الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النتائج النفسية للاحتلال ـ العراق مثالا

محمد الحاج ابراهيم

2005 / 1 / 5
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كل المجتمعات البشرية عبر التاريخ قديما وحديثا عاشت نظما معينة من العلاقات القائمة على ثقافة هذا المجتمع أو ذاك ،التي كوّنت خصوصيته وبالتالي شكّلت كيانه الثقافي والسياسي ،فاتفق أهله((الناس العاديون)) به لتحقيق مصالحهم الاقتصادية ،بتأمين حاجاتهم وزيادة رفاههم إن أمكن مع بعض الضمانات الأخرى ،واحترام تغايرهم الثقافي على قاعدة الحرية الشعبية البسيطة المعاشة، التي تعتمد مبادئ دينيه إيمانية وليست سياسية(كل من على دينه الله يعينه)واقتصادية بسيطة(الله هو الرزاق)وغيرها وغيرها،واختلف أهله((السياسيون))على حكمه بتعبيد طريق التناحر، خاصة في المجتمع الذي وكأنه لم يمر عليه مفهوم أو صيغة لعقد اجتماعي بمشاركة أبنائه ،لصياغة قانون يُشكّل الدولة التي تُوزِّعُ المهام دون مؤامرة تؤدّي بهذا المجتمع إلى نزاعات بين أبنائه تصل حد الاستقواء بالخارج ،فيتعاقد المستقوي والمستقوى به لتحقيق مصلحتهما بتنصيب الأول زعيما وتجريف الثاني لثروة هذا البلد وثقافته كما فعل جورج بوش بالتراث الثقافي العراقي مُجددا عصر هولاكو عدو الثقافة،بحجة دعوة المُستقوى به من قِبَلْ الشرعية الثورية ،أو الشرعية الدستورية لحاكم هذا البلد أوذاك ،أو شرعية المعارضة التي تفترض نفسها مُمَثِّلَةً للواقع.
العراق من أفظع الأمثلة لهذا النموذج،إذ ضاع بين ساديّة حاكم ظالم واستقواء حاكم أظلم بالخارج، وفي الحالتين دفع المواطن العراقي العادي ثمنا للزعامة بتهميش القانون(إنتاج العقد الاجتماعي) وتفعيل الدستور(إبداع الدولة الأمنية)، باسم الشرعية الثورية أو الشرعية الدستورية أو شرعية المعارضة،فكان التدمير بدرجة مرعبة والقتلى بأعداد أدّت إلى خلل في بنية المجتمع النفسية ،وحُكم هذا المجتمع بالانتقال من الديكتاتورية إلى الاحتلال ،فتفضّلت عليه الأولى بزرع ثقافة الخوف لدى المواطن وتعزيزها بممارسات دولة المخابرات الشنيعة بحق المواطن ،الذي يسعى للقمة العيش والاستقرار والأمان له ولأطفاله ،لكنه كان يدفع ثمنا غاليا تكلّفه أحيانا حياته لمجرّد الشبهة،هذا المواطن الذي يمُثِّلُ صوتا في المجتمعات الطبيعية غير الخاضعة لأجهزة المخابرات ،وتفضلت عليه الثانية بمضاعفة زراعة الخوف وما نتج عنه من اهتزاز بالمعنى العصبي للعراقي. التفجيرات اليومية التي تتم في كل مكان وأي وقت لمواجهة آلة الحرب الأمريكية من قبل قوات المقاومة العراقية الباسلة،والتفجيرات التي تقوم بها القوات الأمريكية مع الموساد الإسرائيلي في الأحياء والأسواق المزدحمة بالسكان لإظهار المقاومين بأسوأ الصور التي تمنع المجتمع من دعمها،ذلك كله أدّى لاختلال الثقة بين المواطنين والقوات العسكرية العراقية الجديدة التي تم تشكيلها للقيام بمهام الشرطة والجيش ككل بلدان العالم،أزمة الثقة هذه هي صناعة اتفق عليها المحتل وإسرائيل لترويجها في العراق،ويعملان على تعزيزها في المجتمع العراقي بغاية خلق الفوضى،فظاهرة الملثمين والذبح ليست من شيمنا ولا من تقاليدنا العربية والإسلامية ولم يذكر تاريخ العرب والمسلمين أي فعل من هذا القبيل، ،لكنّ أمريكا هي التي أمّنت الشروط الطبيعية لتحقيق المناخ الملائم لإبراز مثل هذه الظواهر عالميا بسبب الظلم التي ساعدت على وجوده في فلسطين ومعظم بلدان العالم وروّجت لظاهرة العنف عبر الإعلام لأكثر من غاية ،الأولى إظهارنا قَتَلَهْ وبرابرة ،وهي رسالة لشعوب وحكومات العالم للحصول على الاستحسان وتبرير الاحتلال ،والثانية إيصال المجتمع إلى رعب لم يشهده حتى أيام صدام،وبذلك يكون المجتمع قد وصل إلى حافة الهاوية على الصعيد النفسي والتي تمنعه من مجرد التفكير بالعداء لاسرائيل ،وهو مخطط له إسرائيليا بغاية عدم التجرؤ على ضرب إسرائيل مرة ثانية كما فعل صدام في حرب الخليج.
الخوف هو الوضع الوحيد المختزن في ذاكرة وأعصاب العراقيين،ليس من مخابرات الديكتاتور بل من الموت القادم مع القوات الأمريكية ،والإنسان بطبعه يعشق الحياة،لكن الملاحظ أنه كلما قامت عملية بطولية للمقاومة ردت القوات الأمريكية بتفجير يُقتل فيه مواطنين أبرياء في حي أو سوق ويتهمون المقاومة به وهكذا،والمهم أن الخوف أصبح محفورا في الأعصاب وصار العراقي مدني أم عسكري بوضع المتحفز ضد الوهم الذي يمكن أن يكون مواطنا ،ووضع الإصبع على الزناد بجاهزية عالية أحد المهام الأساسية لمواطن في مجتمع مُستباح ،فلم يعد هناك تفكير ببناء عراق جديد كما يزعم البعض من أهل الحكم المستورد ،بقدر الخوف من الموت الذي يُمثّل الاتجاه الوحيد عنده ،وأصبحت آلية الدفاع عن النفس ميكانيكية بالنسبة له ودون أدنى حدود التفكير ،وبالتالي عمّت الفوضى المخطط لها أمريكيا ،وتشرّد من العراقيين أعداد كبيرة توزعت على دول الجوار خوفا من الموت ،وحمل هذا الشعب الجريح صفة التشرّد الذي غيّر في بنيته النفسية من المانح إلى الطالب ،وأصبح تحت رحمة الحاجة والعطف من الآخرين بعد أن كان أسدا في قلعة الأسود .
الدولة الأمنية تزرع الخوف والموت لكنها تتحكم بهما رغم خوفها من خصومها ،أما في العراق فالحالة مختلفة ،إذ أن شكل الصراع يزهق الأرواح بأعداد كبيرة من قبل الجميع أمريكان وعراقيين في السلطة والمقاومة بشتى صنوفها وأشكالها وعراقيين عُزّل،مايجعل الاضطراب العصبي والنفسي يشلّ دماغ وأعصاب الإنسان العراقي حاكما ومحكوما ، وبمرور الزمن تعززت هذه الحالة البائسة لمجتمع الخوف ،و تشكلت كل مؤسساته على هذا الأساس ،وأسس لقاعدة الشك المرضي الذي يُفقد المجتمع كل مقومات التشكل الطبيعي ،وحل محلها لغة وثقافة التوجس ،وكوّنت بداية لنهاية دولة تُسمّى العراق ،إن لم يكن هناك حلا أفضل وأسرع للجميع. الرعب المتبادل بين المواطن المدني والعسكري أفقد هذا المجتمع خصوصية الالتحام ،فالعسكري في العقل العراقي العام اليوم هو مأجور وليس حامي الحمى ،ولا يُستغاث به كما العسكري في وعي الناس في العالم كله،إذ أن أمريكا نصّبت رجالا وأنشأت مؤسسات مدنية وعسكرية موالية ،وأحكمت شرخا بتقديري يصعب معالجته، وبذلك يكون المجتمع قد انتقل من الديكتاتورية إلى الديمقراطية الأمريكية الخارجية صانعة الديكتاتورية الجديدة، ولم يتغير على المواطن إلا شيئا واحدا أن الديكتاتور السابق رغم سوءه استطاع أن ينظم علاقات المجتمع بينما الديكتاتور الجديد لم ولن يتمكن من ذلك ،لأنه أساسا فاقدا مقومات التنظيم لدولة كانت وصارت.
حتى اللحظة لم يأخذ الصراع شكلا طائفيا رغم محاولات قوات الاحتلال التفجير السرّي لمساجد وكنائس العراقيين وذلك بفضل الوعي الوطني الذي تمتّع به الشرفاء من أبناء العراق ومن كل الطوائف والاتجاهات وهذا ما نشكر الله عليه،وما هو ملاحظ أن هناك يقظة من هذا المطب ،لأنه لو بدأ يعني اللاعودة،وحتى تعود الثقة المفقودة بين الجيش المهتز بفعل التناقض الداخلي للفرد فيه على قاعدة التطوع من أجل لقمة العيش ،والشعور بالخيانة من جراء هذا التطوع التي بدأت مظاهرها بثلة من العسكريين الذين رفضوا المشاركة في الهجوم على الفلوجة ،وبين الشعب المهتز بفعل الضغوط النفسية عليه من قبل قوات الاحتلال الأمريكي والقوات العراقية المساعدة، والتي تعاني من اهتزاز كما ذكرت فلابد من إنهاء الاحتلال،أذكر بالمناسبة أن هذا الوضع عاشته فيتنام مع الفارق بين مقاومة نظامية عامة قائمة على التنسيق العام بطول الأراضي وعرضها بقيادة هوشي مِنَهْ وعملاء للأمريكان كانوا يُشكّلون بنية نفسية وذهنية للعمالة وكانت النتيجة بحكم قوة المقاومة العامة وتنظيمها أن تم دحر المحتلين مع عملائهم وتحرير فيتنام بكامل أراضيها ورحل العملاء على سفن المحتل إلى الأبد بينما العراق يعاني أكثر من مشكلة منها أن المقاومة ليست نظامية وعامة وتفتقر إلى التنسيق والقيادة الموحدة وحركتها لاتشمل كل الأراضي العراقية وليس جميع المتعاملين مع أمريكا هم نتاج بنية عمالة بل بعضهم من رموز عائلات العراق الوطنية التي لم تستفق بعد من حساسيتها من ظلم النظام المنهار لتبدأ مشاركة أهلها في المقاومة لمحتل صنع التشرد للرجل والمرأة والطفل وسعى لتعزيز الشروخ في المجتمع على أكثر من صعيد وأفقر الشعب المقهور أساسا وقتّل منه الكثير وحتى تُعالج أزمة الثقة هذه لاطريق إلاّبدحر الاحتلال عبر مقاومة عامة قائمة على التنسيق والتنظيم بقيادة موحدة على كل الأراضي العراقية وذلك يحتاج إلى زمن لمعالجة الحساسية المفرطة عند البعض من المواطنين العاديين من مظالم ومآسي النظام السابق حتى يُدركوا أن القتال في سبيل تحرير الوطن لا يرتبط بنظام حاكم ذهب أدراج الرياح بل هو واجب يمليه الشرف الوطني لكل من ينتمي إليه ويحمل هويته والمقاومة العامة هي التي تفرز العميل البنيوي عن غيره من المتضررين من نظام صدام والذين لازالوا يعيشون هاجسه،ولابد من إجراء انتخابات يتفق عليها جميع أبناءه دون استثناء مع إعطاء الفرص للجميع مراعاة لأوضاعهم وأحوالهم وذلك بعد زوال الاحتلال ،لأن ظلُّ الاحتلال لا يُوفّر غير الخلل المدني والعسكري في هذا المجتمع العريق ثقافيا لمنعه من النهوض من جديد بحرية ،وقرار الاحتلال إنهاضه على طريقته بحقنه بالكوكا كولا والهمبرغر ،وإنشاء مطاعم ماكدونالد له وهو محروم من الأمن وأدنى الحدود الغذائية والصحية الضروريتين لتحويله إلى أتفه أشكال الاستهلاك وهي صورتنا عندهم .
أزمة العراق لم تعد شروخ سياسية فقط ،بل تحولت إلى شروخ نفسية اجتماعية بين أبناءه وتعمقت منغرزة في الواقع ،ناظمها التوجس خارج الإطار الذاتي للفرد والملة والاتجاه ،وهذا أخطر ما يواجهه مجتمع،التوجس من أخطر الأمراض الفتّاكة لأي مجتمع كان،وليتصور أحدنا وضع مجموعة يُشكّك أفرادها ببعضهم وموتورين من بعض،كيف ستكون حالهم في الوضع العادي،وكيف سيكونون في حال ملكوا سلاح؟…إنها النتائج النفسية للاحتلال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيلين ديون تكشف عن صراعها من أجل الحياة في وثائقي مؤثر


.. -هراء عبثي-.. شاهد رد فعل مؤرخ أمريكي على الديمقراطيين الذين




.. نيويورك تايمز: تجاهل البيت الأبيض لعمر الرئيس بايدن أثار الج


.. انتخابات الرئاسة الإيرانية.. مسعود بزشكيان




.. بزشكيان يحصل على 42 % من أصوات الناخبين بينما حصل جليلي على