الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخيط الوهمي بين الأديب والفيلسوف.. وصناعة الحياة العربية قائمة على استثمار العقل والعاطفة

محمد طلعت

2012 / 1 / 18
الادب والفن


ثمة علاقة جوهرية بين الأدب والفلسفة، فالفلسفة تسعى إلى الغوص قدر الإمكان في نسيج التجربة الإنسانية من أجل فهم بنيتها، وإعادة تشكيلها. كما أنه إذا كان الأدب يمنح نفسه حرية التخيل، فإن ذلك لا يتم بشكل اعتباطي، ولكنه يستهدف الغوص بشكل أعمق في بنيات التجربة من أجل إبراز المظاهر التي تنفلت من الملاحظة المباشرة.
ضمن هذا الإطار يمكن تصور علاقة تعاون بين الفلسفة والأدب يلعب فيه هذا الأخير دور المستكشف بالنسبة للفلسفة، لأنه يجعلها أكثر استعدادا للإحساس ببعض الظواهر الأساسية في تجربتنا الإنسانية، و التي لا تزال مستعصية على المعالجة العقلانية، وبالمقابل فإن الفلسفة من خلال انكبابها على هذه الظواهر تسعى إلى نقلها إلى مستوى معرفة أكثر عمومية وأكثر وضوحا.
بدء دخول الاتجاه الفلسفي في الأدب العربي في فترة ازدهار الحضارة الإسلامية، وذلك كان في العصر العباسي الأول والثاني (750-1258)، ومع اختلاط العرب بالعجم من فارس والهند واليونان فضلا عن العقول المصرية والسورية والعراقية التي جددت دماء الفكر العربي وانتسبت إليه، وبفضل انتشار ورواج حركة الترجمة، ظهر الميل الفلسفي عند الأدباء العرب منهم أبى العلاء المعرى ، وأبى العتاهية وأبى نواس وعمر الخيام في الشعر. كما ظهر في النثر العربي أيضا الاتجاه الفلسفي مع عبد الله بن المقفع وكتابه كليلة ودمنة والجاحظ في الكثير من كتبه نحو فلسفة الحياة والإنسان خاصة في كتابه البخلاء..الخ.
تضمين الأدب بالأفكار الفلسفية:
يعرف الأدب الفلسفي بأنه هو الأدب الذي يستلهم القضايا الفلسفية بعمق من مضامينه ويعبر عنها بأساليبه الفنية الجميلة التي تتنوع بتنوع أجناسه الأدبية من شعر وقصة ورواية وملحمة وخاطرة ومسرحية، كما أن الأدب الفلسفي ليس جنسا أدبيا جديدا، وإنما هو سمة موجودة في بعض النصوص الأدبية القديمة والحديثة.
وتدخل الفلسفة إلى الأدب من خلال المضمون بنحو عام كما نرى في حي بن يقظان أو عن طريق دخول بعض الأفكار الفلسفية بشكل جزئي مثلما في شعر أبي العلاء المعري أو عن طريق تضمين العمل الأدبي شخصيات متفلسفة، أو ذات ملامح فلسفية أو عن طريق تضمن العمل الأدبي أثرا من آثار بعض الفلسفات المعاصرة مثل الوجودية كما قد نجد فلسفة في أعمال بعض الأدباء مثل نجيب محفوظ ومن قبله طه حسين حين ولج عالم الرواية العربية بدعاء الكروان وشجرة البؤس والمعذبون في الأرض وغيرهم من الأدباء العرب سواء على صعيد المشرق أو المغرب العربي، إذ لا يخلو أي عمل أدبي من وجهة نظر فلسفية نحو الحياة بشكل عام.
و يجب أن نؤكد على أن الأدب لا يضحي بأساليبه الفنية وجمالياتها من أجل المضمون الفلسفي لأن ما يميز الأدب في الحقيقة هو تلك الأساليب أو ما يسمى بالشكل والحلية الأدبية من تقنيات السرد والحكي الروائي.
يبقى النص الأدبي متميزا عن النصوص الأخرى، العلمية، التاريخية، والفلسفية، بأساليبه الفنية في تشكيل اللغة وليس بمضامينه، فالموت مثلا كموضوع يمكن أن يعبر عن مضامينه كل من الأديب والفيلسوف لكن الأديب يعبر عن الموت بأسلوب أدبي فني وبلغة أخرى غير لغة الفيلسوف وأسلوبه المنطقي العلمى الجاف.
تأثير الفكر الفلسفي على الرواية العربية
الرواية بالرغم من أنها عمل فني مميز يقتضي الانسجام والتماسك والمحافظة على الوحدة الفنية، إلا أنها تعتبر أسلوبا من أساليب الأداء الفكري، وشكلا ناجحا من أشكال إيصال الأفكار إلى الناس. والروائي الذكي الناجح هو الذي يوصل إلينا عبر روايته فكره واضحا وكاملا، ولكن من غير أن يخلّ بالشروط الفنية للرواية، وإلا بطلت أن تكون رواية أو أدبا فلسفيا.
ونحن لا نشك بأن الرواية قد قدّمت في شكلها العام نقلة نوعية متطورة للفكر الفلسفي، وهذا ما يفسّر لجوء العديد من الفلاسفة والأدباء إلى الأنواع الروائية للتعبير عن أفكارهم الفلسفية؛ ومن ذلك مثلا: رسائل ابن سينا القصصية والرواية المسماة بـ"رسالة الغفران" للمعري، وقصة "حيّ بن يقظان" الحوارية لابن طفيل. وتعتبر هذه الرواية الأخيرة من أكثر المحاولات الروائية نجاحا في العصر الوسيط بسبب ما كان يتوفر فيها من شروط الصياغة الفنية والسرد القصصي تخصيصا؛ ويظهر ذلك بجلاء في محاولة "ابن طفيل" بوعي وبشكل قصصي من خلال تطوره الطبيعي، ودون معرفة مسبقة بالشرائع الدينية أن يبلغ حالة عقلية اجتماعية راقية؛ وأن يصل إلى حقيقة الله وإثبات وجوده، وهذا هو سر خاتمة هذه الرواية الحوارية حين يلتقي "حيُّ الناشيء" وحده في جزيرة نائية لم تطأها قدم إنسان مع "إبسال الورع" الذي يمثّل الدين المنزل، فإذا أفكارهما واحدة، والحقيقة عندهما واحدة. وهذا دليل أكيد على جرأة الاعتقاد وعلى التصريح بأن العقل قادر على بلوغ الحقيقة – حقيقة وجود الله – وبأنه يقود فيما لو أُحسِن استخدامه إلى ذات النتائج والحقائق التي يصرّح بها الأنبياء وتحملها الشرائع السماوية. إذن هنا فكر فلسفي ذو طابع عقائدي توحيدي في لباس عالم الفضائي التخيلي للأدب الروائي. أضف إلى ذلك العمل الأدبي(كليلة ودمنة)لعبد الله بن المقفع وهو عمل فلسفي ذو طابع سياسي إذ أصبغ عليه الفلسفة السياسية بمفهومها الحديث في قالب أدبي سردي قصصي من أروع ما أنتجته العقلية العربية في تطور فن السر العربي.
في عصرنا الحديث نجد بعض هذه المواقف الفكرية والفلسفية في أعمال الكثير من الروائيين العرب أمثال: نجيب محفوظ، ومصطفى محمود، وجبرا إبراهيم جبرا، وسهيل إدريس. كما يبدو هذا الموقف أكثر وضوحا وأكثر إشراقا في مؤلفات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وعباس محمود العقّاد، وغيرهم.
يعد نجيب محفوظ قامة منفردة ذو أبعاد فلسفية مترامية الأطراف واضحة المعالم حيث تنجلي الأفكار الفلسفية عنده بداية من أزمة الوجود والبحث عن الله في الوجود في روايته (الطريق)، وأزمة الحياة والبحث عن الذات وتجسد هذا بشكل ملحوظ في أخر أعماله (أصداء السيرة الذاتية) ، كما نلاحظ تأثر نجيب محفوظ بالاتجاه العقلي العام عند بن رشد ومحاولة توافق الحياة ما بين الشرع والواقع. كما في رواية (أولاد حارتنا)، ومن قبلها روايته الأكبر(الثلاثية).

نقاط الالتقاء بين الأديب والفيلسوف
وعن الالتقاء بين الأديب والفيلسوف: فالأديب يلتقي مع الفيلسوف حين ينظر بعمق نحو أشياء العالم والتجارب التي يمر بها، وسر هذه النظرة العميقة الإبداعية واحدة عند الأديب والفيلسوف، وأن ما يثير خيال الأديب وعبقريته هو إحساسه العميق بالأشياء وانفعاله بها، وعن العمق والشمول في النظرة إلى الأشياء . إذن الالتقاء الجوهري بينهما هو العمق في الرؤية.
إن العمق والشمول والقوة التي يتمتع بها إحساس الشاعر إنما تعتمد في قدرته على المقارنة والاستقراء والتجريد والتعميم والنفاذ إلى قلب الأشياء من أجل استخراج مدلولاتها ومعانيها الغامضة وهي جميعها ملكات عقلية تحيلنا إلى نقاط جديدة بين الأدب والفيلسوف تتمثل بهذه الرغبة عند الأثنين في التعمق بمعرفة العالم وأشيائه وظواهره.
إن الأديب يزداد تشبعه بالروح الفلسفية التي تتجاوز الواقع وتسمو عليه وتطرح على نفسها المسائل الخالدة التي تتناول جوهر الأشياء.
أما عن تفلسف الأديب: يبدأ الأديب بالتفلسف حين لا يكتفي بالنظر إلى الأشياء وإنما يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض في إطار إحساس مزيج من الدهشة والتعجب، فالدهشة كما يرى أفلاطون والتعجب كما يرى أرسطو هما ما يحملان الإنسان على التفلسف إذ يدفعانه إلى المعرفة والتساؤل.
أما عن الاختلاف الحاصل بين الأديب والفيلسوف: قد يختلف الأديب عن الفيلسوف في كون الأديب يعتمد على العاطفة في إدراكه للعالم وأشيائه وعلاقاتها أكثر من اعتماده على العقل في حين يعتمد الفيلسوف على العقل، لكن الأديب ليس عاطفة وإحساسا فحسب، وكذلك الفيلسوف ليس عقلا فحسب فلا تخلو نصوص الأديب من البعد العقلي، وكذلك نصوص الفيلسوف لا تخلو من البعد العاطفي لأن كلاهما بشر يحمل الأثنين العاطفة والعقل معا، وذلك لأن الأديب ينقل تجربة ذاتية فيها مشاعر لكنها لا تخلو أيضا من مدركات وثقافة وتجارب واقعية وأفكار متسقة مع بيئة الواقع المعاش، ففي تجربة الأديب عقل مدرك أيضا وفيها خيال مبدع وعاطفة جياشة. أما الفيلسوف فهو إنسان له عواطف ومشاعر أيضا إلى جانب مدركاته العقلية والفكرية.

بقى الطرح الأساسي الذي يعد في حد ذاته مأزقا جوهريا بين الأدب والفلسفة. عن من نأخذ الفكرة؟
وهل الأخذ هذا يعد علما أم أدبا؟
ثمة مشكل حقيقي بين الفلسفة والأدب حيث المعالجة الفنية لصياغة الفكرة. لكن حقيقة لا تنكر إن الفلسفة سبقت كل العلوم من أول أن أدرك الإنسان حاجته لطعام مثلا، وبدأ في السعي إلى الحصول عليه وكيفيه الحصول عليه والتفنن والتنوع في الحصول عليه والطعام هنا هو حاجة الروح للغذاء والذي يفرزها العقل ويلح عليها الجسم تارة بخشونة عقليه وتارة أخرى بأفكار عبثية أو بأفكار مثلية أو مجردة.. ثم جاء جانب أخر مناهض مهذب يصوغ هذه الحاجة في قالب أخر حيث يقدم طعاما شهيا ملبيا يرضي كافة الأذواق ويزغلل العيون بالمتعة البصرية وهذا هو الأدب.
إذن طرح السؤال السابق مأزقه في عقول من يطرحونه. ومن يستقبلونه.
الفلسفة والأدب وجهين لعملة واحدة لخدمة الإنسان والارتقاء بنموه العقلي والروحي.

ولنا موعد أخر(إن كتب لنا الله البركة في العمر) مع نموذج لهذه العملة الواحدة في شخصية نجيب محفوظ الأدبية.!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رأي بسيط
kaldoon jabar ( 2012 / 1 / 21 - 17:35 )
هناك مقوله دائماً ما قراءناها ان الفلسفة هي بنت الدين وام العلوم عندما كنا في الجامعة ولم اعرف معناها في وقت قصير من الجامعة لكن بمرور الدراسة الجامعية عرفت المقصود منها كنت بعيد جد البعد عن الفلسفة وقريب كل القرب من الادب لاسيما منه الروائي والنثري بشكل عام وقد تأثرنا بنجيب محفوظ وطه حسين وكان الادب العراقي في وقته يعاني من الانتكاسة الاعلامية بسبب الاتجاهات الماركسية واليسارية بشكل عام لرواد حركة الادب العراقي لذلك واجه الكثير منهم الطمس والتجاهل الاعلامي وكانت توجهات الدولة البعثية في العراق ارجاع الطلبة الى الموروث الادبي العربي القديم وعدم النظر لما موجود في الساحة من حداثة ادبية داخلياً واقليمياً وعالمياً وبدت تمنع روايات عبد الرحمن منيف وفؤاد التكرلي غائب طعمة فرمان بشكل غير محسوس عند المتلقي البسيط كون المنع لم يأتي رسمي وانما بعدم الطبع والتهميش تارة اخرى, على العكس من مصر تنوعت حركة الادب والفكر خلال فترة الحكام العسكريين الذين تولوا على حكم مصر لذلك تجد التجدد والحيوية بارزة بشكل كبير عند الادباء المصريين, بينما الفلسفة باعتقادي بقت رهينة بالافكار الثيقراطيا

اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي