الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة ... أنا وغولدا مائير تحت المطر

شوقية عروق منصور

2012 / 1 / 22
الادب والفن




قصة قصيرة
شوقية عروق منصور

أنا وغولدا مائير تحت المطر

داخل الإطار الأسود ، رأيت ملامحه البعيدة ، لم أر ضحكته اللزجة التي تسيل من بين شفتيه وتبعث إلى الهروب ، داخل الإطار الذي يحيط بصورته ترتكب الكلمات خطيئة الوداع ، وتحاول جر الدموع إلى منافذ وهم البقاء .
ضبطت نفسي على رصيف الشفقة ، لقد رحل معلم الكشاف ...! تنهدت .
سنوات غرقت في الذاكرة ، لكن موته أنقذ صورته التي ورطتني يوماً في مشهد بائس ما زال يتأرجح فوق عمري .
دخل الصف الرابع ، أشار بيده وقال بسرعة :
- طلاب الكشاف عليهم الخروج من الصف والتواجد في قاعة الرياضة لأمر ضروري ..!!
في القاعة كان المدير مع معلم الكشاف في حالة ذعر خفي ، يحاولان لملمة الذعر ونثره فوق رؤوسنا الصغيرة التي تنتظر الأوامر .
بعض الحروف تسللت الينا حين أخذ المدير يتكلم مع الرجل الغريب ، فانتبهنا له .
- هس .... ولا كلمة ...! صمتنا ... قال المدير :
يوم الخميس القادم ستقوم رئيسة الحكومة " غولدا مائير " بزيارة مدينة الناصرة وستقوم جميع الفرق الكشفية المدرسية باستقبالها ، وقد تم اختيار فرقة كشاف مدرستنا للعزف أمامها وتقديم باقة الزهور لها ...
الصمت خيم على القاعة .. تقدم الرجل الغريب .. أخذ يتكلم باللغة العبرية ، لم نفهم ولم يحاول أحد الترجمة .. المدير يهز رأسه مستمعاً ومستمتعاً ، ومعلم الكشاف يتأمل وجوهنا التي ظهر عليها الزهق من هذا الضيف ثقيل الظل ..!
أنهى الرجل الغريب كلمته ، سلم على المدير ومعلم الكشاف ، ثم ترك القاعة . تنفسنا الصعداء ... شعرنا أن حملاً ثقيلاً قد انزاح عن صدورنا ، لكن معلم الكشاف قفز أمامنا بسرعة وقال :
- انتبهوا ... بقصف عمركم إذا ما بتتمرنوا منيح ...! اليوم ما ترَوحوا بعد انتهاء دوام المدرسة .. أنت ... أشار اليْ ... تمرنتي على ضرب الطبل ... !!!
- نعم ... ! قلتها وأنا أعرف أنه سيمسك كذبتي بعد قليل ، هل أعترف و أقول له اني نسيت ...!!
بعد انتهاء دوام المدرسة اجتمعنا في قاعة الرياضة مرة أخرى ، حيث كانت الأدوات الكشفية من الصاجات والطبول وغيرها مكومة في منتصف القاعة .
- كل واحد يوخد الأداة اللي تعلم عليها ...!!
تناولت الطبل ... أخذت أضرب عليه ... صرخ المعلم بأعلى صوته وقال :
- هيك راح تخزقي طبلة دان غولدا مائير ... !!
أخذت أضرب بصوت منخفض ... صرخ مرة أخرى .... أعلى شوي .... أعلى ...
في اليوم الموعود لزيارة " غولدا مائير " حاول أبي منعي من الذهاب بسبب الأمطار الغزيرة التي لم تتوقف عن الهطول - وكمان شوفة غولدا مائير مش محرزي - لكن تهديد معلم الكشاف الذي انهالت تهديداته فوق رؤوسنا كالحجارة ، حولتنا إلى قطع من الشطرنج أصيبت بمرض الزحف نحو الاستسلام الطفولي أمام طوفان من الخوف .
- ها ... ارفعوا اسم المدرسة ... ! ها ... إذا كنتم أحسن الفرق راح آخدكوا رحلة على جبل الشيخ ...!
دخل المدير غرفته ، معلم الكشاف يرتعد خوفاً أو برداً لا أدري ... لقد رأيته يشد أكمام سترته وينفخ بين كفيه ، جاء الباص ، كل واحد منا يحمل أداته ...
أمام فندق " أم واصف " في مدخل المدينة أنزلنا الباص ، لا مكان لنا .. المئات يحتلون الأرصفة والشارع المقابل للفندق.. رجال دين ورؤساء مجالس و بلديات ، ووجوه رجالية ترسم الابتسامات المسروقة من لمسات دفء عابرة ، وكاميرا تلفزيون يحاول حاملها نقل الوجوه المشرقة ..!
معلم الكشاف يحشرنا بين الجميع ، يشير إليّ ، أحاول تركيز ووضع الطبل على وسطي ، لا أستطيع فأنا بين قامات أطول مني بكثير ، وتحاشر هذه القامات أيضاً باحثة عن موضع قدم ، معلم الكشاف يشير إليّ بغيظ .. ثم يتقدم نحوي ، يساعدني بربط الطبل جيداً ، ويطلب مني الوقوف مع باقي الفرقة التي جهزت نفسها ووقفت تنتظر وصول الرئيسة " غولدا " على الدرج المؤدي إلى باب الفندق الرئيسي .
طال الإنتظار والرئيسة " غولدا " لم تظهر ، المعلم يستعرض وقوفنا جيداً ، يطالبنا بالالتزام ، الدرج الرخامي امتلأ بالماء ، فالمزراب المربوط بسقف الفندق يصب على الدرج ، شعرت بالماء يتسرب إلى حذائي ، لم أتكلم ، وبقيت أتحمل المياه وهي تخب في حذائي .!!
الوجوه مشرئبة ، منتظرة ، متحملة الأمطار الغزيرة ، ولم تعد المظلات تكفي حين تخاذلت وبدأت تتطاير أو بدأت قطرات المطر تصنع القنوات المائية فوق القماش لتنزل بسرعة على البدلات الرسمية .
شددت الطبل محاولة نزعه ، فحمله بدأ يضايق خصري الدقيق ، الصغير ، عين المعلم رصدت محاولة النزع فجاء مهرولاً :
- امسكي الطبل منيح ... وقفي منيح .. !!
عدت ووقفت منتصبة ، المياه ما زالت تتسرب داخل حذائي ، وزاد عليها المياه التي تنقط من الجدار الذي أقف إلى جانبه ، حيث تكبر بقع الماء وتنتشر فوق قميصي الكشفي - الكاكي – شعرت بالبرودة تشق صدري ، وتتكوم في قلبي الذي يرتجف ويتصاعد ارتجافه كلما ازدادت بقع الماء فوق القميص ، وندمت لأنني رميت السترة الصوفية التي ناولتني إياها أمي .
فجأة تحركت الأجساد التي كانت متصلبة ، جامدة ، هرع بعضها نحو السيارة القادمة، وانطوت مظلات البعض استعداداً للإستقبال : " أجت الرئيسة ..أجت الرئيسة" بقينا نحن أعضاء الفرقة الكشفية واقفين على الدرج في حالة تجمد ، لكن المعلم صرخ فينا بقسوة ، ثم شتمنا : يلا ... يلا .... ابدأوا بالعزف ، أخذت أضرب على الطبل ، لكن أصابعي هربت مني .. لا أشعر بها .. إنها مجرد قضبان صغيرة مملوءة بالثلج ..!
لكن الأستاذ هجم علينا مرة أخرى بصورة متوحشة ، صارمة : اعزفوا ...!!
نزلت " سيدة غولدا" من السيارة السوداء الفارهة ، من شدة البرودة أخذت أبكي ، في ذات الوقت ممسكة بالعصي وأدق جلدة الطبل ، وكلما قمت بالدق كان صداها يدخل مساماتي المغمورة بالبرد والماء ، فترتخي وتنسل منها قوة اللحظة الخائفة من المعلم ..!
اقتربت " السيدة غولدا " من مطلع الدرج الذي نقف عليه ، أصوات عزف الفرق الكشفية الأخرى مع فرقتنا تشكل موسيقى فوضوية غير متناسقة ، وكنت انا جزءاً من هذه الموسيقى التي بدأت تتلاشى ويحل محلها كلمات المجاملة والترحيب .
مرت " الرئيسة غولدا " أمامنا لم تلتفت لأحد منا ، حتى ابتسامتها كانت مقتضبة ، دخلت من باب الفندق هي ومجموعة من رجال المدينة ، بقينا نحن على حالنا ، لم نستطع التحرك خوفاً من المعلم الذي هددنا ، وبقي المزراب ينزف مطراً ويصب في حذائي .
أخذنا نفتش عن المعلم الذي اختفى و ذاب بين الوجوه ولم نجده ، حمل كل واحد منا أداته ورجعنا إلى بيوتنا ركضاً ، وزخات المطر تطاردنا ، والرياح تلفح وجوهنا ، أما أقدامنا فكانت تحت رحمة الحفر والسيارات التي تمر وتقوم برشقنا .
جنت أمي عندما رأت ملابسي منقوعة بالماء ، وأخذت تشتم المعلم وغولدا مائير وجميع المنافقين الذين استغلوا براءتنا...!
في الليل كانت درجة حرارتي فوق الأربعين ، انتظر أبي حتى الصباح حيث أخذني عند الطبيب الذي حولني بسرعة إلى المستشفى لأنني مصابة بالتهاب حاد في الرئتين ، ورقدت في المستشفى أسبوعاً .
بعد أسبوع رجعت إلى المدرسة ، لم يسأل عني المدير ولا معلم الكشاف لأنهم غضبوا من الفرقة الكشفية ، لأنها لم تلفت نظر واهتمام رئيسة الحكومة "غولدا مائير " وفشلنا في الحصول على الجائزة .
وفي اجتماع الآباء بعد أسبوع أجبر مدير المدرسة أبي على دفع ثمن الطبل لأن جلدة الطبل قد تمزقت ، وهناك خدوش كثيرة على الجوانب ...!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة جميلة
سيمون خوري ( 2012 / 1 / 24 - 11:32 )
اختي عروق المحترمة تحية لك أقصوصة جميلة ومعبرة عن حجم النفاق وبراءة الأطفال شكراً لك

اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي