الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجتمع الاستعراض في عالم رأسمالية ما بعد الحداثة

مهدي بندق

2012 / 1 / 9
العولمة وتطورات العالم المعاصر


مجتمع الاستعراض في عالم رأسمالية ما بعد الحداثة
مهدي بندق
مصطلح حديث يقصد به عالم الرأسمالية المعاصرة ، وهو العالم الذي تجاوز زمن إعطاء الأولوية للإنتاج الكثيف واستثمار فائض قيمة العمل المأجور في تنمية المشروعات الرأسمالية الكبرى وصولا بها إلى مرحلة الاحتكارات والتجمعات الاقتصادية العالمية . أما مجتمع الاستعراض الذي ظهر اليوم فهو المجتمع الذي ليس همه البتة أن يلبي حاجات المرء الحقيقية بل يخلق لديه حاجات مصطنعة Artificial ( مثال المياه المعدنية والهواء المكيف والأزياء المتغيرة دوما ... الخ ) حتى ليشعر الناس بالتعاسة لو لم يتملكوها .
هذا النمط الجديد من المجتمعات الرأسمالية هو ما جعل من الاستهلاك في حد ذاته غاية ، حيث يتكالب الناس فيه على حيازة السلع والأجهزة الحديثة دائمة التجدد مسايرة منهم للموضة والذوق السائد على حساب الهوية والأصالة وقيم المروءة والشهامة والعفة ....الخ وبهذا يعيش الناس في زمن زائف تقاس فيه كل لحظة في الحياة - بما فيها الحب والصداقة - بالمقياس السلعي الذي يعتمد على المراقبة المتبادلة ، وعليه يتبدى الواقع في هيئة مستعملة Second hand كما لو أن كل شئ قد تمت رؤيته وتم انجازه قبلا ، كأن الوجود مجرد فيلم سينمائي سبقت مشاهدته ، وعليه فإن المستقبل سوف يبدو متضمنا ً داخل الفيلم بما هو ماض في ذاكرتنا ، فلا سبيل لأي فعل مبتكر مبدع وذلك هو السقوط بعينه .
كان للفيلسوف الألماني هربرت ماركيز الفضل في فضح ملامح هذا المجتمع في كتابه " الإنسان ذو البعد الواحد " ذلك الكتاب الذي اعتبره الطلاب مفجرو ثورة مايو 1968 إنجيلا لهم ، فكانت ثورتهم على " المؤسسة " ( بألف لام الجنس ) تعبيرا ً عن رفضهم لهيمنتها. وسواء تجلت المؤسسة في الدولة أو الحزب أو الأيديولوجية ( حتى لو كانت يسارية ) فالنتيجة واحدة : محو الذات الإنسانية محوا ً تاما ً.
والحاصل أن فشل ثورة الطلاب في فرنسا أدى إلى تفاقم حالة الضنك البشري ، إلى درجة أن صار مألوفا ً قول البعض " في كل مرة يثور الناس على البورجوازية فالنصر دائما ما يكون حليفا ً لهذه الأخيرة " وهو قول يحتاج إلى مناقشة وتدبر ، رغم تسليمنا بأن ذلك هو ما حدث فعلا ً في ثورات 1848 ، 1871 ( كوميونة باريس ) وحتى ما انتهت إليه ثورة البلاشفة ( 1917 – 1989) فضلا عن ثورة 1968 لكن التاريخ لا يتوقف والتكرار لا غرو يعلم الثوار. وهنا يطرح العقل الإنساني على نفسه سؤالا ً حول المدى المتاح إنجاز ثورات جديدة في ظل ما بات يعرف بعالم ما بعد الحداثة ، لكن ذلك يقتضي أولا التعرف على هذا المصطلح .
ما بعد الحداثة Post- Modernism
هو اتجاه فكري ظهر في ثمانينات القرن العشرين تعبيرا ً عن فشل الحداثة الأوربية التي ُطمس مشروعها جراء :
1- توحش الدولة على حساب الفرد (الريجانية والتاتشرية) 2- تحول العقلانية إلى محض أداتية تكنولوجية 3- استعادة الأصوليات والبحث عن هويات عرقية مع شحوب حس المواطنة 4- إعادة إنتاج الفكر الأسطوري والخرافي الجمعي .
كل صلب يذوب، كل شئ يتبخر في الهواء. تلك خلاصة التقرير الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي – الماركسي سابقاً فرانسوا ليوتار رداً على طلب حكومة كوبيك الكندية المتسائل عن الفلسفة المناسبة لنظم التعليم الحديثة. فكتب ليوتار كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" يقسّم فيه التاريخ الثقافي أقساماً ثلاثة : الأول يغطي المرحلة القبائلية.. المعرفة فيها أساسها الخرافة والأسطورة، ووسيلتها النقل من السلف الى الخلف. أما القسم الثاني فهو مرحلة الحداثة ومنبعها الحكايات الكبرى Master-Recites تنتجها الأيديولوجياتُ السياسية ُ المفروضة من قبل الحاكمين بواسطة المؤسسات التعليمية ووسائل الميديا..والوظيفة: تبرير السلطة . ثم تأتي بعد ذلك المرحلة الثالثة : ما بعد الحداثة ، وتلك مرحلة ُ العلم الذي لا غش فيه – بحسب ليوتار – حيث يستمد العلم مشروعيته من المعلومات المتدفقة المتسارعة عبر الآلات الذكية : ولا تتحكم في هذه المشروعية أية أوهام، ولا تخضع لأية أيديولوجيات ، وللفرد فيها أن يخترع لنفسه ما شاء من حكايات صغرى Petit Recites فهي الشكل الملائم بل الوحيد للبارالوجيا أي للخطاب الهامشي الذي يبيح كل فعل ، مزيحاً كل كابح أخلاقي أو ديني، مثله في ذلك مثل الخطاب العلمي.
هل أدركنا إذن من خلاصة تقرير الفيلسوف ليوتار معنى العولمة ؟ فإن كنتَ في شك مما أفضى به الرجل من أغراضها فسل الذين يؤلفون الكتب الأمريكية.. سل الوقح الصادق توماس فريدمان مؤلف "السيارة لكساس وغصن الزيتون" إذ يروج لفكرة "برجماتية" مفادها أن محلات ماكدونالدرز المنتشرة الآن في إسرائيل والدول العربية كفيلة بمنع الحرب ! كيف يا مولانا ؟! لأن الطبقات الوسطى القادرة على تعاطي هذه المحلات ستملى – بحكم مصالحها – ثقافة السلام على شعوبها [ هل نتذكر قول السادات :الصراع العربي الإسرائيلي أساسه سيكولوجي ؟!] والمسكوت عنه في كلام فريدمان هو دعوة هذه الطبقات الوسطى لإسقاط العامل النفسي بـ "البيتزا"، وحث " الفوّالين" على القبول بالسلام الإسرائيلي-الأمريكي.وحصر دور المثقفين في تأليف قصص التسلية البوليسية أو الغرامية أو روايات الخيال العلمي الخالي من أي مغزى أخلاقي أو جمالي! والمؤكد أن الشعر في ظل هذه الرؤية ميت لا محالة. فالشعر ليس مجرد نظم أبيات أو سطور ، ولا هو محض تشبيهات واستعارات. بل فضاء متقدم للبشر يشنون منه هجومهم المضاد على فيالق الشر المادي والدمامة النفسية والقبح الروحي.. فإذا تخلى الشعر عن دوره هذا فهو ميت ميتة راعى الضأن في جهله، أو إذا تنطع فهو ميت ٌ ميتة جالينوس في طبه .
لكن الشعر محال له أن يموت .. وكذلك الثورة ، أما الذي إلى زوال فهو عالم ما بعد الحداثة ، وبقدر ما يتراجع هذا النموذج العارض في مسيرة البشرية ، بقدر ينفتح الفضاء إلى حداثة جديدة ربما تنهض إليها شعوبنا نحن مواطني العالم الثالث بما ننطوي عليه من إمكانيات غير محدودة وإن ُطمرت ردحا ً من الزمان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية وتقديرا
حميد خنجي ( 2012 / 1 / 9 - 20:27 )
اهنيك ايها الزميل الكاتب على هذا المقال المتميز، من زاوية ما يمكن تسميته الاقتصاد السياسي النفسي أو علم نفس الاقتصاد السياسي - اذا جاز التعبير


2 - ما بعد الحداثة حل ام مشكلة؟؟
هاشم زيني ( 2012 / 1 / 10 - 04:52 )
تحياتي استاذنا الفاضل على هذا المقال الذي يتناول ما بعد الحداثة على انها حركة افرزتها الراسمالية وفشل الخطاب الحداثي في انجاز القطيعة مع فكر استغلالي يحول الانسان الى كائن مستلب ومشيأ يرزح تحت الاستهلاك حيث ان الاديولوجيا السائدة تخلق حاجات الانسان وفي نفس الوقت تدعي انها تحققها
وسؤالنا هو اي من الطريقين قادر على تغيير المعادلة هل هو اعادة تسييس المجال الاقتصادي والاجتماعي كما ينحو زيزك وباديو؟؟ ام انجاز فلسفة ما بعد الحداثة والاستعاضة عن السرديات الكبرى بالعاب اللغة كما ينحو ليوتارد؟؟
اعتقد ان الممارسة السياسية تؤدي الى انجاز خطاب حقيقي عن طريق الحدث الذي يقلب الدوال المهيمنة في البعد الرمزي الذي يسود مرحلة راسمالية الحاجات والمال والدولة البيروقراطية.


3 - الانسان ذوالبعدالواحد
عباس سامي ( 2012 / 1 / 10 - 05:56 )
لااعرف لماذا تذكرت هربرت ماركيوز وانا اقرا مقالك الرائع.

اخر الافلام

.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. ماذا حمل المقترح المصري؟ | #مراس


.. جنود أميركيون وسفينة بريطانية لبناء رصيف المساعدات في غزة




.. زيلينسكي يجدد دعوته للغرب لتزويد كييف بأنظمة دفاع جوي | #مرا


.. إسرائيليون غاضبون يغلقون بالنيران الطريق الرئيسي السريع في ت




.. المظاهرات المنددة بحرب غزة تمتد لأكثر من 40 جامعة أميركية |