الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفول الأصنام

محمد بوجنان

2012 / 1 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


عندما تتحرك آلة التغيير وتبدا الحياة دورة جديدة ,هل يكون زمن الفرص قد فات وولى, أم أن للفرص أهلها وأصحابها ,يتقنون جيدا اقتناصها, و يعملون على جعلها قانونا طبيعيا يخدم مصالحهم . حيث يصبح في وارد الإمكان , رغم ما كان , الحديث باسم الدماء المراقة والكرامة المهدورة للتسلق على رقاب قضت وهي تحلم بفجر جديد, ليغتصبوا الحاضر والماضي عندما كان المجتمع يسام على أيديهم الخسف لم يكن أحد منهم يبادر الشعب بمنحة من حرية أو هبة من تجربة ديموقراطية , بل كانوا كلما ازداد الطاغية تجبرا إلا وشرعوا في تحريضه على المضي قدما في قهره وحثه على الإمعان في تغييب إرادة شعبه وتجاهل رغائبه وتطلعاته ,إلى أن بدأت تدب بين الحاكم والشعب عداوة وينشأ الشقاق فتنعدم الثقة .
ولأن المتلونين أفراد يجارون إرادة القوة , فهم لا يعرفون صداقات ثابتة ولا هم يؤمنون بولاءات فكرية أو مبدئية راسخة يدافعون عنها, وينتصرون لها . فهم ليسوا مستعدين تحت أي مسمى للتضحية من أجل أية قيمة أو عقيدة, إذ لا عقيدة لهم إلا عقيدة المستبد, يلبسون لباسه, يرددون خطابه , يبررون سلوكه ,ويلثمون التراب الذي تطأه نعاله .تحركهم استراتيجية تروم في مضمونها تثبيت الحاكم في لحظة زمنية معينة بعيدا عن تأثيرات الواقع ,وإحاطته بسياج من المرايا, ينظرفلا يرى سوى صورته , ويجتهدون في أن ينقلوا له رضى الناس ويملأون سمعه بالهتافات المؤيدة لفخامته الداعية له بطول العمر. ويمنعون عن بصره من الصور ما من شأنه أن يؤذي شعورعظمته ؛ صورالفقرو القهر والفاقة , صور أحزمة البؤس التي تحيط بفضاء المدن وتجعلها أشبه ما تكون بالمستنقعات , وإذا ما عرضت سهوا على مرمى بصره , أنكروها واعتبروها مؤامرة خارجية ,وأنها بفعل فاعل وأن الوطن من هذه المشاهد براء , هذا إن لم تجده في شغل عنها بصوره المنعكسة على المرايا المحدبة ؛ وهي تضخم صوره في عينيه ,وتزيدها ضخامة المطابع التي تجني ,من التفنن في التقاط الصورلشخصه المجيد ,الملايين ؛ كأني به وقد وضع في تابوت فرعوني يعزله عن الواقع, برج عال كلما ازداد ارتفاعا كلما ازداد بعدا عن معرفة ذاته وغره منها أنها ليست كمثلها ذات أخرى, جلت عن الشبيه وتسامت عن الند والمثيل ,ألم يبلغ الأمر بابن هانئ الأندلسي متملقا للمستكفي حد أن يصفه ,مدمرا كل الأعراف, بقوله :
ما شِئتَ لا ما شاءَتِ الأقْدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
وكأنّما أنْتَ النبيُّ مُحمّدٌ وكأنّما أنصارُكَ الأنصار
فجعله في مقام النبي محمد قداسة مما يتيح الإمساك بأنواع السلط ومركزتها بين يديه السلطة الدينية والسياسية التشريعية والقضائية, ويجعل نفسه ومن معه في مقام الأنصاروالإسم هنا وعد لا صفة أي أنه و إياهم, يعدونه بالنصرة في المنشط والمغرم, في السراء والضراء .
أو قول المتنبي
فَكُن كَما أَنتَ يا مَن لا شَبيهَ لَهُ أَو كَيفَ شِئتَ فَما خَلقٌ يُدانيكا
يصف الشاعر الحاكم بصفات التنزيه ؛لاشبيه له .والتنزيه في الذات يستتبع بأحد معانيه تعطيل الفعل .هكذا يصوغ المتلونون للحاكم بدائل تنوب منابه فتلغي حضوره ,فسرعان ما تلغي وجوده الفعلي فلا يعود له من الوجود شيء وهو الذي يتخيل أنه يملك كل شيء . تصبح يداه غير قادرتان على البطش, رجلاه على السعي تجمدت, فتعطلت ففقدت مرونتها الوطيفية فانسحبت من الوجود, وهجرتها الحركة ,فغدت تمثالا ونصبا يشاهد ولا يشاهد ,يتحدث باسمه ولا يعارض . أنى له أن يناقش وهو المرفوع, أو يتحدث وقد غدا لسانه مقطوع .والمتلونون في كل ذلك يحرقون لمجده البخور ويرفعون الأعلام والصورعلى الصدور ,شهود الولاء لضمير غائب . لم يعد الحاكم يملك من أمر نفسه شيئا , مأمور في ثوب آمر, اكتفى من حكمه بأن يجلس على كرسيه فيما تتطلع إليه الرعية وتنتظره أن يقبل عليها بفعل ينتشلها مما تتمرغ فيه من يأس ويحدق بمستقبلها من غموض . حتى إذا فاض بها الكيل وتحركت لتقويض أسس دولة الظلم إذا وبدأت الصورة تترنح والتمثال المرفوع يتأرجح , وغادرالعيون اطمئنانها وتركها يقينها , بدأ استعداد المتلونين لتغيير ولائهم, فلبسوا للحال المستجد لبوسه وغيروا أقنعة الطاعة والولاء بأقنعة التمرد والعصيان ,فرفعوا عقائرهم بالعواء على ولي نعمتهم , يلومون صنيعه ,وأخذوا يذرفون الدموع كالتماسيح على ضحايا هم في الأصل ضحاياهم واندمجوا في أداء أدوارهم الجديدة بإتقان فأعملوا في ولي نعمتهم الطعن و أوغلوا فيه بالقذف ,فجعلوا يلومونه على ما اقترفته يداه من جرم وما أثخن في شعبه من قتل وقد شاركوه في بأسه عليهم, بل وزينوه في عينيه قلبوا له ظهر المجن وغيم أفقهم له وأدجن وأظهروا له من الخيانة فنونا لا قبل له بها , سحرة في إهاب بررة ,شياطين في مسوح رهبان فكانوا كمن قال فيهم الشاعر:
وَقَلَبتُمُ ظَهرَ المِجَنِّ لَهُ وَأج لَبتُم عَلَيهِ بِعَسكَرِ الشَّيطَانِ


صرفوا عنه وجوههم ونبذوه وراء ظهورهم بعد أن انشغلوا بالوافد الجديد لسدة الحكم يتوددون إليه ويفرشون له اللبد كل طمرة ليجري في ميدان الصهوة إلى أبعد أمادها ,وقلدوه الزمام وأوصوه بحفظ الذمام ثم نادوا باسمه وبادروا لتقديم فروض الطاعة بين يديه وأسلموا له أكباش الفداء من بعد أن نحلوه فرية التواطئ مع أعداء الوحدة والتآمر مع المعارضة من سلالة العدمية ممن يسعون للانقلاب على الانقلاب , فأنفذوا فيهم الأحكام وقد هجرت حمرة الخجل خدودهم إلى الأبد, ونصبوا أنفسهم لخدمة التغيير, فبثوا العيون وملؤوا السجون ومهدوا لها عندما بدؤوا يصيحون في كل فج تصدح عقائرهم بخطاب ضمنوه كل القيم السامية ,وشحنوه بشتى عبارات التضحية ,فأرسلوا في الآفاق أنهم سدنة الوطنية والهائمين بحب الشعب بصدق نية ,وأنهم المبشرون عن حق بقيم الحرية وأمناء فعليون عن سرالحداثة و وصفة الديموقراطية , فبحثوا عن تأويلات , لما سلف من خطاباتهم الغارقة في النفاق وما بدر من سلوكاتهم الممعنة في السفالة والاسفاف, حتى عدوها من قبيل الإرهاصات الواعدة بالمعاني وهذا ما أوحى به أبو الفتح بن جني في ما يذكره ابن الأثير في المثل السائر لقول المتنبي في كافور الإخشيدي مادحا:
وما طربي لما رأيتك بدعةٌ لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
"لم تزد على أن جعلته أبا رنة" فضحك . فهل كان المتنبي يهجو كافورا أم تراه كان يمدحه ؟ هل كانت هناك رسالة مشفرة دسها المتنبي ببين ثنايا الأبيات ؟ أم أن ابن جني كان يسعى بذهنية المتملق إلى تخليص المتنبي من ورطة أوقعه فيها طمعه بالولاية والرياسة وسوء تقديره لدهاء كافور ليعتذر له أمام من أخلص فيه المدح ومحض له الثناء ,ولي نعمته, سيف الدولة الحمداني ,إن القصيدة المدحية تغدو في وضعية العشيقة التي لا مجال فيها للمشاركة , أي أن حضور الغيرة وارد وهو ما يفسرمبادرة ابن جني غير أن الاعتراض على التأويل المغرض تكشفه باقي أبيات القصيدة التي لا تخدم هذا التأويل ,فالقصيدة من سبعة وأربعين بيتا ليس فيها إشارة ولو عارضة لما يخدم هذه القراءة فلا يجوز أن نجعل من بيت موجها للمعنى فالغرض الشعري تقاليده وخصوصا إذا علمنا أن المتنبي كان يحرص على تثبيت الأصول الشعرية القديمة و يعاكس تجارب المحدثين من الشعراء . فقصائد مدحهم كانت تضمر هجاء للممدوح وتأليههم للمستبد كان منهم ذكاء لأنه يعجل بنهايته .هكذا تفقد الكلمات دلالتها وتصبح مجرد علامات فارغة تنعكس عليها حالة النفاق مثلهم , كيف يصبح المستبد عرابا للفعل الديموقراطي. أتساءل هل يحق لمن مالأ الديكتاتور وبرر أفعال النهب وأصاب لنفسه سهما أوسهاما ورفع عقيرته بتمجيد السفاح الناهب وامتدحه في نفس هذه السلوكات وأخذ منه المنصب والعطية ,أقول هل بوسع هكذا إنسان أن يصبح متحدثا رسميا باسم التغيير وأن يقود مرحلة انتقالية ويوجه الناس صوب هذا الزمن الجديد تعيد ,معهم الكرة التي بدأتها مع الصنم الهائم , وتتلو آيات التقدير على جرأة المستبد الجديد سليل المجد التليد وتنشر في تمجيده نظم الغرر وتنثر في مدحه أحسن الدرر وتكشف فيه عما لا يعرفه عن نفسه وتضرب في نعش تواضعه مسمار الضمور وتبث في روع كبريائه إكسير الغرور, حتى إذا أدمنها جعل يسعى إليها بإقامة المجالس من نخب هذه الطغمة وأبعدعنه من يذكره بحقيقته ويشده إلى واقعه , حتى إذا أسكرته النشوة أيقن المتلونون أنهم أصبحوا ولاة العهد الجديد وعرابي التغيير في الزمن النكيد ,فشرعوا من جديد في كتابة سيرة الصنم , فنصبوا صورته على كل جدار ودعوا له بالمجد والبقاء, بعد أن أدخلوة تابوت الفناء .
فهل يتحكم المتلونون في كل بمصر بهؤلاء الذين بدأوا يتحدثون عن الثوار بلغة التقدير والتبجيل والاحترام لكي يتمكنوا من قلوبهم ويستأثروا بهم ويستدرجونهم إلى عالم المال ولغة يترجمون الحلم الطوباوي المشبع بالقيم إلى أرقام باردة وأرصدة بأصفار كثيرة زائدة فتتحول بين يديه إلى مغارة علي بابا تفتح له الفرصة للأطلاع على سحر الماس والعقيق الأحمر والزبرجد الأخضر فيطأ أرض الميعاد حيث الملذات ؛ موفورة ورغد العيش عادة مشهورة يستمرئ حياة الطاعة فيستبدل الواقع بالوهم فيقع في روعه أن الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة فرصة ,استثمارها جمعه من رصيد رمزي الذي حظي به متعذرا لنفسه بأن ما قاموا به من ثورة قد حققت هدفها ,وبلغت غايتها .وأن الديكتاتور قد سقط فلم يعد أمامه غير الأخذ بزمام الأمور ومواجهة المتطرفين من الثوار الذين سيقودون الثورة لحتفها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟