الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة بعنوان/ بيت الله

هيثم نافل والي

2012 / 1 / 17
الادب والفن


... رجعَ يحيى إلى غرفتهِ وسريره المتهالك الذي لا ينقطع عن إصدار صرير كنقيق الضفادع، من نوابضه الحديدية التي يكسوها الصدأ كلما جلسَ عليه أو تحرك! بانكسار وهو يجرُ أذيال المهانة والخيبة ورائه... ثقيلة وقاسية كحرارة شمس ذلكَ النهار وقوة عواصفه الترابية الغاضبة...


أنتصفَ النهار، وتمادت الشمس حتى وصلت الذروة وقمة الجنون في حرارتها التي كانت تصبها كالحمم بكل عنف وجبروت وكأنها غاضبة! فأصبحت الأجواء في تلكَ اللحظات من عمر الزمن لا تطاق معَ وجود العواصف الترابية التي كانت هي الأخرى تعبر عن حنقها ومقتها لساكنين الأرض وما يقبع عليها.
جلسَ يحيى الذي كانَ من أبرز صفاته الصدق، الوفاء والإخلاص. جميل الطلعة، هادئاً وذكياً، يسحر لب وخاطر كل من يراه، وكأنه القمر في تمامه! القرفصاء على حافة سريره مفكراً، حائراً، قلقاً، متضايقاً والعرق ينصب من أعلى جسمه حتى أسفل ظهره. يتنفس بصعوبة بالغة من جراء موجة الحر القاتلة والعواصف الترابية الخانقة... وهو يعاني من مرض الربو الذي باتَ يهدد حياته بشكل صارخ في مثل أجواء كهذه التي يعيشها الآن...
لاحظه زميله الذي يقاسمه الغرفة في المعسكر الطلابي الذي أجُبرَ على الاشتراك في ألويته أثناء العطلة الصيفية، وها هو الآن يعاني الاختناق وسط الصحراء... فتقربَ منه أحمد مرتبكاً، قلقاً وهمسَ في إذنه سائلاً:
ما لي أراك يا يحيى شاحباً، ووجهك أصفر، وكأنك انتهيت للتو من ارتقاء سلم عالي الدرجات؟! ثمَ أردفَ مسامراً، يا رجل، صورتك وأنتَ هكذا تثير الرهبة والشفقة ممن حولك.
- أنتَ تعلم يا صاحبي، بأنني أعاني من ضيق في التنفس... وهذه الأجواء اللعينة تجعل الأمر أكثر تعقيداً وصعوبة لشخص مثلي، ثمَ أستطرد بهمس خافت وصوته يكاد يسمع قائلاً: أنظر لي... فإنني كالذي يسرق الهواء كي يعيش!
- طيب... لماذا لا تذهب إلى الجامع الذي لا يبعد من هنا كثيراً، ثمَ شرعَ يقول بثقة وتفاؤل:
هناك ستجد الهواء النقي البارد والهدوء الذي تبتغيه ويمكن لكَ أن تمكث بعض الوقت لحين ما تهدأ العواصف وتخف قليلاً حرارة الشمس... ها... ما رأيك؟!
- نظرَ لهُ يحيى بتوجس ثمَ أجابه بصدق فرحاً: إنها فكرة رائعة... وسآخذ معي كتاب لقراءته ولقضاء وقت طيب وممتع وأنا أجلسُ تحت قبة بيت الله وحمايته...!

لم تمضي إلا دقائق قليلة حتى أستحل يحيى ركنٌ هادئ وبارد في الجامع الموجود في المعسكر... ثمَ فتحَ كتابه الذي كان لطاغور، ذلكَ الشاعر الهندي الروحي العظيم... عندها أنتظمَ نبضه وباتَ يتنفس بحرية وبصورة طبيعية! أرتاحَ للأجواء النظيفة والهدوء الذي يطغي على المكان... وقالَ واعداً:
مكانٌ رائع... سأحاول أن أأتي إليه كلما وجدتُ نفسي محاصراً بينَ المرض والضجر والأجواء، ثمَ غرقَ في بحر الشاعر وتأملاته الشعرية الساحرة... مسروراً، هائماً، سارحاً وحالماً...
فجأة هبطَ عليه ظلُ جسد عامر بالقوة والضخامة وكأنه سقطَ عليه من السقف! إذ كانَ الهيكل يعود لضابط في المعسكر... وقفَ قبالته كالصقر وكرشه الذي يشبه سنام الجمل! يتقدم بدنه وهو يقول آمراً:
ماذا تفعل هنا يا عسكري؟
- أنصتَ له السمع بقلب راجف، ثمَ أجابه بإنكار: أتحدثني يا سيدي؟!
- ومن غيرك... أقفُ أمامه؟
- لقد وجهت كلامك إلى عسكري، وأنا طالب، ثمَ أستطردَ بمكر قائلاً: حتى ظننتُ بأنكم يا سيدي تعنونَ شخصاً آخر! بينما ظلت نظرات الضابط شاخصة نحوه لا يطرفُ له جفن... ففهمَ يحيى الموقف، عندها هتفَ بجد قائلاً: أنا هنا أستمتعُ بالوقت، وبالأجواء النظيفة الهادئة التي لم أجدها في مكان آخر من هذا المعسكر.
- جميل جداً... أن أستمع منك هذا الإطراء والمديح في بيت الله! ولكن لم تقل لي لماذا لا تقوم بالصلاة بدلاً من جلوسكَ هكذا كالشحاذ؟
- أصلي؟ أجابه يحيى باستغراب شديد.
ماذا... ألم تسمعني؟! ثمَ أردفَ الضابط مؤكداً بنبرة لا تخلو من تهكم: نعم، تصلي مثلَ هؤلاء... وهو يشير بيده ناحية المصلين. ثمَ أردفَ بإغراء، أنظرَ إلى المؤمنين الذين تراهم هناك وهم يعبدون الله ويؤدون واجب الصلاة تجاه خالقهم!
أجابه يحيى مقتضباً يائساً: أنا؟! وهمَ بالكلام، لكنه تردد في الإفصاح فصمت ولم ينبس ببنت شفة.
ماذا أنتْ؟ ثمَ أسترسل بالاستجواب بازدراء: أنا مازلتُ أنتظر رداً شافياً منك يا مستهتر بالدين وفي حرمة هذا البيت الذي لا تقدره حق التقدير، ثمَ لفته انتباهه الكتاب الذي يحضنه يحيى... فسألهُ بامتعاض: ما هذا الذي بينَ يديك؟!
- هذا... وهو يرفع الكتاب أمام عينيه وكأنه ينوي تقبيله؟! ثمَ شرعَ يقول شارحاً: إنه كتاب شعر، لشاعر هندي عظيم...
قاطعهُ الضابط بحدة وقد جنَ جنونه...فأنقلبَ فجأة من ضابط فضولي ووقح إلى نمر مجروح يصرخ ويزمجر بعنف ويقذفُ بالكلمات دونَ حذر أو خجل: إنكَ شخص تثير الحنق فعلاً! ثمَ سارعَ في القول محتجاً، تجلسُ هنا... في الجامع... في بيت الله، لتقرأ شعراً؟! ما هذا الفسق والكفر الذي أنت فيه؟! ثمَ تفجر صوته كالقنبلة في المكان وهو يشتم ويسب كالمهووس: أنهض يا حقير... يا زنديق... ثمَ شدهُ بقوة وهو يدمدم، هذا جامع وليسَ مكتبة... وصرخَ به بكل نذالة: أخرج من هنا يا سافل.
ردَ عليه يحيى بكل أدب ووقار وهو يدفع يده الخشنة عنه: نعم... أنا أعلم جيداً بأنني هنا في جامع إسلامي وكما هو واضح من أسمه جامع لكل شيء على شرط أن لا يغضب الرب أو خلقه... ثمَ شرعَ يقول بكل اعتداد وثقة، سيدي الكريم، الجامع هو بيت الله، بيت للصلاة والعبادة... بيت للتأمل والتفكير، بيت للسلام والراحة والطمأنينة... وأنا هنا لم أخالف هذه الأعراف ولا تقاليدها! ثمَ أردف بنبرة حازمة: كما ترى يا سيدي الضابط، فأنا أقرأ وأتأمل الروح وهي تحلق في رحاب عالية كالملاك يرفرف فوقَ رؤوس المؤمنين! فما الضير في ذلك؟!
- طافَ كيل صبر الضابط، فدقَ الأرض بقدمه بقوة وبصقَ في وجه يحيى بكل حقارة وجرأه وقالَ ساباً، شاتماً ومهدداً: أخرجُ من هنا يا كافر... ثمَ صرخَ باستهتار، أنَ وجوكَ هنا يلوث بيت الله! وكلماتك الرعناء تسمم أفكار المؤمنين الصالحين... ثمَ عوى وهو يتوعد بالويل قائلاً: لا أريد أن أراكَ هنا ثانيةً، قالَ ذلك والزبد يخرج من فمه أكواما ووجهه باتَ أحمراً كوجه سرطان البحر!
نهضَ يحيى متأسفاً على قراره في الحضور والجلوس في بيت الله وهمسَ في سره بانقباض يعاتب زميله أحمد على نصيحته تلك التي لم يفكر فيها كثيراً قبلَ دخوله الجامع وهو على غير دين الإسلام.
رجعَ يحيى إلى غرفتهِ وسريره المتهالك الذي لا ينقطع عن إصدار صرير كنقيق الضفادع، من نوابضه الحديدية التي يكسوها الصدأ كلما جلسَ عليه أو تحرك! بانكسار وهو يجرُ أذيال المهانة والخيبة ورائه... ثقيلة وقاسية كحرارة شمس ذلكَ النهار وقوة عواصفه الترابية الغاضبة...









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته