الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السؤال ؟؟ )

أمجد الرفاعي

2005 / 1 / 5
الادب والفن


(قصة
ما إن خرج(مخزوم)من بوابة (الجامعة)،حتى افترسه قيظ شديد الوطأة.
كانت الشمس تصبّ حممها على الرؤوس.وكانت الأرض بدورها تردّ لها الصّاع صاعين!.فكأن آلهة السماء وأبالسة الأرض في صراع ناري عنيف!.
أو..هكذا خُيل لـ(مخزوم)الذي كان من عادته حين يجد نفسه في مثل هذا الوضع أن يطلق قبضته في وجه السماء بإشارة بذيئة،ثم يبصق على الأرض بحنق وهو يدمدم:سحقاً لكل شيء!.
"سحقاً لك شيء؟!".
لا.ليس تماماً.فـ(مخزوم)لم يكن على هذه الدرجة من السخط دوماً.فهو يعتقد بأن هناك الكثير من الأشياء جديرة بالحياة فعلاً.وعلى سبيل المثال:فهو يعشق الفراشات الملونة،والمروج الخضراء،وأشعار الغزل.
كما يحب الشوارع النظيفة،وإن لم تتح له الفرصة كي يتجول عليها.إلا أنه كان يتخيلها موجودة فعلاً، في أمكنة ومدن بعيدة جداً،حيث تلمع زاهية بعد سقوط مطر الخريف.وعندما يلجأ الناس إلى بيوتهم،فإن العشاق يجدون في ذلك فرصتهم كي يتنفسوا،وحدهم،نسائم الخريف النقية،ثم يسترقون القبل تحت حبات المطر.

كثيرة هي الأشياء التي يعشقها(مخزوم).وحين يهتف يجملته(سحقاً لك شيء)فإنه يقصد،فيما يقصد،أسراب الذباب،وقوافل الجرذان التي ترتع في المدينة،وقشور البطيخ التي تملأ الشوارع.إضافة لأشياء كثيرة لايمكن ذكرها هنا،لأن ذلك من شأنه إغضاب من يملكون القوة لسحق فراشاته الملونة،وأحلامه الجميلة.

كان العرق يتصبب من ظهره وإبطيه حين وصل في سيره تحت الشمس اللاهبة إلى بوابة(المتحف).حيث كان الماء البارد يتدفق مغرياً من صنبور(ماء السبيل).ويتحلق حوله حشد من الناس المتلهفين لجرعة من هذا الماء علها تخفف من حرارة أبدانهم اللاهبة.
هو نفسه لم يعرف كيف تطور الموقف،وأصبح في غمضة عين مبعثاً للذعر والاضطراب لهؤلاء الناس الطيبين!.
فقد جعلته قوة خفية هائلة يقتحم الأجساد الظمأى،ويدس رأسه تحت الماء المتدفق وهو يلهث،وسط احتجاجات الناس وسخطهم.إلا أنه لم يسمع لغطهم بتاتاً.فقد كان يعيش في تلك اللحظة،عالماً كل أشيائه ينابيع وأنهار وبحيرات باردة.
وحين استطاعت كل هذه المحيطات المائية أن تخفف من سعير رأسه،انسل متراجعاً بخفة عن هؤلاء المتزاحمين.

الحركة التالية كانت،كما في فيلم خيالي،أن دفعته القوة العاتية ،الغامضة نفسها كي يخلع قميصه القطني الرقيق،وينشف به شعره الأجعد المبلول!!.
وعلى مايبدو،فإن القوة الخفية قد اكتفت بهذا القدر من (التعري!)،ولم تدفعه كي يخلع ملابسه كاملة،ويمارس عملية استحمام على مرأى من الأعين المحدقة به!.
وفي الواقع،فقد كان(مخزوم)قاب قوسين من ذلك لولا.....!

"ياللعار!!".
ثقبت زعقة امرأة،على حين غرة،طبلة أذنه.وحين انتبه للمرأة،شاهدها تغطي بكفها مساحة وجهها المذعور،وتشير باليد الثانية المرتجفة إلى جذعه الأسمر المهزول!.
وثمة نساء أخريات متلفعات ببراقع سوداء،رغم الحر،سارعن بالركض مبتعدات،وهنّ يطلقن ولولات شيطانية،كأنهن شاهدن خصيتي الاله العظيم ذاته!!.
وتنحنح عجوز يرتدي بذلة رسمية ،ويضع ربطة عنق ،ثم ابتعد وهو يشير بيديه اشارات لامعنى لها.
وتضاحك صبيان شقيان بالقرب منه،وأخذا يرمقان جسده بخبث!.

لم يجد(مخزوم)تفسيراً لكل هذا الهرج.ولا أن يعرف سبب هذه الاشارات الغامضة إلى جسده!.
استطلع جسده..بطنه..صدره..فتش جيداً تحت إبطيه،فلم يعثر على سبب وجيه يدعو لكل هذه البلبلة.فقد كانت كل أعضائه في مكانها سليمة كما عهدها...و..
وحطّت فجأة على كتفه كفّ ثقيلة ،ثم انزلقت بعيداً لتعود من جديد وتهوي بصفعة مباغتة على صفحة وجهه المندهش!.
انبعثت من عيني(مخزوم) في تلك اللحظة،آلاف الأسهم النارية والشهب.
ومن مكان بعيد،ربما من مدينة شوارعها نظيفة،أتاه السؤال مترنحاً:
-ما هذا؟!..ماهذا؟!.

مضى زمن أطول مما يلزم الرب كي يصنع كرة أرضية ثانية،حتى استطاع(مخزوم)أن يستوعب السؤال الذي قذفه به الشرطي اللطيف مع صفعته النارية.
همس (مخزوم)بصوت أبح:
-لم تضربني؟!
-ألا تستحي؟،ألا تخجل من نفسك وأنت تتعرى في مكان عام؟!.
كانت الوجوه المتجمعة حوله،تتدافع،مشوهة،منبعجة،فاتحة أشداقها على سعتها،ضاحكة،صاهلة:
"مجنون..وجنون..مجنون".

الجماهير المحتشدة تهتف..تحمل أعلاماً ملونة وصوراً..الميكروفونات تطوف الشوارع والأحياء معلنة عن انجازات ضخمة..وسائل الاعلام تتحدث بحمية عن حقوق الانسان والحيوان والآلهة والشياطين وبنات آوى وبنات نعش وبنات كلب!.
"مجـ..نون...مجـ..نزن...مجـ..نون..!".

انتبه(مخزوم)إلى أن الشرطي لم يجبه على سؤاله،فصرخ من جديد بأعلى صوته:
-لم تضربني؟!..لماذا؟...لماذا؟..
لم ينتظر أية إجابة.بل انقض كمن أصابه مسّ،على الجدار القريب وبدأ يخبط رأسه به كطير ذبيح.
بعد أن تهاوى(مخزوم)على الأرض ميتاً،وفاقداً إلى الأبد عشقه للفراشات الملونة،والحقول الخضراء المترامية،شاهد الناس أن بقعة الدم التي نزفت من رأسه،قد رسمت على الجدار إشارة استفهام كبيرة!!.
*******

فيما بعد.ضمّت(دائرة الآثار)بقعة الدم تلك إلى قائمة ممتلكاتها الأثرية.وبامكانكم اليوم،إذا شئتم،أن تزوروا المتحف ،وأن تشاهدوا على الجدار المنتصب بجوار صنبور المياه،إشارة استفهام خضراء،رسمتها بقعة دم كبيرة!!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل