، تلك الروح التي حالت تربية محفوظ البورجوازية وأفكاره الكبرى عن التقاطها.
كلاهما التقط من العتمة والتجاهل حكايات المهمشين ، وكلاهما مولع بالتفاصيل إلى حد الجنون. لكن طريقتهما مختلفة تماماً، فأصلان يكتفي من كل التفاصيل بومضة، لحظة، رائحة، نكتة، ويترك للقارئ أن ينتقل بروحه ـ عبر تفصيلة واحدة ـ إلى عمق المشهد وماضيه، أما شلبي فليس كثيفاَ و شفيفاً هكذا، لأنه أمين أكثر مما يجب في نقل الماضي كله والمشهد كاملاً، لا يفلت منه شيء لخيال القارئ وتوقعه.
وللقارئ أن يختار القيام برحلة على جسر واحد يقيم معه علاقة حميمة، أو عشرة جسور تتيح له خيارات أكثر رحابة.
أصلان وشلبي، كلاهما يشبه نصه. هذا اكتفى بست أو سبع كتب، تشبه ذاته ووعيه بالكتابة، وذاك على الأرجح لا يعرف عدد الكتب والروايات والقصص التي كتبها. ثم، أخيراً، وضع كل منهما نقطة في آخر السطر وودعنا، بفارق شهور معدودة!
محاولتان متطرفتان لتفجير اللغة، إما بالرهان على اقتصادها وتقشفها، وإما بالرهان على ثرائها واتساع دلالاتها. وكان الدرس الذي لا أنساه ما حييت في تصديره لروايته الأولى "مالك الحزين": يا ناثانيل أوصيك بالدقة.. لا بالوضوح". لا يكون كاتب القصة القصيرة مجيداً إلا بهذا الدرس، وأصلان أحد كتابها الكبار في العالم كله، وقد عاش وفياً لهذا المبدأ.
وفي يوسف والرداء أذكر قصة كلها قائمة على سؤال بسيط جداً، فجأة تلتفت البنت إلى حبيبها وتسأله: هل تعرف لون عيني؟ ليس أبسط ولا أعمق من هذا السؤال! بكلمة مشطوفة، خالية من الزوائد والشوائب، يجرح إحساسنا، يصدمنا، ويخدش استكانة وعينا.
إن كل مفردة في نص أصلان هي صورة تم الاعتناء بها طويلاً في ذاكرته، ولهذا تترك في ذات المتلقي إحساساً عميقاً، وتعاطفاً مع أشخاص ليسوا خلواً من التباهي على هوانهم.. ورغم بؤس العيش يعذبهم ذاك الشعور البطولي المفعم بالكبرياء والأسى.
تخونني الذاكرة عادة، كلما حاولت أن أتذكر كيف تعرفت على كتابة أحبها. في الريف لا يملك المرء رفاهية التعرف على الكُتاب. كانت القراءة آنذاك خليطاً من النصوص، إلى أن وصلت إلى نص يوسف إدريس الذي فتح وعي بعمق على القصة القصيرة.
ناسب مزاجي، لأن كلينا من الريف، إلى أن صادفت كاتباً آخر، ريفياً أيضاً، هو عبد الحكيم قاسم، وفي التوقيت نفسه عرفت أن للمدينة قصصها كتلك التي يكتبها أصلان.
قاسم وأصلان معاً، شكلا النقلة الثانية لي في كتابة القصة. صحيح أن كتاباً آخرين تعرفت عليهم وأحببت عوالمهم مثل: بهاء طاهر، يحيى الطاهر عبد الله، نجيب محفوظ، زكريا تامر، محمد البساطي، محمد عبد السلام العمري، وصلاح عبد السيد. لكن ظلا لأصلان وقاسم، مكانة تسبق الآخرين.
أثناء دراستي في الجامعة فجعت بخبر رحيل عبد الحكيم قاسم، قبل الآوان، ودون أن ينال ما يستحق. وبعد الجامعة وأثناء عملي الصحفي أتيحت لي الفرص للقاء الكثيرين، لكنني لم أتحمس للقاء أصلان تحديداً.
يلازمني دائماً هذا الهاجس، أن يجعلني الشخص أكره إبداعه، أو آخذ الإبداع بجريرة صاحبه! ربما تصافحنا مرتين أو ثلاث، ودار حوار عابر.. لكننا تواصلنا عبر الهاتف مرات.. كان يتكلم مثلما يكتب، مثلما يفكر ويحس ويعيش. مقتصداً وذكياً، أذكر أنني كنتُ أعد تحقيقاً ما وجاءت سيرة "صدام" في الكلام، فقال لي إن مشكلة معظمنا ومنهم صدام أنه ليس في قاموسه أن يعتذر. نحن لا نتربى على كلمة "آسف". وكلفنا كل ذلك بسبب كلمة.
عندما كنتُ أتصل به كي أحييه على نص نشره، كان يبدو فرحاً مثل طفل، أو شاب مبتدئ في عالم الكتابة، ليس من عادته التباهي وكشف أسراره، بل يعطيك النص، ثم يتوارى.
هذا نصي، لكم أن تحبوه أو تكرهوه. أما أنا فلا شأن لكم بي. حياته لا تختلف كثيراً عن حياة من يكتب عنهم، فقد يشكو دون مرارة أن الشقة تضيق بالمكتبة أو أن الهاتف بعيد عنه. ليس ثمة رفاهية ولا ادعاء ولا شهوة الضوء. ومن حيله ـ على عكس الكثيرين ـ أنه يتجاوز سريعاً الشكليات والتفاصيل والفضول، ويتعامل معك مباشرة على أنك صديقه الحميم.
وحين ترددت مرات على "الكيت كات" بصحبة صديقي أيمن عامر، مشيت في الحواري الضيقة والملتوية ذاتها، تلصصت على الشبابيك الواطئة، وشممت روائح المحشي والتقلية وسمعت فحش النساء، والأغاني تتردد آخر الليل. إنه "الكيت كات" كما التقطته عين أصلان المحبة، بلا زيادة ولا نقصان. ونحن لا نسير في شوارع من بشر ومطبات وحفر، بل نمشي الهويني في نص أصلاني.
كنا نردد لزمتنا الشهيرة:" الله يرحمك يا عم مجاهد". هذه الجملة العابرة، لستُ متأكداً، هل أخذناها من الرواية أو من فيلم "الكيت الكات" لكننا تواطئنا عليها. وبعد تسع سنوات غربة لا يكاد يمر يوم إلا أجدني دون سبب ما أهتف بصوت مرتفع:" الله يرحمك يا عم مجاهد"!
فلك السلام يا عم إبراهيم، وابق قريباً من الهاتف، فلربما أرغب في الحديث معك بضع دقائق. واعذرني لأنني لا أستطيع أن أتخيلك في أيام الغياب الأولى.. صورك التي استدعيها كلها تفيض بالحياة والتأمل. وهكذا أراك جالساً في زاوية المقهى مع الشيخ حسني وهو يريك صورته عندما كرمه عبد الناصر، فتبتسم له ولا تعلق، بينما الدومينو تقرقع على الطاولة المجاورة، وأم كلثوم تحنو عليكما بصوتها من عمق المقهى: "وكل عاشق قلبي معاه"
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. محمد الشرنوبي يتحدث عن رأيه فى فيلم بضع ساعات
.. مهرجان الأقصر يحتفي بالسينما الموريتانية في ندوة بحضور رئيس
.. عمر متولي يثير جدل في الوسط الفني بسبب حديث عن موهبة الراحل
.. النادي الأميركي في الجزائر.. مساحة جديدة للتعريف بثقافة الول
.. الدوحة تستعد لعودة منافسات بطولة -ون- للفنون القتالية في فبر