الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واشنطن والثورات العالمية

محمد سيد رصاص

2012 / 1 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


عندما هزمت الثورة الفرنسية على أيدي قوى العالم القديم في لندن وفيينا وسانت بطرسبورغ،مع هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو عام1815،ذهب فرنسي اسمه أليكسيس دو توكفيل (1805-1859)إلى أميركا بالثلاثينيات.كان أكثر ماأثار انتباهه هناك"هو المساواة العامة السائدة هناك في الأوضاع الاجتماعية"،بخلاف الفروق الطبقية الموجودة في القارة العجوز،وهو مادفعه إلى كتابة دراسته(مجلدان)عن"الديموقراطية في أميركا"(1836-1839)،التي هي محاولة لتفسير لماذا نجحت الثورة الأميركية المجايلة لثورة1789الفرنسية ،وهو كتاب ماكان ممكناً بدونه وصول توكفيل إلى مؤلفه الثاني:"المجتمع القديم والثورة"(1856)الذي يعد،في العلوم السياسية،ليس فقط من أهم الدراسات عن الثورة الفرنسية،وإنما الأكثر إحاطة في موضوع تحول اتجاهات المجتمع القديم الكامنة إلى لحظة انفجارية اسمها(الثورة).
عبرت تجربة توكفيل عن كيف كان ينظر سكان العالم القديم إلى القارة الجديدة عند الشاطىء الغربي للأطلسي:"المهاجرون لأميركا منذ بدايات القرن السابع عشر فصلوا المبدأ الديموقراطي عن كل ماكان يربطه بالمجتمعات الأوروبية القديمة،وجعلوه خاصاً بالعالم الجديد،وهذا ماأتاح لهم نجاحاً أكبر في ترسيخ الحرية وجعلها أكثر نفاذاً في القوانين والتشريعات".هذا المقتطف من توكفيل كان يشاركه الرأي به شخص اسمه كارل ماركس في اليسار وآخر اسمه جون ستيوارت ميل قدم بكتابه:"في الحرية"(1859)الفلسفة السياسية لليبرالية بعد أحد عشر عاماً من صدور"البيان الشيوعي".
في أيام ثورات1848-1849كان الثائرون مازالوا يرون الجبهة المضادة ،مثل روبسبيير ودانتون ونابليون،في لندن وفيينا وعند القيصر الروسي،ولم يكن هذا رأيهم في واشنطن.استمر هذا في أيام كومونة باريس(1871)،وحتى عندما استعان البريطانيون والفرنسيون بقوى العالم الجديد ضد الألمان في عام1917ليحسموا الحرب العالمية الأولى،فإن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، عندما ذهب إلى مؤتمر فرساي بعام1919وعرض مبادئه حول "حق الأمم في تقرير المصير"،قد واجه الصدود والرفض من قبل زعيمي القوتين الإستعماريتين المنتصرتين،أي لويد جورج وكليمنصو،وهو ماساهم كثيراً في العودة السريعة للأميركان إلى العزلة القديمة وفقاً ل(مبدأ مونرو)عن العالم القديم حتى أيقظتهم منها غارة الطائرات اليابانية على مرفأ بيرل هاربور(7ديسمبر1941)،وليتزعموا العالم الغربي إثر هزيمة هتلر واليابانيين.
في الحرب الباردة مع السوفيات(منذ آذار- مارس1947)تغيَرت صورة واشنطن مع الثورات:أصبح المقياس عند الأميركان للأوضاع في كل بلد هو من خلال مسطرة الصراع مع موسكو،وهذا ماجعلهم يقفون ضد كل ثورات أوتحولات اقتصادية- اجتماعية،تأتي من قوى حاكمة أومن تحت،كانوا يشتمون منها رائحة يسارية،أوتتوجه ضد حكام هم على تحالف مع واشنطن.من هنا،كان تدبير (السي أي إيه)لانقلابات في ايران1953وغواتيمالا1954 ضد أوضاع ثورية ،وتأييدها لانقلابات عسكرية ديكتاتورية يمينية لتجاوز أوضاع وتحولات رأت فيها العاصمة الأميركية خطراً على مصالحها(إندونيسيا1965وتشيلي1973)أوتجربة ديموقراطية كانت ستؤدي إلى نمو متزايد للقوى اليسارية(برازيل1964)،وهو مااستمر إلى عام1979الذي شهد وقوف ومواجهة واشنطن ضد ثورتين منتصرتين على حكام كانوا على تحالف مع الأميركان في ايران ونيكاراغوا.
في العام التالي انقلبت الصورة:مالم تستطعه العاصمة الأميركية في تجيير ثورة يمينية من حيث التوجه الأيديولوجي،مثل الثورة الخمينية،استطاعته مع الثورة البولونية الفاشلة (آب1980- كانون أول1981)،بقيادة نقابة التضامن،والتي كانت موجهة ضد حكم شمولي لحزب واحد موال لموسكو،وتحمل توجهاً ديموقراطياً،ولكن عبر أيديولوجية يمينية ليبرالية،بخلاف مارأيناه في تجربة ديموقراطية يسارية،مثل التي قادها سلفادور أليندي في تشيلي 1970-1973،وكانت عبر تحالف حزبه الاشتراكي مع الشيوعيين.
هنا،رأينا،وطوال عقد الثمانينيات الذي تحول فيه التوازن العالمي لغير صالح السوفيات،تخلي الأميركان عن الحكام العسكريين الموالين لهم في الشرق الآسيوي(فيليبين 1986وكوريا الجنوبية1987)وفي أميركا اللاتينية،وتشجيعهم ورعايتهم لإقامة أنظمة ديموقراطية ليبرالية:في عام1989امتزج الاتجاه الديموقراطي الليبرالي مع النزعة الثورية في ثورات مجتمعات أوروبة الشرقية والوسطى ضد أنظمة الحزب الواحد الموالية للكرملين،وقد كان الانضمام اللاحق لدول(حلف وارسو)إلى(حلف الناتو)وإلى(الاتحاد الأوروبي)ليس فقط تعبيراً عن انهيار كتلة أمام أخرى في مواجهة الحرب الباردة وإنما أيضاً تعبيراً عن انهيار نموذج أيديولوجي- سياسي- أمني - ثقافي اقتصادي- اجتماعي أمام واحد آخر مواجه له ولكن عبر ثورات داخلية كان اختلال التوازن العالمي عاملاً مشجعاً على هبوب رياحها.
لهذا،كان (المحافظون الجدد) في عهد بوش الإبن،ومعظمهم من التروتسكيين القدامى مثل ريتشارد بيرل وفولفيتز ودوغلاس فيث، يظهرون بمظهر الثوريين الذين يريدون تغيير العالم عبر مذهب ديموقراطي ليبرالي كماكان تروتسكي عبر الاشتراكية الماركسية في عام1917،فيماأصبح شخص مثل شافيز في فنزويلا،وهو الفائز في صندوق الاقتراع الانتخابي،يجد نفسه في حلف لايتجاوز نوعية أنظمة ،مثل تلك التي عند أحمدي نجاد وكيم جونغ إيل ،من أجل مواجهة واشنطن.في العالم العربي كانت الليبرالية الاقتصادية غير متمازجة مع الديموقراطية عند الحكام الموالين لواشنطن في القاهرة وتونس والجزائر خلال فترة1990-2010،وذلك بسبب خشية العاصمة الأميركية من أن تحمل العملية الانتخابية قوى اسلامية لم يكن البيت الأبيض مطمئناً لها.
في صيف 2009كادت ثورة يمينية،ذات طابع ديموقراطي ليبرالي،أن تنتصر في طهران، وقد لاقت تشجيعاً من واشنطن.خلال ثورات عام2011العربية،في تونس والقاهرة ،استطاع باراك أوباما أن يكرر ملاقاة وتجيير العاصمة الأميركية لثورات1989ضد الحكام الموالين للسوفيات ولكن هذه المرة مع ثورات ضد حكام موالين لواشنطن ويشكل قوتها المحركة اسلاميون ظلوا لعقدين سبقا من الزمن في خصومة ومواجهة مع الأميركان، وهم يحملون أيديولوجية يمينية محافظة،مع نزوع ديموقراطي ليبرالي في التوجه السياسي- الاقتصادي،فيمالم يستطع ذوي التوجه الأيديولوجي الليبرالي قيادة هذه الثورات في القاهرة أوتونس،أوأن يفوزوا بعملياتها الانتخابية،بخلاف الاسلاميين.
قد تطرح هذه الثورات العربية اشكاليات فلسفية- فكرية:ثورات تقدمية من حيث استبدال نظام ديكتاتوري بآخر ديموقراطي انتخابي يتيح تمثيلية سياسية حرة للطبقات والقوى الاجتماعية،وحريات فردية أكبر في السياسة والفكر والثقافة،ولكنها من الممكن أن تكون مؤدية إلى زيادة التبعية والاستقطابية في السياسة الخارجية لصالح قوى الخارج الغربي الأميركي،الذي ظل يسعى منذ عام1951لجعل اقليم الشرق الأوسط ضمن المنظومة الأمنية الإمتدادية لحلف الناتو.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلم الدولة الكردية.. بين واقعٍ معقّد ووعود لم تتحقق


.. ا?لعاب ا?ولمبية باريس 2024: سباح فلسطيني يمثل ب?ده ويأمل في




.. منيرة الصلح تمثل لبنان في بينالي البندقية مع -رقصة من حكايته


.. البحث عن الجذور بأي ثمن.. برازيليون يبحثون عن أصولهم الأفريق




.. إجلاء اثنين من الحيتان البيضاء من منطقة حرب في أوكرانيا إلى