الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتسولة

أمل جمعة
(Amal Juma)

2012 / 1 / 23
الادب والفن


الشابة الواقفة على الإشارة الضوئية ربما تجاوزت الثلاثين ،فالشعيرات النافرة في وجهها فوق شفتها العليا تقول ذلك ،أما أسنانها فما زالت بكامل صلابتها رغم طبقات التكلس ،تجعلني وبلا وعي أتفقد أسناني المريضة دوماً ،اغبط خلو ذاكرتها من زيارات الطبيب البغيضة ،خصلات شعرها برية تماماً ،ومع ذلك أرشدها منطق ما لتجمعه ذيل حصان يضرب ظهرها ،كأنها خرجت من البيت قبل خمسة عشر عاماً ولم تعد ،بنطلون جينز كالح ،وشبب بلاستيكي،الوحيدة المبتسمة طوال الوقت سواء منحتها مالاً أو شحت عن قذارتها ،تتنقل ببطء بين السيارات المنتظرة على الإشارة الضوئية ولا تلح بالاستجداء ،تقول صديقتي :لازالت متسولة هاوية لم تحترف الإلحاح بعد.
تزعجني العبارة وشقوق قدميها تكاد تكون بخشونة الشارع، أفكر في تلك اللحظة:سأهديها معطفاً وحذاءً قبل حلول الشتاء..وأنسى كما ننسى جميعاً.
في صباحٍ أنيق جداً تهيأ لي يكذبه حضورها ،يمنحها أحد الكرماء فنجان قهوته الورقي ،تترك الشارع والأيدي ممدودة لها بالحسنات / تضحكني هذه الكلمة،اشتراط الثواب مسبقاً وتجميع أرصدة صغيرة في بنك ضخم لا مرئي وموثوق به جداً .
تجلس على الرصيف، بلذة هائلة تنزع الغطاء وترميه كطفلة، وتغب بسعادة بالغة - كأنها ملكت الدنيا – متجاهلة الأيدي الممدودة بكرم مقنع، تضحك وتضحك.. تحدق بالدائرة التي صنعتها بساقيها، تدلق ما تبقى من قهوة متخثرة في دائرتها تمد إصبعها وتلحس من كوبها الورقي ما تبقي ،السائق الذي يقلني يتذمر من سوء تصرفها ،سيدة بكعب عالٍ تبتعد كالمذعورة خائفة أن ترشقها بالكوب ،شاب أحمق ينهرنها ويطالبها أن تغادر وتعود للبيت ويتمم غاضباً وهو يرمي لها بقطع نقدية تنفرط كقلادة وأعدها ،خمسة.
أتكور في مقعدي ولا أهبط لنجدتها، لماذا علي أن أعبث باكتمالها ؟
يكفي أن امنحها كلما اقتربت مني، أبرر لنفسي وأبلع ما تبقى من أسئلة والمخدر يسري في شفتي وطبيب الأسنان ينتزع خلايا العصب من الجذر، يضحك الطبيب ولا يجيب على سؤالي:هل من ذاكرة متراكمة للألم ؟
هذا الصباح تعثرت بلحنٍ مبتور ، وامتلأت روحي بكومة أجنحة منتوفة الريش، كلمات مرتبكة تسد الحلق ،وسبع قصائد ملفوفة بشالٍ سرقت نهاري فلقد كانت نسخة عتيقة فقط .
في الطريق وجدتها تمسح غباراً علق بنافذة سيارة فارغة ومتوقفة، حافية وذيل حصانها منفرط على كتفيها، لا تضحك كالعادة، ولا تمنح أحداً من المارة ابتسامة ولا تمد يدها، تابعت عملها بهمة ،مجازة من وظيفتها الصباحية،نائمة بما يكفي لا يعكر صفو عينيها فساد الليل واحتشاد الأجنحة المعطوبة في يدها ،لا يزعجها زعيق السيارات ولا فضول المتأنقين ،لا تنظر للسماء فرحة بالمطر ،ولا تنظر للأرض باحثة عن نهاية ، لا يهمها سقوط أسنانها الأمامية وقبح فمها ،لا تفسر وتحلل نظرات الجميع لها .
شابة بماكياج ثقيل يكاد ينقط على أطراف منديلها حزينة تلتصق بالنافذة ،رجل بشعر شديد اللمعان يتأمل نفسه في مرآة سيارته ،امرأة تضع أحمر شفاه وترتب خصلات شعرها، منقبة تكتشف أن نقابها ينزلق قليلاً عن جفنها فتعدله،رجل يرتب شاربيه بمشط صغير ،شابُ بربطة عنق رمادية يعدل ياقة قميصه الأزرق .. متأنقون ومتأنقات يلهثون نحو أعمالهم ..
تسير وقد أنهت تلميع زجاجها بينما الجميع ينتظر أوامر الشارة الضوئية، يتسول الجميع نهارهم بماكياج صارخ وصباح متقن التوقيت..وتمضي هي بكامل حريتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا